ذ بوزيان موساوي / وجدة / أنكاد
نافذة النقد للأستاذ بوزيان موساوي: دعوة للقراءة. دعوة للبقاء في المنازل.
نص قراءتي في ديوان: “فوضاي تكتب نثرها”،
للشاعر المغربي يحيى عمارة، تحت عنوان:
لما يصبح الشعر “كائنا إبستيميا” بين منزلتين: سؤال كتابة، و سؤال وجود.
مدخل:
أ ـ بطاقة تعريف موجزة: “فوضايَ تكتبُ نثرها” ديوان شعري للشاعر المغربي يحيى عمارة. صدر عن دار “روافد للنشر و التوزيع” القاهرة/ مصر سنة 2018؛ الكتاب من الحجم المتوسط (114 صفحة). لوحة الغلاف: الفنان التشكيلي المغربي محمد الشريفي؛ يحتوي الديوان ـ فضلا عن أوراقه الخارجية ـ على 36 نص شعري…
ب ـ العنوان: نعُرّف “فوضى” عادة من خلال بعض المعاجم المتداولة على أنها “فقدان للنظام و الترابط و الانسجام…”، تقابلها في الفرنسية عدة مفردات بمعاني تنتمي لِسياقات و حقول دلالية مختلفة منها: “désordre” ، و “chaos” ،
و “anarchie”؛ و في الأسطورة الاغريقية تستعمل مفردة “فوضى” (التي تترجم مؤخرا بكلمة “شواش”) لتصف الحالة البدائية للعالم قبل أن يقوم المبدأ الأول:الإله كاوس بترتيبه…
“فوضايَ تكتبُ نثرها”: “فوضايَ” (تشخيص بلاغي) لفاعل يقوم بعملية الكتابة (“تكتب نثرها”)… من الملاحظ أن الشاعر يحيى عمارة لم يكتب “تكتب شِعرها” رغم أن الأمر يتعلق بديوان شعري (أو مجموعة شعرية)، و استبدل “شعرها” ب “نثرها”… هذه أولى التساؤلات، من بين أخرى التي كما سنرى خلال تضاعيف هذه الورقة، ستؤسس، على طول الديوان، لما قد يشبه “بيان الكتابة الشعرية” للشاعر يحيى عمارة (Manifeste de l’écriture poétique)…
ج ـ حيثيات منهجية:
ـ كيف نقرأ ديوان “فوضايَ تكتب نثرها”؟…
لاعتبارات عدة سيتم توضيجها في تضاعيف هذه الورقة، أستبعد استهلالا كل مقاربة للديوان تطلع علينا بمجرد ملخص استنتاجي لقراءات سطرية (Lectures linéaires) للنصوص باعتبارها ذوات أو وحدات أو بنيات مستقلة و مغلقة (Structures hermitiques)، و نعلل هذا الاستبعاد بكون “ماكرو ـ بنية” الكتاب بكل مكوناتها كنصوص شعرية، و ك “أوراق خارجية” (Hypotexte) هي كما أرادها الشاعر يحيى عمارة علامة استفهام كبرى لسؤال كتابة الشعر زمن ما بعد الحداثة… و لعلّ لتكراره لمفردة “فوضى” في 10 عناوين نصوص ديوانه فضلا عن العنوان الرئيس، و الورقة الخارجية الأولى، دلالة “توجيهية” للقارئ لأجل استنباط معالم فلسفته من الكل (الكتاب)، و ليس من الجزء (كل نص على حدة)، و هي نفس فلسفة الشاعر سان جون بيرس الذي كما يبدو قد تأثر به الشاعر يحيى عمارة إلى حد بعيد فيما يتعلق بهندسته لديوانه هذا…
و أستبعد في ذات السياق المنهجي المقاربة بثنائية “النص” و “التناص” لمجرد أن الشاعر يحيى عمارة أشار بالاسم أو ضمنيا لشعراء مثل المعري، و رامبو،
و أدونيس، و سان جون بيرس، و قيس بن الملوح (مجنون ليلى)، و ابن عربي، و قاسم حداد، و الماغوط، و فكتور هيجو، و بودلير، و المجاطي… باعتبار أن “التناص” كما عرّفه باختين هو ” الوقوف على حقيقة التفاعل الواقع في النصوص في استعادتها أو محاكاتها لنصوص أو لأجزاء من نصوص سابقة عليها”…
و المقاربة بآليت “القراءة المنهجية” (Lecture méthodique) (التي تعتمد “نحو النص” (Grammaire de texte) بدل “نحو الجملة” (Grammaire de la phrase)، و التي تُعنى بالبنى العامة للنصوص و ترابط فقراتها أو مَقاطِعها التركيبية و الدلالية، و بانزياحات الدالات اللغوية و الأسلوبية
و الايقاعية الداخلية و الخارجية، و وظائفها حسب أجناس النصوص،
و نوعياتها…) قد تضعنا هي الأخرى أمام “مأزق التأويل”، لأننا في قراءاتنا غالبا ما نتسلح بآليات “تماثل الكيانات” (Analogie des entités)، كما سمّاها أمبيرتو إيكو، أي اعتماد تمثلات اكتسبناها بالمماثلة (المقارنة)، و كأننا مع المنطق الأرسطي المتعلق بنظرية المماثلة (المشابهة أو التناظر)…
لذا، اخترنا، منهجيا، تركيز الحواس الخمس على “التوجيهات” غير المباشرة لأوراق الكتاب علّها ترشِدُنا، منهجيا، لمقاربة ممكنة. و كانت أقوى الاشارات في ورقة خارجية على ظهر غلاف الكتاب أتاحت مقاربة أربع مقولات تبدو لنا كرافعات أساسية للكتابة الشعرية عند الشاعر يحيى عمارة:
التجريب (بمفهومه الفلسفي)، و السؤال (بمدلوله الابستمولوجي)، و التجديد (في علاقته بالحداثة)، و الاغتراب (بمفهومه الوجودي السارتري).
نقرأ هذا المقطع من الورقة الخارجية على ظهر الكتاب (هو مقطع من قصيدة “تأهب للسفر” ص. 31):
“لُغتي تجرّبُ
منطقَ الطيرِ العجيب
تقولُ لي:
ذوّبْ دمَ الغرباءِ
في لذائذ السؤالِ
جدّدْ و اغتربْ…”
نضع سطرا تحت الكلمات التالية: “تُجرّب”، “السؤال”، “جدّد، “اغترب”.
1 ـ التجريب: “تجرّبّ:
تحيلنا ربما، بخصوص ميول الشاعر يحيى عمارة في سؤال الكتابة الشعرية الممكنة، على “الفلسفة التجريبية” (L’empirisme)، لكن، ليس بمعناها العام الذي ظهر مع دافيد هيوم، لكن بمفهومها الرافض في سياقنا للكتابة كمجرد “محاكاة” لأنماط قبلية، أي: كتابة تستلهم مادتها المعرفية و الجمالية عن طريق الحواس و الخبرة، و من هنا قول الشاعر يحيى عمارة في مطلع المقطع أعلاه: “لغتي تجرّب منطق الطير العجيب”، و من هما أيضا كل هذه العناوين لنصوص من نفس الديوان: “صحبة طير”، و “الطفلة و البومة”، و “حكمة الحجل”، و “شريعة النمل”، و “ثلج الضياع”، و “أربعة بساتين”، و “فوضى الحدائق”، و “فوضى الغزال”، و “فوضى اليمام”، و “فوضى الماء”، و”لَذّة الأعمى”… و من هذا الأخير نقرأ ـ على سبيل المثال لا الحصر هذا الميول ل “التجريبية” المعتمدة على الحواس ـ هذا المقطع (ص. 106):
“انفردي يا صديقة روحي
بما ملكتْ لذّتي
و اتركي عَبَسَ الليل لغير الجسد
فأنا من قميص الهوى
أستعير بلاغة حِسِّي…”
و من هنا يتضح لنا مغزى تلك الإحالة على أدونيس (من بين آخرين) في أول ورقة خارجية للديوان (ص. 3)، و كأن الشاعر يحيى عمارة يشارك رأي أدونيس الذي نورده كالتالي:
“الشكل في ذاته مضمون. الشعر بهذا المعنى هو الفوضى الرائعة كفوضى الطبيعة. القصيدة يجب أن تكون فوضى طبيعية. أنت إذا أخذت جزءا من الطبيعة، تجد الشوكة إلى جانب الحصاة، إلى جانب مجرى الماء، إلى جانب العشب، بل إنك كثيرا ما ترى الحصى و العشب يعترضان مجرى الماء، و القصيدة يجب أن تكون مثل هذا المشهد الفوضوي، لكن الخاضع إلى نسق. و من هنا، الشكل لا نهاية له، إنه غياب القانون، إنه الفوضى الكونية، إنه زمن ما قبل العالم…” (أدونيس شاعر الدهشة و كثافة الكلمة”: موسوعة أعلام الشعر العربي الحديث، ص. 20).
ربما هذا ما يبرر الغموض في شعر أدونيس، على نفس وتيرة الغموض الذي يكتسح في سياقنا أيضا ديوان “فوضايَ تكتبُ نثرها” بشكل مقصود على طول ربوع الديوان، و يعبر عنه الشاعر يحيى عمارة بالتلميح الذي يقترب من المباشرة في نصّين تحت عنوان: “رسالة إلى سان جون بيرس” (ص. 47)، و “جواب سان جون بيرس” (ص. 49)؛ نقرأ هذا المقطع من نص الرسالة:
“ل “سان جون بيرس” أكتبُ رسالتي المشفرة
ذهب الغموض هدية معاصرة
تتوشى بها عروس الحرف
في قصر الجميلات
الجميلات أصناف
صديقة سلطان
تمدح صدره الأجرب
زميلة عسكري
تضاجع قلبه الأعزب
حمّالة لفظٍ
تنشر شَعرها الأشيب
رفيقة شاعر
تنثر ماءه الأعذب.” (ص. 48).
و كأننا من خلال هذا النص نقرأ “فلسفة الشعر” بكل غموضها عند يحيى عمارة:
جمالية لغة القصائد كما “الجميلات في قصر” و هي أنواع: قصائد للمدح (“صديقة سلطان تمدح صدره الأجرب”)، و قصائد البطولات (“زميلة عسكري تضاجع قلبه الأعزب”)، و قصائد “الصّنعة و التكلّف” (من الشعر القديم) (“حمّالة لفظ تنشر شَعرها الأشيب”)، و أخيرا القصائد التي يتبناها الشاعر يحيى عمارة ـ كما سان جون بيرس ـ (“رفيقة شاعر تنثر ماءه العذب”)، والتي رغم غموضها، تستلهم شعريتها و وجودها وماهيتها من عناصر الطبيعة الحيّة: الثلج و المطر و الرياح… عند سان جون بيرس، و الماء و الطير و الحشرات و الحدائق… عند يحيى عمارة… تماما كما أرتير رامبو (المُحال عليه في الورقة الخارجية للديوان، ص. 3 بجانب المعرّي و أدونيس) الذي وجد شِعرُه كُنْهَ الوجود في “فوضى” هذيان الحرف، كما السفسطائيين، حتى يملأ عالمه الرتيب و السطحي بكائنات من حيوانات و حشرات و عناصر طبيعية، يقول:
“وجدتً فوضى روحي شيئا مُقدّسا”، و التي أصلها في لغة موليير:
« Puis j’expliquai mes sophismes magiques avec l’hallucination des mots !
Je finis par trouver sacré le désordre de mon esprit. J’étais oisif, en proie à une lourde fièvre : j’enviais la félicité des bêtes, — les chenilles, qui représentent l’innocence des limbes, les taupes, le sommeil de la virginité ! » (Une saison en Enfer (Délires II – Alchimie du verbe), 1873).
2 السؤال الابستمولوجي: “تُجرّب” و تسأل (“لذائذ السؤال”):
لا غرابة أن يُلازم السؤالُ التجريبَ لأنه (كما كتب نبيل عودة): “تعتبر الفلسفة التجريبية جزءا هاما من الأبستمولوجيا التي هي فرع لتيار فلسفي يبحث بمضمون ومجال المعرفة. مثلا ما هي المعرفة؟ كيف نحصل عليها؟ قيمتها لفهم موضوع معين؟ ..”، و قد نطرح مع الشاعر يحيى عمارة أسئلة في صيرورة نفس المنطق: ما هو الشعر؟ كيف نكتبه؟ قيمته لفهم موضوع معين؟… و قد نجد أجوبة مشفّرة في العديد من نصوص الديوان، منها نص بعنوان “فوضى القصيدة” (ص. 50)، هذا مقطع منها:
“امتلأت عين بودلير بالقش المستعار
من بلاغة فيكتور هيجو
استعان يوسف الخال
بفوضى الماغوط
حينما استمع فؤاده
لنداء “الإبحار في الذاكرة”
أنفذوا حنجرة أدونيس
من غثيان التكرار
الذي يقيد أحلاما
أنقذوا لؤلؤة المجاطي
من فقهاء الفروسية المادحين.”
إن كان فيكتور هيجو لا يمثل الحداثة بالنسبة لبودلير، فبالنسبة لمعاصريه كان زعيمها لما ثار على الكلاسيكية بمسرحيته الشهيرة “معركة هرناني” (La bataille d’Hernani)، و إن كان الشعر القديم في ذهن المجاطي متجاوزا، فمن “فقهاء الفروسية المادحين” يتواجد امرؤ القيس، و بشار بن برد، و أبو نواس، و المتنبي، و أبو تمام.، و أبو العلاء المعري.. الذين حملوا مشعل الحداثة في زمنهم… ما هو عتيق اليوم و متجاوز، كان في عصره قمة الحداثة و التجديد… و على ذكر هذا الأخير ـ المعري ـ فهو لم يتصدّ عبثا الورقة الخرجية الأولى لديوان “فوضايَ تكتب نثرها” (ص. 3) عبثا؛ فالاحالة على بيته الشهير
“دع الطير فوضى إنما هي كلَّها طوالبُ رزق لا تجيء بمفظع”
(من قصيدة “تحية كسرى” من ديوان “سقط الزند”).
الملاحظ في هذه القصيدة أن المعري حسب أحد الباحثين يدغم الفوضى بالريبة، ليخلص إلى البيت التالي:
“فساد وكون حادثان كلاهما شهيدٌ بأن الخلق صنعُ حكيم”
ليظيف: “نلحظ من البيت الأخير أن الريبة الباطنة كأنما قد دُفِنت عمداً في العالم. سبق المعري، برؤيته الثاقبة هذه، كل علماء الميكانيكا الكوانتية الذين يعتقدون بوجود شيء ما، حقيقة خلفية، رغم الريبة الحائلة بيننا وبين كمال المعرفة. يرتِّب هذا الاعتقاد مفارقة كبيرة. فلو كانت تلك الحقيقة ثابتة لا تتغير – أي كانت حقيقة سرمدية – فإن التطور الظاهري لن يعكس البنية العميقة لتلك الحقيقة؛ إذ إن الديناميَّة الظاهرية ستشوِّش المشهد الخلفي.”… ليخلص الدكتور خالد أسيمر البدوي (الجزائر) إلى أن التجديد في شعر المعري هو تقريب المسافة بين الشعر و الفلسفة (…) نقد المعري العقل العربي السائد، و مارس ذلك النقد من داخل هذا العقل نفسه من خلال تعرية أسسه، و تحريك فاعلياته، و تطويرها و تحديثها و إغنائها بمفاهيم و إشراقات جديدة…
لذا ف “القطيعة الابستمولوجية” ليست بين مدرسة شعرية (أو تيار أو توجه) و أخرى، بقدر ما هي توجه نسقي فكري فلسفي (تزعمه كل من باشلار و فوكو و ألتوسير) يرفض الاستمرارية الحتمية بين الحقب الزمنية التاريخية من حيث اللغة (الخطاب)، و المعرفة، و تطور المجتمعات… لكن، تلاحظ الباحثة دلال أعرج (في قراءتها ل “قطيعة الابستمولوجية عند غاستون باشلار – الجزء الثالث –”): “إن القطيعة الابستمولوجية ما هي إلا مراجعة للمفاهيم العلمية في الفكر العلمي السابق لها . ولكن هذه المرجعة لا تعني انفصالا ، بل تعني انتقالا جدليا إلى مفاهيم اشمل ، فالمفاهيم القديمة ضمن القطيعة الابستمولوجية لا يتم تركها بصفة مطلقة ، ولكن تتم مراجعتها بالكيفية التي تبين حدود صدقها ، كذلك لا تتم بصورة تجريدية ، بل هناك دائما تعيين للظروف التجريبية التي تسمح لنا بان نعيد النظر في أي مفهوم …”.
3 ـ التجديد و التحديث: “جَدّدْ”: “القطيعة الابستمولوجية” التي يلمح إليها الشاعر يحيى عمارة لا تعني الانفصال عما سبق، لكن في ذات الآن تعني “التجديد” بمعنى “التجاوز” (“أنفذوا حنجرة أدونيس من غثيان التكرار”…. “انقذوا لؤلؤة المجاطي من فقهاء الفروسية المادحين”..)؛ نقرأ في هذا السياق:
” أحمل فانوس المشي
أعانق صدر المينرْفا،
و أدق الأجراس بما أملك
من حس أو خيال
و أكمّل دورة دمي،
دورة
دورة
و أجدّدُ أسفاري.” (نص بعنوان “كينونة”، ص. 11).
نلاحظ أن الشاعر يحيى عمارة استعمل كلمة “التجديد”، و ليس “التحديث”، لأنه كما جاء على لسان أحد الباحثين: “للجديد معنيان: زمني و هو في ذلك آخر ما استجدّ، و فني، أي ليس في ما أتى قبله ما يماثله. أما الحديث فذو دلالة زمنية و يعني كل ما لم يُصبح عتيقا. كل جديد، بهذا المعنى حديث، لكن ليس كل حديث جديدا (…) الجديد إذن يتضمن معيارا فنيا لا يتضمنه الحديث بالضرورة. فمعيار الجديد يكمن في الابداع و التجاوز و في كينوه مليئا لا يُستنفذ (“إن دلالة التجديد الأولى في الشعر هي طاقة التغيير التي يمارسها بالنسبة إلى ما قبله و ما بعده، إلى طاقة الخروج على الماضي من جهة، و طاقة احتضان المستقبل من جهة ثانية.” كما جاء على لسان الدكتور ميشال خليل جحا).
4 الاغتراب الوجودي: “جدّد و اغتربْ”:
ربما من بين أجمل نصوص ديوان “فوضايَ تكتب نثري” لشاعرنا يحيى عمارة التي نسجت صورة رائعة ل “الاغتراب” بمفهومه الوجودي السارتري، نص “أنثر ذاكرتي حرّا” (ص. 10)، نقرأ:
“قالتْ: أنتَ، إذّا،
سيزيف يفكّر
في حجم الصخر
و يريد طلوع القمة الشمّاء
حتى تهرب منه نساء القصر.
ردّ العصفور مغرّد ترنيمة:
إني أرفع رايات وجودي
أنثر ذاكرتي حرّا
فوق الأغصان
أقول لهم:
إني ذاتٌ من مشيِ سلحفاة
أقتاتُ حليب الهامة.”
صُوّر مجازية جميلة و عميقة للتعبير عن الموقف: بداية “الاغتراب”، ثورة على قيّم بالية عتيقة (“حتى تهرب منه نساء القصر”)، و عبوره “إثبات وجود” خارج المألوف المبتذل (“أرفعُ رايات وجودي”)، و مُنتهاهُ التغني بالحرية (“أنثر ذاكرتي حرّا”)… ليصبح “الاغتراب” مرافا ل “الحرية”، لما تقترن حرية الوجود بحرية التعبير عنه بالكتابة (بالشعر).
تيمة “الفوضى” باعتبارها “إبستيميا” (épistémè) القطيعة مع تجارب نمطية بالية،
و “اغتراب”(Aliénation) وجودي رافض لواقع كينونة ، و “ملاذ” (Refuge) لأجل الابتكار
و التجديد، و إثبات وجود و ماهية بالكتابة…، داعبت أقلام العديد من شعراء الحداثة (غير الذين ذكرهم يحيى عمارة في هذا الديوان) نذكر على سبيل المثال لا الحصر: صلاح عبد الصبور (مصر)، و نمر سعدي (فلسطين).
بينما استغاث صلاح عبد الصبور بالرّب ليلهمه القدرة على تشكيل الصوّر، و كأن الشعر كما عند القدماء “وحيٌ يوحى”:
“كان يريد أن يرى النظام في الفوضى
و أن يرى الجمال في النظام
و كان نادر الكلام
كأنه يبصر بين كل لفظتين
أكذوبة ميّتة يخاف أن يبعثها كلامُهُ (…)
ثمّ ينادي الله قبل أن ينام
الله، هبْ لي المقلة التي ترى
خلف تشتَتِ الشكول و الصوّر… (من قصيدة “مرثية رجل عظيم”)؛
و بينما استسلم الشاعرنمر سعدي للريبة و التشاؤم و الاستنكار باستعمال الاستفهام الاستنكاري في قصيدته بعنوان:
“لمن إذن سأرتب الفوضى؟”:، نقرأ منها:
“لمن إذا سارتب الفوضى
بذوق أميرة شرقية حسناء
تنحت رفرفات الطائر الملتاع من فمها
و من غيم القصائد؟
كيف أرسم قوس أسراب السنونو
في حنايا الأرضِ لا في الأفقِ
وهي تعود من أقصى الشتاءِ إليَّ؟
كيف يشيل شمسَ المريماتِ فمي
لكي تحمي شفاهي عند بابِ الليلِ؟
كان الليل جلَّاداً بلا قلبٍ ولا آذانَ
ينبح أنَّ خمرته التي امتزجتْ بأنهارِ الدماءِ
تحدّرتْ من حكمةٍ سوداءَ صالحةٍ لأنسنةِ الضباعِ
لمَن إذاً سأرتِّب الفوضى؟
ومَن سأحبُّ بعد تقهقرِ الطوفانِ؟”…
فيبدو أن “فوضى” شاعرنا المغربي يحيى عمارة أكثر تفاؤلا و إيمان بقدرة التجديد و التغيير… و هذا هو شعار “خطّه التحريري” الشعري، و هو ذا وجه من أوجهِ “بيان الكتابة الشعرية” ليحيى عمارة… و له نقرأ كل هذا التفاؤل:
” ذاكرتي قصيدة تخبئ الهدايا
فى أطباق من ريح
تصنعها أصابع امرأة
تمدح العاصفة
سأمنحها ما أملك
من عظام اللغة ,
أشجار اللثة ,
أوتار الفوضى
كى تجدد هودج الحلم ” (مقطع من قصيدة “فوضى الذاكرة”. ص. 20)…
و حتى نلتقي، لكم تحايا نافذة النقد، و الأستاذ بوزيان موساوي. وجدة المغرب.