بقلم الدكتور العيد بوده
هو العلامة محمد بن عبد الله بن لكبير، من مواليد 1911م، بقرية لغمارة بمنطقة بودة الواقعة على بعد 25 كلم غرب ولاية أدرار.
نشأ شيخنا رحمه الله تعالى في أحضان عائلة دينية علمية؛ حيث كان أبوه رحمه الله من حملة كتاب الله، ومن المشهود لهم بالخير والبركة، كما كان عمه إماما ومعلما بمسجد القرية، وكان خاله سيدي محمد بن المهدي فقيها وصوفيا من أعيان عصره بقصر (بني لو) ببودة أيضا.
حفظ شيخنا بلكبير القرآن الكريم ، على يد الطالب عبد الله المعلّم بمسجد لغمارة. و أخذ على يد عمه الإمام، المبادئ الأولية في علوم الشريعة؛ من متون الفقه والنحو والعقيدة في سن مبكرة. وقد كان لهؤلاء الفضلاء الأثر الكبير في تنشئته المتميزة، وتربيته الكريمة، وإعداده للصبر والمثابرة في طلب العلم، مما هيَّأه لتحمّل الغربة ومفارقة الأهل في سبيل التعلم.
رحلاته في سبيل التحصيل العلمي
لقد كانت أول رحلة علمية له رفقة أبيه اٍلى تمنطيط؛ ليتتلمذ على يد العالم الشيخ سيدي “أحمد ديدي” الذي أخذ عنه علوم الشريعة والعربية و التوحيد والفقه والحديث والتصوف وتفسير القرآن والآداب والنحو وغيرها، كما اتصل خلال ذلك بالكثير من علماء وقضاة المنطقة ، أمثال سيدي عبد الكريم الفقيه البلبالي بــبني تامر والشيخ محمد بوعلام بمولوكة، والشيخ محمد بن عبد الكريم البكري..
أما رحلته العلمية الثانية، فكانت إلى تلمسان، حيث استأذن شيخه بالذهاب للقاء الشيخ سيدي “بوفلجة بن عبد الرحمن” شيخ الطريقة الكرزازية (الموسوية الشاذلية نسبة للشيخ سيدي أحمد بن موسى رحمه الله) القاطن آنذاك بتلمسان، فأخد عنه أوراد الطريقة، وتدارس معه بعض مسائل الفقه ومختصر خليل، وقد اشتغل أيضا بتحفيظ القرآن الكريم وتدريس الفقه والتوحيد بالعريشة ثم المشرية.كما كان له اتصال بعلماء تلمسان المعاصرين له.
توجه الشيخ بلكبير في رحلته العلمية الثالثة إلى المغرب الأقصى، حيث زار جامع القرويين بفاس وجالس علماءه وأخد عنهم.
مسيرته التعليمية
عاد الشيخ إلى مسقط رأسه ببودة بطلب منه والده في أواخر الأربعينيات ، وقد دُعِيَ بعدها إلى بلدة تيميمون، أين أنشأ مدرسة دينية بتمويل من بعض المحسنين، ساهم خلالها في نشر الثقافة الإسلامية من تعليم كتاب الله، وتدريس العلوم الشرعية، والمساهمة في التقليل من ظاهرة الأمية المنتشرة آنذاك في أوساط الشعب الجزائري، جراء التجهيل الممنهج الذي اتَّبَعَهُ الاستعمار الفرنسي لطمس مقومات الشخصية الجزائرية وثوابتها. ثم عاد بعدها إلى بودة من جديد، وشرع بالتعليم والتدريس قرب منزله، ولازالت آثار هذه المدرسة في بودة شاهدة على جهوده النيرات.
ثم دُعي بعدها إلى مدينة أدرار، وأنشأ مدرسة دينية أيضا، وتولىّ الخطابة والإمامة والتدريس بالجامع الكبير. وحرص على توسيع المدرسة سنة بعد سنة، مع توفير إقامة سكنية للطلبة والتكفل بهم على نفقته وتبرعات المحسنين. ومنذ إنشائها سنة 1949م استقطبت مدرسة الشيخ سيدي محمد بلكبير، الطلبة من داخل الوطن الجزائري وخارجه، على غرار ليبيا وتونس ومالي والنيجر وموريتانيا،ومنها درس وتخرج الكثير من المشائخ والطلبة، الذين حملوا مشعل العلم بعده،نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:
الشيخ الحاج سالم بن إبراهيم (الإمام الخطيب بالجامع الكبير وعضو المجلس الإسلامي الأعلى) والشيخ سيدي الحاج حسان الأنزجميري -والشيخ الحاج عبد القادر بكراوي، وابن عمه الشيخ عبد الكبير بلكبير. وصهره الشيخ عبد الله عزيزي. والشيخ الحاج أحمد المغيلي. والشيخ مولاي التهامي غيتاوي (عضو المجلس الإسلامي الأعلى)، والشيخ الحاج عبد الكريم الدباغي. الشيخ مولاي عبد الله الطاهري، الشيخ محمد بوقندي بتسابيت أدرار، الشيخ أوكادوا الصالح بأوقروت والشيخ الحاج أحمد المكي.. وغيرهم كثير.
وفي مدرسة الشيخ تأسس المعهد الإسلامي سنة 1964م بأدرار، وطيلة تلك السنوات ،كان رحمه الله تعالى يضرب أروع الأمثلة في القيام بالواجب ونكران الذات،والإحساس بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، فاجتمعت فيه خصال الخير الجامعة، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا
ولم يُعْرَف عن نهجه التعليمي التشدد والتكلف ، وإنما كان نهجا علميا بعيدا عن التواكل والخرافات منارة للعلم والاعتدال والتسامح. ومنصة دينية لنشر المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية الصحيحة .
وقد تحصل رحمه الله على الدكتوراه الفخرية من جامعة وهران. ونال عام 1999م، وسام الاستحقاق من رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة.
توفي الشيخ بلكبير صبيحة يوم الجمعة 16 جمادي الثاني سنة 1421هـ الموافق 15 سبتمبر 2000م. عن عمر ناهز 89 سنة، وصلى عليه نجله الحاج عبد الله، وبحضور رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، وعدد من إطارات الدولة، وقد ألقى كلمة التأبين يومها تلميذه الأكبر الشيخ الحاج سالم بن إبراهيم، كما حضر الجنازة نجله الثاني سيدي أحمد، وأحبابه وتلامذته الذين جاؤا من كل صوب، وفج ، ليشهدوا جنازته، في يوم مهيب، وموقف عصيب، وحشد عظيم غص بهم المسجد الجامع والشوارع المتصلة به..
لقد ارتحل إلى جوار ربه ذلك العالم الرباني العظيم ، بعد أن سار طويلا على طريق الحق، ولا ريب أن ارتحاله أعقب فراغا جسيما في بلادنا وفي نفوس محبيه، ولكن عزاءنا الوحيد هو وجود بقية صالحة من تلامذته من أهل العلم والفضل، ينتشرون في كل أنحاء الوطن وخارجه. يسيرون على نهج وخطى الشيخ الجليل محمد بلكبير رحمه الله.