د. مصطفى بوقطف (جامعة صفاقس. تونس)
وباء كورونا المعروف بـ ” كوفيد19“ جائحة، صينيّة المنشأ، أوروبية التوسّع، عالميّة الانتشار، اتسعت رقعة انتشارها لتُضحي وباء عالميّا، وذلك جرّاء العدوى وغياب لقاح يحدّ من سطوتها. لقد طبّقت شهرة كورونا الآفاق، وغدت حديث الناس في كل أرجاء المعمورة، وأسهمت وسائط المعرفة في تحويلها إلى شاغل رئيس. فمتى ولّينا وجهتنا صوب القنوات الفضائية، طالعتنا أرقام تضبط حالات الوفيات في كل دولة، نشرات مخصصة لإعلام الناس بالمستجدّات الموصولة بهذا الوباء. إنّنا ننام ونصحو على أرقام جديدة تفاقم من ذعرنا وهلعنا، برامج تلفزيّة في الفضائيات انصرفت عن السياسة إلى الخوض في كورونا، بتعديد مخاطرها وتفصيل أعراضها وبيان تأثيراتها وسُبل الوقاية منها.
نترك التلفزة بقنواتها ونتجوّل في المواقع الاجتماعية، فنلفي سوادا حالكا، يُضاعف من قتامة وضْعنا على الأرض، تتخلله أدعية وتضرّع إلى الله. وهذا معلوم، إذ كلما أحسّ الإنسان بالعجز لاذ بالربّ مبتهلا، يسأله الخلاص. ونقف على صور متنوعة من حالات من هذا الهلع المعولم، ذلك أنّنا أصبحنا نعيش مع الصور، وبالصور، ونتحرك في فضاء صُوَري. وقد لا أجانب الصواب إذا اعتبرت عدوى الهلع أشد وأسرع وأخطر على المرء من عدوى كورونا، هذا العدوّ الخفيّ المتربّص بنا. فحالات الخوف من ارتفاع حصيلة الحاملين للفيروس في بعض المدن زادت في إحساسنا بالذعر والخوف. وعندما نشاهد الأوروبيين، رغم تقدّمهم العلمي والحضاري، مذعورين في الشاشات والمواقع الاجتماعية، ينتابنا إحساس بالرهبة شديد.
ولذلك بات من المطلوب، في تقديري، مجابهة كورونا بالوحدة الصّماء وتسخير كل الطاقات والخبرات العلمية للقضاء علي هذا العدوّ الشرس الذي يسعى للنيْل منّا والفتك بنا، إنّنا في وضع حرب، وفي كل حرب ثمة خطط واستراتيجيات ومناورات، ومن أهم هذه الخطط، التزام تام بقواعد الصحة والامتثال للحجر الصحي وملازمة المنزل حتى لا نترك للفيروس فرصة السياحة والتنقل بين الأجساد…إلى جانب ذلك ضرورة العدول عن عولمة الخوف والرّهبة والهلع إلى عولمة الطمأنينة والتفاؤل و” فرحة الحياة” من خلال التذكير بالنموذج الصيني وكيفية تغلّبه على هذا الوباء، أو من خلال رصْد الحالات التي تماثلت للشفاء في بلدان عديدة.
وأسْهمت العزلة التي فرضتها هذه الجائحة على الناس في توطيد صلة المرء بالأجهزة الرقمية، بها يلوذ لمواكبة جديد هذه الجائحة، وإليها يهرع مستعيضا عن تواصله مع الأصدقاء على أرض الواقع بتواصل افتراضي، يمكّنه من تمضية الوقت الذي أضحى عبئا لا يُطاق، وتعويض ما خسره على أرض الواقع من أنشطة ومجالس حديث في المقهى والمنتديات والصالونات….
والطريف أنّ هذا الواقع الافتراضي الذي فرضته علينا هذه الجائحة أضحى لدى أصحاب القرار السياسي حلاّ لتلافي أزمة عميقة في الأفق، في مختلف الميادين، حتى أنّ بعض المؤسسات المهتمة بإنشاء البرمجيات لم تتعطل أعمالها، بحكم أنها تدير هذه الأعمال عن بعد. ونُظِّمت عديد الأنشطة الثقافية والعلمية عن بعد، ومن آيات ذلك أنّ مراسم الاحتفال بجائزة الشيخ زايد لسنة عشرين وألفين عقدت عن بعد، وتابعناها عبر الشبكة العنكبوتية. ونجحت عديد الدول الشرق أوسطية والأوروبية والأمريكية… في ممارسة التعليم عن بعد. ولم يقتصر استخدام الرقميات، في الثقافة والتعليم، بل شمل التجارة والاستثمار. فكثيرة هي الصفقات التجارية التي تُبرم عن بعد مع تسديد لمعلوم الصفقة باعتماد الحسابات الرقمية. ونشطت صناعة البرمجيات وازدهرت مبيعاتها. في مقابل ذلك، كسدت التجارة على الأرض وتعطلت الأنشطة الثقافية والرياضية، ودليلنا على ذلك تأجيل دورة أولمبياد اليابان هذه السنة عشرين وألفين للسنة القادمة. إنّ هذا التقابل بين الواقعي والافتراضي الرقمي يثير سؤالا مهمّا مفاده. هل جاءت كورونا لتختبر مناعة الجسد ومناعة البلد؟ ولئن كانت مناعة الجسد تتجلى في قدرته على مقاومة الفيروس فإنّ مناعة البلد تظهر في القدرة على مواصلة الأنشطة عن بعد، والنجاح في استثمار الشبكة العنكبوتية لإنجاز ما تعسّر إنجازه على الأرض. ومن ثمة عدم تضرّر الاقتصاد جرّاء هذا الوباء. لعمري، تلك هي المناعة الحقيقية لبعض الدول التي قطعت أشواطا بعيدة في الرقمنة واستثمرتها أثناء هذه الجائحة. صحيح أنّ بعض البلدان العربيّة، قطعت أشواطا مهمّة في رقمنة الإدارة، من أجلى صور ذلك، الترسيم عن بعد في المعاهد والكليات والمبيتات الجامعية…والمعاملات المالية عن بعد وعقد ملتقيات ثقافية عن بعد… ولكنّ هذا يظل دون المطلوب متى رمْنا المضيّ قدما في عالم الرقمنة.
وعليه، بات علينا لزاما، الآن، البناء على هذا المنجز وتطويره وتجويده لكسْب رهان معركة المستقبل واكتساب مناعة حقيقية تؤمّن لنا، نحن العرب، وجودا حقيقيا وانتصارا فعليّا على الأزمات والجوائح التي تهدّد الجسد والبلد.