بقلم: عمر ح الدريسي / المغرب
لا أعرف بالضبط، لو قُدِّر للشاعر الكبير محمود درويش العيش وسط هذه التحولات الدراماتيكية في الأمة العربية وخاصة ما حدث في العقد الأخير حتة يوم أمس، انفجار بيروت عروسة الشرق. والتقتيل الممنهج في كل بلدان وعواصم الشرق، تقتيل لا يفرق بين الطفل و المرأة و لا بين الشجر والحجر في ظل تجاهل وتواطئ دولي مفضوح…
هل كان درويش سيقول ما قاله في قصيدة ” عابرون في كلام عابر “: “…آن أن تنصرفوا وتموتوا أينما شئتم / ولكن لا تقيموا بيننا / آن أن تنصرفوا وتموتوا أينما شئتم / ولكن لا تموتوا بيننا…”؟؟
أم أنه كان سيعاود قصيدة “بيروت”: “الله أكبر/ هذه آياتنا فاقرأ/ باسم الفدائي الذي خلقا/ من جرحه شفقا/ باسم الفدائي الذي يرحل/ من وقتكم.. لندائه الأول/ الأولِ الأول/ سندمر الهيكل/ باسم الفدائي الذي يبدأ/ اقرأ.. / بيروت(غزة) صورتنا/ بيروت (غزة)سورتنا” (من قصيدة بيروت)… كما قال سميح القاسم وغنى مارسيل خليفة: “… آه آه آه آه…. / منتصبَ القامةِ أمشي مرفوع الهامة أمشي / في كفي قصفة زيتونٍ وعلى كتفي نعشي / وأنا أمشي وأنا أمشي…. / قلبي قمرٌ أحمر قلبي بستان / فيه فيه العوسج فيه الريحان / شفتاي سماءٌ تمطر نارًا حينًا حبًا أحيان…. /في كفي قصفة زيتونٍ وعلى كتفي نعشي / وأنا أمشي وأنا أمشي…”؟؟
1- محمود درويش والرؤية السياسية
كان درويش يدفع في كتاباته وأحاديثه نحو رؤية نقدية للاختلالات السياسية الفلسطينية، كان صارما حيال كل سلوك سياسي يمس جوهر الوعي الفلسطيني مثل التطبيع “مع دولة “إسرائيل”، التي على حد قوله لم تفهم من التسوية غير ما يوفر لها القدرة على أن تنجز، في مناخ السلام الكاذب(وقف إطلاق النار، كامب ديفد، العقبة، شرم الشيخ، واي ريفر..)، ما لم تنجزه في مناخ الحرب، من هيمنة إقليمية، ومن راحة استفراد بالشعب الفلسطيني المحاصر” (جريدة الدستور الأردنية، 2002)، أو المساومة على حق العودة لجموع اللاجئين الفلسطينيين(الأرض مقابل السلام)، ذلك أن أحد ركائز إبداعه الشعري يكمن في الدفاع عن وعي الفلسطيني لذاته وحقوقه ،كمواطن وكلاجئ له الحق المقدس في العودة، بكل أبعادها الإنسانية والقومية والكونية.
حسب الفيلسوف الألماني فريديرك نيتشه الزمن ممتداً بلا نهاية ، تعود هذه السيرورات لكي تُكرر نفسها نظراً لعدم وجود سيرورات جديدة، وهكذا تبقى الحادثات في حال تكرار دائم ويصبح العالم في حالة عود أبدي لا شيء يوقفه؛ أي أن كل الأشياء تكرر نفسها من خلال الزمن الذي لانهاية له أي أن الزمان يعيد نفسه؛ فمن النكبة الكبرى للفلسطينيين عام 1948، إلى حرب عام 1967 و احتلال القدس و الضفة الغربية و قطاع غزة، وماتبقى من فلسطين التاريخية، ثم انهزام جيوش دول الطوق العربي، واحتلال أجزاء من أراضيها ودفعها إلى توقيع معاهدات سلام و منها إلى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار ومنع الفلسطينيين من عبور الحدود، مما منح الإحتلال الإستفراد أكثر للتنكيل بالفلسطينيين وتقتيلهم فرادى وجماعات، و بذالك أحس محمود درويش بخذلان اليسار الشيوعي اليهودي والأنظمة العربية لهم :
“… أَنا يُوسفٌ يَا أَبِي . / يَا أَبِي إِخْوَتِي لاَ يُحِبُّونَني , لاَ يُرِدُونَني بَيْنَهُم يَا أَبِي . / يَعْتَدُونَ عَلَيَّ وَيَرْمُونَني بِل حَصَى وَالكَلاَمِ . / يُرِدُونَني أَنْ أَمُوت لِكَيْ يمْدَحُونِي . / وَهُمْ أَوْصَدُوا بَاب بَيْتِكَ دُونِي ./ وَهُمْ طَرَدُونِي مِنَ الَحَقْلِ./ هُمْ سَمَّمُوا عِنَبِي يَا أَبِي ./ وَهُمْ حَطَّمُوا لُعَبِي يَا أَبِي ./ حَينَ مَرَّ النَّسيِمُ وَلاَعَبَ شَعْرِيَ غَارُوا وَثَارُوا عَلَيَّ وَثَارُوا عَلَيْكَ . / فَمَاذَا صَنَعْتُ لَهُمْ يَا أَبِي . / الفَرَاشَاتُ حَطَّتْ عَلَى كَتْفَيَّ , وَمَالَتْ عَلَيَّ السَّنَابِلُ , وَ الطَّيْرُ حَطَّتْ على راحتيَّ . / فَمَاذَا فَعَلْتُ أَنَا يَا أَبِي ./ وَلِمَاذَا أَنَا ؟ / أَنْتْ سَمَّيْتَني يُوسُفاً, وَهُوُ أَوْقَعُونِيَ فِي الجُبِّ , وَاتَّهَمُوا الذِّئْبَ ؛ وَ الذِّئْبُ أَرْحَمُ مِنْ إِخْوَتِي … / أَبَتِ ! / هَلْ جَنَيْتُ عَلَى أَحَدٍ عِنْدَمَا قُلْتُ إِنِّي : رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً , والشَّمْس والقَمَرَ ,/ رَأّيْتُهاعُم لِي سَاجِدِينْ ؟؟ (من ديوان “ورد أقل” 1986)
2- محمود درويش الشاعر في قلب المقاومة
تأتي مرحلة التهدئة لفتح الباب أمام المفاوضات لوقف العدوان؛ فبعد الإباء و الصمود و الشموخ عاليا للمقاومة و التلاحم الشعبي الفلسطيني أمام همجات الجو والبحر والبر لآلة الحرب الصهيونية الفتاكة، و التدمير البربري الذي أحدثته في كل أطراف ومدن قطاع غزة أمام أعين العالم وسمعه وبصره وأمام التخاذل الرسمي العربي، فلو قُدر للشاعر محمود درويش المقاوم العنيد بروحه وضميره لأسس للمفاوضات بقصائده نهجاً لمقاومة المحتل الصهيوني الذي مهما دمر وقتل وبنى المستوطنات فإن وجوده عابر وليس أمامه سوى الانصراف من حيث أتى .. نقرأ ذلك في مقاطع من أروع قصيدة عربية كتبها عن فلسطين:
“…أيها المارون بين الكلمات العابرة / آن أن تنصرفوا / وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا / ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا / فأخرجوا من أرضنا / من برنا .. من بحرنا / من قمحنا .. من ملحنا .. من جرحنا / من كل شيء .. واخرجوا / أيها المارون من بين الكلمات العابرة…”
3- محمود درويش الإنسان اللاجئ
ست سنوات مرت على رحيل الشاعر الفلسطيني والكوني محمود درويش (9 غشت- أغسطس 2008). هذا الشاعر الذي رحل جسدا، وبقي روحا وشعرا، مناضلا إنسانيا وكونيا عبر القصائد الجياشة بالحب والأمل التي ستبقى راسخة في ذاكرة ووجدان مُعاصريه، أحبائه وعشاقه الكُثر عبر العالم مثلما جاء في هذا المقطع من إحدى قصائد ديوانه “أحد عشر كوكبا”:
“… لى خلف السماء سماء لأرجع، لكننى/ لا أزال ألمع معدن هذا المكان، وأحيا/ ساعة تبصر الغيب. أعرف أن الزمان/ لا يحالفنى مرتين، وأعرف أنى سأخرج من/ رايتى طائرا لا يحط على شجر فى الحديقة/ سوف أخرج من كل جلدى ومن لغتى…”
رأى درويش النور في قرية ” البروة ” في الجليل الغربي الفلسطيني يوم 13 مارس – آذار 1943، قبل نشوء دولة الصهاينة سنة 1948 والتي أتت على القرية كاملة و اقامت مكانها مستوطنة يهودية و بذالك حكم على درويش وعائلته بالنزوح وباللاوطن واللجوء و هو لايتعدى أنذاك الخمس سنوات، يقول في قصيدة ”لاجئ”:
” وتسأل : ما معنى كلمة “لاجىء” ؟ / سيقولون : هو من أقتلع من/ أرض الوطن/ وتسأل : ما معنى كلمة “وطن” ؟/ سيقولون : هو البيت ، وشجرة التوت ،وقن الدجاج /…وقفير النحل، ورائحة الخبز، والسماء الأولى/ وتسأل : هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة / أحرف كل هذه المحتويات ،وتضيق بنا…”
جاء في حوار على جريدة الحوادث (03/01/1986) بَيَّن فيه الشاعر درويش جوانب من سيرته كقوله: “بدأت شاعراً رومانسياً ليس بالمعنى التاريخي لكلمة رومانسية إنما كشاعر يستعمل أدوات غنائية بسيطة للتعبير عن عمر تجربته وتطورت رومانسيتي من رومانسية حالمة إلى رومانسية ثورية أو نضالية ثم تعقدت أشكال تعبيري إلى أن وصلت إلى ضرورة طرح مثل هذا السؤال, طبعاً أنا مثل أي شاعر آخر في أي زمان وفي أي مكان, ابن ظروفي التاريخية والاجتماعية”.
4- محمود درويش مابين تراجديا الحب و الحلم وظلم الظروف
الظروف لم تجعل من محمود درويش إلا ذالك الإنسان الذي أحب الحياة بعمق، ناضل من أجل الحُب بكل ما تحمله الكلمة من معنى روحي و إنساني، بكل صفاء و تضحية، بكل قلب وصدق وإبداع، الحب لم يفارق درويش رغم الآلام التي أغدقت عليه كسحاب الأمطار وحمل الأنهارا وهيجان البحار، تلاطمته الأمواج والطوفان ونكأت به مختلف الأوجاع دون كدر ولا فتور، وقد صاح شعرا في “الجدارية”: “…ووحدك المنفيٌ . لا تحيا / حياتك . ما حياتك غير موتي . لا / تعيش ولا تموت . وتخطف الأطفال / من عطشِ الحليب إلي الحليب . ولم/ تكن طفلا تهزٌ له الحساسين السرير ،/ ولم يداعِبْك الملائكة الصغار ولا / قرون الأيٌل الساهي ، كما فعلتْ لنا / نحن الضيوف علي الفراشة . وحدك ،/ يا مسكين ، لا امرأة تضمٌك / بين نهديها ، ولا امرأة تقاسِمك / الحنين إلي اقتصاد الليل باللفظ الإباحيٌ / المرادفِ لاختلاط الأرض فينا بالسماءِ ./ ولم تلِدْ ولدا يجيئك ضارعا : أبتي ،/ أحبٌك . وحدك المنفيٌ ، يا ملِك / الملوك ، ولا مديح لصولجانك . / لا صقور علي حصانك . لا لآلئ حول / تاجك . أيٌها العاري من الرايات / والبوق المقدٌسِ !
رغم صعوبة الحياة وقساوة الظروف كان محمود درويش إنسان العاطفة و المحبة الإنسانية بامتياز.
إلتقى بـ ” رنا صباح قباني ” الدمشقية في واشنطن 1977 فتزوجا لثلاثة أعوام غير أنهما إفترقا لأن رنا كانت تود أن تحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة كيمبردج , وبعدها تزوج من مترجمة مصرية تدعى ” حياة ألهيني” في منتصف ثمانينيات القرن العشرين ولم يستمر الزواج أكثر من عام (جريدة الثورة 11/08/2008)، معلنا درويش استمراريته وحيدا رغم أنه كان يفضل كلمة أعزب ربما متخوفا من مسؤولية الحب، وفي ذلك يقول : “أحب أن أقع في الحب.. علامة برجي (الحوت)، عواطفي متقلبة، حين ينتهي الحب، أدرك انه لم يكن حباً، الحب لا بد أن يُعاش، لا أن يُتذكر…”.
وفي 2013 صدر كتاب تحت عنوان ” أنا الموقع أدناه محمود درويش” يحتوي حوار أجرته قبل سنوات معه الصحفية اللبنانية “ايفانا مرشليان” التي كانت معجبة به و معجبا أيضا بها، إلى حد انه أودعها سر تأليف الكتاب ونشره بعد وفاته، ومن أبرز ماجاء في الحوار في هذا الكتاب، استقيته من مقال في صحيفة العرب (نشر في 2014\03\13):
-“السؤال الأول قالت فيه إيفانا: “حدّثنا عن محمود درويش الصغير الجميل، وعن الريح وعن سكناك؟ فيجيب درويش باستفاضة في صفحتين بكلام يؤكد حنينه لأرض الموعد “فلسطين” وإنه لا بدّ أن يعود. وفي السؤال الثاني تقول له: “ماذا تروي لنا عن أمّك؟ سرّ قصيدتك وحاملة نجوم طفولتك؟” فيحكي لها كيف يرى في أمه ذاكرة للأرض الفلسطينية، ثم يصف أمه قائلا: “سيّدة قوية، قاسية أحيانا”.
في السؤال الثالث استفسار عن “ريتا” التي يذكرها في الكثير من أشعاره.. من هي؟ فيجيب درويش: ليست امرأة وإنما هي اسم شعري لصراع الحب في واقع الحرب!. اسم لعناق جسدين في غرفة محاصرة بالبنادق. هي الشهوة المتحدّرة من الخوف والعزلة دفاعا عن بقاء كل من الجسدين في ظرف يتحاربان فيه خارج العناق”.
أما السؤال الرابع فكان ذا أبعاد فلسفية، قالت فيه إيفانا: “كيف تعيش تجربتي المسافة والوصول؟” فأجاب درويش واستفاض بطريقة فلسفية منمّقة متحدثا عن الموت وعن الوصول إلى الهدف، سواء كان الهدف سلطة أو قصيدة أو امرأة.. أو وطنا!.”.
5- حوار درويش المؤمن الهادئ مع الموت قبل الوداع الأخير
سجل مقالي.. سجل كلماتي.. سجل أنني لم أعرف كيف أُنهي هذا المقال و كيف لنا أن نقولَ.. وداعاً لهذا الحاضر الذي لا يغيب..امتطيت حصانك و رحلت جسدا… وتركت الأحرار يترجلون على خطاك… وأثر الفراشة لن ينمحي… ومأساة الأمة رغم الدم الغزير و الليل و السهد الطويل… سينبلج ضوء الفجر و نتلقف النسيم العليل و إشراقة الشمس و تغريدة العصافير… ونصير شعبا ..إن أردنا… “سنصير شعباً حين ننسى ما تقولُ لنا القبيلة …، حين يُعلي الفرد من شأن التفاصيل الصغيرةْ”… “سنصيرُ شعباً، إن أَردنا، حين نعلم أَننا لسنا ملائكةً، و أَنَّ الشرَّ ليس من اختصاص الآخرينْ”… “سنصير شعباً حين نحترم الصواب، و حين نحترم الغَلَطْ!”…سنصير ما أردنا إن أردنا… !!
إلا أن الموت لم ينتظر الشاعر العظيم محمود درويش إلى مابعد يوم 09/08/2009 واختطفه إلى دار البقاء بعد مرض عضال داخل مصحة للإستشفاء بالولايات المتحدة الأمريكية، بالرغم من محاورته له عبر مقاطع وأبيات من القصيدة الطويلة “الجدارية”، ربما كان استشراف شاعر روحاني إن لم نقل صوفي حقيقي، فكان حواره مع الموت، ليس بحوار الإنسان الخائف المتوجس، بل بحوار الإنسان المؤمن المتيقن الهادئ:
أَيُّها الموت انتظر ! حتى أُعِدَّ/ حقيبتي : فرشاةَ أسناني, وصابوني/ وماكنة الحلاقةِ, والكولونيا, والثيابَ !/هل المناخُ هُنَاكَ مُعْتَدِلٌ ! وهل/ تتبدَّلُ الأحوالُ في الأبدية البيضاء,/أم تبقى كما هِي في الخريف وفي/الشتاء ! وهل كتابٌ واحدٌ يكفي/لِتَسْلِيَتي مع اللاوقتِ, أمْ أَحتاجُ/مكتبةً ! وما لُغَةُ الحديث هناك,/دارجةٌ لكُلِّ الناس أَم عربيّةٌ/فُصْحى…
ويا موت انتظر ياموت / حتى أستعيد صفاء ذهنى فى الربيع وصحتى/ لتكون صيادا شريفا / لا يصيد الظبى قرب النبع / فلتكن العلاقة بيننا ودية وصريحة / لك أنت مالك من حياتى .حين املأها / ولى منك التأمل فى الكواكب / لم يمت أحد تماما / تلك أرواح تغير شكلها ومقامها…
خـاتـمـة……
تلك روح محمود درويش الإنسان والشاعر والمقاوم لم ولن تغب… أنت الغائب الحاضر…جسدك غَيَّر المقام … وروحك لازالت مقيمة بين الأقوام عبر أشعارك وكتاباتك وحتى مواقفك، لك مكان وذكرى وعبر وتراتيل أشعار في أرواح وذاكرة الأحرار من جميع الناس عبر العالم غير الأدباء المختصين و الباحثين و الأكاديميين والدارسين والعلماء المهتمين..
)المقال بمناسبة الذكرى 13 لرحيل الشاعر درويش).