بقلم الناقد والشاعر أ لطفي عبد الواحد/تونس
محمد الباجي المسعودي شاعر ومؤرخ تونسي معروف عند القليلين من الباحثين والشعراء والمفكرين رغم شهرته قي العصر الذي عاش فيه لكنه يكاد يكون مجهولا ومغمور الذكر لدي أجيال اليوم من المثقفين والمبدعين لأسباب يطول شرحها. ولد محمد الباجي المسعودي في تونس في القرن التاسع عشر وتحديدا في سنة 1811 وتوفي بها في سنة 1880 واعتبر من المؤرخين والشعراء البارزين في عهد البايات وعاصر خمسة منهم وقد اشتهر الباجي المسعودي بتأريخه للعديد من الأحداث وبوصفه للكثير من مدن البلاد ومناطقها واشتهر بقصيدته التي تغنى فيها بتونس وعدد من ضواحيها معبرا عن حنينه إليها وهو بعيد عنها وقد ساهم في شهرة هذه القصيدة تلحينها إذ لحنها الموسيقار التونسي صالح المهدي المعروف بزرياب رحمه الله وتغني بها الناشئة ومطلعها هو : حيا نسيمك حتى كاد يحييني يا تونس الأنس يا خضرا الميادين سرى عليلا ووافى بالسلام إلى مضنى بحبك نائي الدار مغبون فجد بي الشوق واستولى عل جلدي وصرت أخفيه حتى كاد يخفيني.. كما اشتهر عند البعض بقصيدته تلك التي وصف فيها مدينة نابل وتحديدا إحدى ضواحيها بها وهي انذاك ضاحية وادي سحير او وادي سوحيل كما ينطقها أهالي الجهة وهي قصيدة وصفية جميلة كنت تحدثت عنها في مقال لي بعنوان نابل في عيون الشعراء ومطلعها هو الآتي : سعى بكأس الشراب من وعده كالسراب أنس بني العصر طرا لا البدر تحت السحاب.. وفي إطار عنايتي بتتبع ماقاله الشعراء من شعر ووصفوا به عددا من مدن بلادنا ومناطقها وبالرجوع إلى ديوان هذا الشاعر التونسي ذي الحس الوطني المرهف رغم ان مفهوم الوطنية يعتبر مفهوما حديثا في الفترة التي عاش فيها الشاعر وجدت في هذا الديوان النادر الذي قام بتحقيقه وقدم له المربى الفاضل والمؤلف عبد الفتاح الزيتوني أصيل مدينة الساحلين بولاية المنستير ونشرته الدار التونسية للنشر في سنة 1983 قصيدة جميلة يصف فيها الشاعر مدينة قربص او منطقة قربص انذاك وهي من مناطق ولاية نابل الوطن القبلي معروفة بمناظرها الطبيعية الجميلة وبمياهها المعدنية في الفترة التي أقام فيها بسبب مرض ألم به واضطره للابتعاد عن الحاضرة تونس طلبا للعلاج والشفاء وهي قصيدة طويلة نسبيا وتحتوي على عشرات الأبيات على وزن المتقار عبر في مطلعها عن حالته وهو مريض عليل يعاني العلة والبعد عن العاصمة والعائلة وفي هذا يقول : عليل غريب ولا مونس (و) يحن لرؤياك يا تونس. يموت إذا ما يجن الدجى ويحيا إذا نصل الحندس وما حال من نزحت داره وقربه للعنا قربس او قربص (و) ولعل الطريف في أمر هذه القصيدة وأمر شاعرها الباجي المسعودي ان وصف الشاعر لهذه المنطقة الجميلة الساحرة في الوطن القبلي جاء مختلفا وغير متوقع ذلك أنه لم يصفها كما وصف غيرها من المدن التونسية ومنها مدينة نابل التي أشرت إليها حيث ركز على ابراز مواطن الجمال والسحر وطيب المقام فيها وما بعثت في نفسه من مشاعر المتعة والبهجة فحين وصف الشاعر قربص لم يحل القاريء اوالمستمع على مظاهر الجمال فيها ولم يصف ماحباها به الله من مناظر طبيعية خلابة بل وصف معاناته في هذه المنطقة التي اضطر على مايبدو إلى التحول إليها والإقامة فيها للعلاج من مرضه وكانت تلك المنطقة اي قربص في ذلك العهد منطقة صعبة وخالية من المرافق الضرورية ووسائل التسلية والترفيه على خلاف العاصمة كما وصف مرضه واوجاع المتداوين بالمياه الحارة وبهذا يمكن أن نفسر زهد الشاعر في وصف الطبيعة الجميلة في قربص إلى درجته جعلته احيانا يرى المواقع التي اجمع الكثيرون على جمالها على غي تلك الصورة الحسنة والفاتنة وهذا يظهر على سبيل المثال في المقطع الموالي من قصيدته حيث يقول : .. ومن حوله البحر لكن به عواصف صرصر لا تهمس كأن بشاطئه حرة ثياب الحداد لها ملبس فلا البر بر بزواره ولا البحر بحر ولا يونس ولا نزهة غير عين التيوس وعين السلاحف لا قدسوا.. ومما لاشك فيه ان الباجي المسعودي قد كتب هذه القصيدة في وصف قربص ومقامه فيها باحساس المريض العليل الذي تجعله العلة غير قادر على التعبير عن الإحساس الجميل بما يراه الإصحاء الآخرون جميلا وبإحساس المغترب البعيد عن موطنه وأهله والاكيد كماقيل واقول لو ان الشاعر الباجي المسعودي قد زار قربص وهو سليم من المرض والعلة او لو قدر له ان عاش وزار قربص بعد استقلال تونس وهو معافى لكتب قصيدة من أروع القصائد في وصفها بما حباه الله به من تعلق بتونس واحساس فني يجعلانه يدرك قيمة هذه الأرض الطيبة التي ولد فيها ونشأ. وفي كل الأحوال تبقي قصيدة قربص من اجود قصائد الشاعر ولا تخلو من القيمة الفنية والترثيقية والتاريخية لمن شاء الرجوع اليها ودراستها من حيث الشكل والمحتوى..