الناقد لحسن بنيعيش
صدرت رواية “بين اللحاء و اللحى” للكاتب علي عديدو، باكورة أعماله في ط/ 1فبراير 2020 م عن مطبعة: Net Impression Éditions ورزازات / المغرب.
و ارتبط ظهور الرواية بسياق اجتماعي و ثقافي و مناخ عالمي شديد الخصوصية، ألقى بظلاله على المغرب: الفكر المتطرف و التنظيمات الإرهابية. تقع الرواية في 153 صفحة من حجم 5A، وبين فضاءات: البلدة، مراكش، فاس، الرباط، قصرالسوق، يعقوب المنصور، القنيطرة، الحانات و المقاهي و الفنادق الفاخرة (شاطئ الأطلسي و فندق المامونية) و النادي الليلي، بلاطوهات التصوير، و المركز التجاري، و ساحة جامع الفنا، تدور أحداث الرواية حول محاولة اغتيال النجم الفرنسي “باتريك” و هو في جولة وسط المدينة القديمة يتناول وجبة عشاء بمطعم شعبي رفقة عمر كصديق في آخر ليلة يغادر في اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية، منتشيا بنهاية تصوير فيلم بالمغرب. و في زي امرأة تنكر حسين لينفذ العملية، لكن يقظة الضابط عمر جعلته يتصدى و ببطولة -عز نظيرها- لحماية “باتريك” فأشهر مسدسه في وجه شقيقه. و بين الواجب المهني و قرابة النسب، و في نهاية قاسية رصـاصـة مـن أحـد مساعديه تحول حسين جثة مضرجة بالدماء وسط الساحة… لتعود أحداث القصة إلى استرجاع الطفولة و النشأة و اليتم و الدراسة التي فشل فيها حسين و نبغ فيها عمر الذي توج مساره التعليمي بإجازة في الحقوق من فاس، أهلته للنجاح في مباراة ضباط الشرطة و بعد تخرجه من القنيطرة عين مباشرة بولاية أمن مراكش، ثم تكليفه على رأس فرقة أمنية بالحراسة الخاصة لباتريك. بينما حسين يتخبط في عالم موبوء و مستنقع آسن من التهتك و الخلاعة و الإتجار في المخدرات و الليالي الحمراء، سرعان ما تحول 360 درجة إلى تطرف أعمى (الإعتكاف للتدريب مع الجماعة)، ليباشر أول عملياته بقتل السعيد في بيته خنقا بنية إصلاح مجتمع كافر. و من البلدة ينطلق كالسهم في اتجاه مراكش و بمعنويات مرتفعة لتحقيق إنجاز أعظم؛ التصفية الجسدية للنجم الفرنسي “باتريك” في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لم يكن القصد تلخيص أحداث القصة و الإحاطة بمحتواها؛ بل الغرض تشويق القارئ لقراءتها. و مما أثارني و أنا -أستمتع بسبر أغوارها- حضور الأم اللافت للإنتباه، فجعلت مدار المقاربة النقدية: “مركزية الأم في الخطاب الروائي عند علي عديدو”.
ورد لفظ الأم 62 مرة و الوالدة 64 مرة في المتن الروائي أي 126 مرة و بصيغ مختلفة: معرفة بال (الأم / الوالدة) مضافة إلى الضمير (أمه / والدته، والدتها، والدتهما) مقترنة بوصف (الأم المسكينة، المغلوبة، العليلة، المكلومة) نكرة مضافة إلى علم (أم عمر) و لم تضف إلى غيره. مقترنة بضمير
المتكلم (أمي / اميمتي) و نكرة موصوفة )أما ثانية(. هذا دون احتساب حالات
الإحالة عليها بالضمير المستتر “هي” العائد عليها، أو الضمير المتصل “ها”.
إن الانتقال من المظهر التركيبي إلى الإنتاج الدلالي يجعلني أجزم – و بالثقة الكاملة- أن تكرار ملفوظ )الأم / الوالدة( و بالصيغ المختلفة السابقة ينطوي على سر ما، و أنه وظف لغاية ما، و لم يتخذه الكاتب هزؤا، و لا تأثيثا مجانيا لروايته.
و لئن كان عمر لا يعرف للموت كنها لصغر سنه (ربيعه الخامس( فإن الأم كطائر العنقاء تنبعث من رماد الموت؛ “بعد وفاة الأب تكلفت الأم برعاية الأسرة الصغيرة إعالة و تربية” ص 15.
هكذا استطاع الكاتب أن يجعل من الأم قائدا ميدانيا ناجحا: ترسم الغايات الكبرى “الرعـاية الأسـرية” فتحولها إلى أهداف محددة: الإنفاق و التنشئة، و منها إلى سلوكات عملية و إجرائية: “اعتادت الأم أثناء عودتها من مكتب البريد أن تعرج على السوق المغطى، لتقتني منه ما لذ و طاب، رغم هزالة المعروض” ص 17 “إذا بالوالدة قادمة من السوق تتهادى بين سلتين و قد ناء بها حملهما” ص 46 “استنفذت والدته كل السبل لتثيبه إلى رشده بالترغيب تارة و بالترهيب تارات” ص 20.
لم أجد وصفا فيزيولوجيا للأم مطلقا على مسار الرواية، فعلمت أن مؤهلات القيادة: نفسية و روحية و عملية بالأساس: “كانت بوعي فطري فريد” / “كل صلاة تؤديها، و هي تدعو في ابتهال و تضرع” ص 16 “بحدس الأمومة و فراستها التي لا تخطئ” ص 47 “و أردفتها بأدعية” – “طار قلبها فرحا” – “و تستغفر في تذلل و انقياد لمشيئة الله و حسن تصاريف قدره، هي الجرعة التي تستقوي بها لمجابهة ما يحبل به الدهر من نوائب” ص 79.
حسن التدبير و الحكامة الجيدة في تسيير المعاش الهزيل و الحفاظ على التوازنات بين الضروريات و الكماليات: “في مجازفة كانت الأم تحسب ألف حساب قبل الإقدام عليها بما قد تخلفه من اختلال في ميزانية الأسرة، قد يصل مداه إلى أخر الشهر” ص 17.
فأم بهذه المكانة تجعلنا ندرك لماذا غطت مساحات شاسعة من الخطاب الروائي، بل كانت العصب الرئيس في تفاعل الأحداث و تشابكها، حتى في اللحظة الأكثر دراماتيكية في الرواية تنتصب الأم ليتوقف الزمن. و حضور كهذا يذكرني بحضور لالة الغالية في “لعبة النسيان” لمحمد برادة: “تبدو الدار و كأنها لا تمتلئ إلا بالأم لالة الغالية و هي في لحظات صمتها و تفكيرها إلى أعماق الدار، و تمتزج بزليجها و سواريها، تنغرس في حمامها المهجور وإسطبلها و ردهاتها: ظلا حاميا للدار تصير” [1] و بحضور لالة هنية في “أقليما” لسلام احمد ادريسو: “هي من تقرر وحدها لن تتراجع.. وحدها من يصنع الماضي و الحاضر و المستقبل يعلمه الله و لكنها أيقونة محتملة بقوة فيه” [2] و الأم في “أحلام مؤجلة” لحسن بنيعيش: “الزواج إن حدث يوما فلن يكون إلا لصالح أجمل أم تسهر على راحتها بعد ما قاومت في صنع الرجال و مواجهة العاصفة” [3] .
و من تداعيات هذه المكانة قوة الارتباط بالقائد و الزعيم )الأم( و يتجلى ذلك واضحا: “فقد كان شديد التعلق بوالدته مثلما كانت هي لا تطيق فراقه” ص 17 “يرافقها كالعادة لزيارة قريب أو قضاء مأرب” ص 18 “عاد رفقة والدته الى البلدة” ص 41 “يغالب بكور شوقه لوالدته” ص 85 “اشتاق إلى أمه” ص 83. أم عمر / والدة عمر وكأني بها لم تخلق لغيره، أكاد أجزم -دون أن أبتعد عن الصواب- أن السير الذاتي حاضر باعتبار الكاتب هو السارد و هو البطل أمام وجدان أنثوي مرهف )الأم( بالقهر و الإستلاب و التضحية و النضال و المواجهة لا الهروب حيث اتضح حجم الوعي بالمسؤولية التي كابدتها و تحملتها باقتدار مدهش.
قوة الإرتباط في الرواية ليست انفعالا شعوريا مبعثرا، بل تحكما واعيا لإبراز هذا المكنون النفسي العميق. و هذا يقودنا أوتوماتيكيا إلى الواجب نحوها، فالخطاب الروائي يبعث رسائل لا تحتاج إلى تشفير من حب يستوجب البر و الطاعة و الإمتثال لأوامرها، و تقديرها و احترامها، احتراما يخترق الغياب:
⮘ و بين زغاريد الفرح )شهادة الباكالوريا – الإجازة – التوظيف – زواج الأخت – ميلاد الحفيد… ( و دموع الخيبات، و ما أكثر الخيبات !! )طرد حسين من المدرسة – تمرده و عصيانه – انحرافه – تطرفه – سجنه – طلاق فاطمة…)، يكون عمر فرحا مبتهجا، أو مواسيا يقاسم الأم الوجع و الدمع.
⮘ مساعدة الأم و إن كان العمل موسميا في ورشة البناء رفقة المعلم عبد النبي أو العمل بالسد التلي بالبلدة: “محملا بهدايا لوالدته من أثواب و عطور فضلا عن مبلغ مالي يدسه في يدها وهو يقبلها” ص 91.
⮘ الأوصاف التي تحيل على الشفقة )الأم المسكينة – المغلوبة – العليلة -المكلومة…) و لعل أقساها و أكثرها إيلاما المكلومة التي تشير إلى الجرح العميق الذي لا يندمل و لم لا؟ و حسين يسير على أشواك القلق و المجهول، كل الطرق أخطأها حتى الطريق إلى قلب الأم قتل فيه كل شيئ: “استقبلته والدته بفرحة ضاق بها صدرها فانفجرت زغرودة أخمدها حسين قبل أن تبرح شفتيها اللتين اطبق عليهما بقبضته بفضاضة اعقبها بعبارات زجر اقرب الى التقريع” ص 87.
جعل الكاتب الأم قطبا للنسيج السردي، و رسيا لخيمته الروائية مثل ما جعلها حنا مينة في “بقايا صور”: “تركت الأولاد و ركدت إلى الأم قبلتها من يدها، ثم من جبينها… خفت أن تصمت فلا تتكلم أبدا، صار همي ألا يبرد جسم أمي أحتك بها، أكلمها أسقيها و أطعمها، لو أصبحت باردة سأشعل النار و أدفئها.. و من أجل ذلك صرت أجمع الحطب” [4].
من خلال السارد ننصت لبوح عمر: “يتوجه نحو امه ويرتمي في حضنها كعادته يقبل يديها وناصيتها مستدرا دعواتها وتوسلاتها” ص 27 “و أردف بحنو و هو يقبل رأسها المدفون بين ذراعيه” ص 83 “يطبع قبلة شاردة على جبينها” ص 96.
و إن كبر و أصبح ضابطا فلم ينصرم حبل الود: “أول ما قام به عمر هو ربط منزل الأسرة بخط هاتفي ثابت.. ليطمئن عليها و على أحوالها” ص 110.
يقول نزار قباني:
“لم أعثر على امرأة تمشط شعري الأشقر
و تحمل في حقيبتها إلي عرائس السكر
و تكسوني إذا أعرى
و تنشلني إذا أعثر
فكيف.. فكيف.. يا أمي
غدوت أبا ولم أكبر؟” [5]
و يقول محمود درويش في نفس المعنى: “إلى أمي”
“هرمت فردي نجوم الطفولة
حتى أشارك صغار العصافير
درب الرجوع لعش انتظارك” [6]
إن الرواية ذات خلفية واقعية غير منفصلة عن شروط إنتاجها الإجتماعية و النفسية: الفقر و التهميش، و ما الرمزية العنيفة للمؤشرات الآتية إلا دليل على ذلك:
🟔 شراء الموز لمامًا.
🟔 الشاحنة الوحيدة التي تزود البلدة بالخضر.
🟔 سقف البيت الطيني.
🟔 الأحذية البلاستيكية المعطوبة.
و مع الهشاشة الواضحة ثمة غنى في القيم المجتمعية المحلية: آصرة الجوار، عفة النفس، الكرم و الصفاء و الطيبة و الأصالة البوذنيبية…
فالنص الروائي إذاً شهادة تاريخية أو وثيقة لمرحلة طفولة الكاتب و شبابه و لبلدته المنسية، بروح إبداعية فنية و بطريقة تشويقية إيحائية لبناء عوالم سردية و معمار روائي متين يستند إلى خصائص الكتابة الإبداعية من خلال:
✔ تنوع اللغة: فصحى و عامية)الكاينة و اللي تكون – القبر و ما خلى –
أووو ماعرفتش أولدي لاش بغاوه؟ – شي بركة – المخزن…) و فرنسية
(Attache – Service – Droit prive – Nouveau né garçon ).
✔ دقة الوصف )غرفة النوم ص 58 – بدلة حسين من المركز التجاري ص 65 – مظهر حسين ص 136 …).
✔ توظيف التراث الشعبي ممثلا في )الأمثال الشعبية: “الفم المسدود ما دخلو
دبانة” – الملحون: قصيدة من إنشاد الحسين التولالي(.
✔ الإنفتاح على الأدب و الثقافة الأجنبية (الفرنسية(.
✔ تتبع التفاصيل الصغيرة (“كانوا يتنافسون في ضم أكفهم الصغيرة أثناء تضرعها، كان عمر يظن أنهم بذلك يرفعون توسلاتها إلى السماء، فكان يجتهد في سد الفرغات بين كفيه و أصابعه حتى لا تتسرب منه أدعية أمه و تضيع” ص 16)
✔ القدرة على رصد لقطات و مشاهد تراجيدية فاجعة بسينوغرافية مشهدية
مؤثرة )مقتل السعيد – مقتل زهيرة – مصرع حسين أمام شقيقه(.
✔ رصد أسباب الإستقطاب )نفسية – اجتماعية – تحفيزية – أجندة أجنبية
ممسكة بخيوط اللعبة( و تتبعها عبر مسارات الرواية.
✔ السخرية )الوظيفة بوكالة “ناسا” أجرب ثم أقرر ص 50)
و تأتي الرواية لتعزز الحضور المحتشم للرواية البوليسية بالمغرب إلى جانب:
“أم طارق” ميلودي حموشي – “قمة الجبل” حسن بوفوس – “القوس و الفراشة” محمد الأشعري – “القاتل الأشقر” طارق بكاري، و تغني المكتبة الوطنية برواية أنيقة من الهامش المغربي.
مكـناس / المغـرب
زمن الحجر الصحي
❖ المراجع:
1 محمد برادة لعبة النسيان، دار الأمان، المغرب، ط 2002م (ص 9)
2 سلام أحمد ادريسو أقليما، محترف الكتابة المكتب المركزي، فاس المغرب، ط 1- 2016م (ص 153)
3 لحسن بنيعيش أحلام مؤجلة، رشا برنت، مكناس، المغرب، ط 1 – 2016م (ص 58)
4 حنا مينة بقايا صور، دار الآداب للنشر و التوزيع، بيروت لبنان، ط 8 – 2008م (ص 250)
5 نزار قباني خمس رسائل إلى أمي، الأعمال الشعرية الكاملة، بيروت لبنان (ص 529)
6 محمود درويش عاشق من فلسطين، 1966م