د. مصطفى بوقطف (جامعة صفاقس، تونس)
النص الأدبي كيان يتشكل من العلامات اللغوية أساسا، والعلامة اللغوية، وعلى نحو ما بين أمبرتو أيكو، وحدها القادرة على أن تقول شيئا وتعني شيئا آخر، فهي ماكرة ومراوغة، تظهر وتشف تخفي وتحجب. ومن ثمة، فهي كالسرّ من جهة تلازم الإظهار والإخفاء، إذ أسرّ الشيء في لسان العرب” كتمه وأظهره وهو من الأضداد، سررته، كتمته، سررته أعلنته”. وعليه فإنّ ثنائية الإظهار والإخفاء وجه من وجوه السر والأسرار. والمكنونات لها بالأسرار متين علْقة، إذ تلتقي معها في الإمعان في الاختفاء. نقول استكن الشيء بمعنى أخذ بقعة خفية وغائصة. ومتى وصلنا الأسرار والمكنونات بالنص الأدبي سواء أكان نثرا أم شعرا اتضح لنا ما للقراءة من دور في إبانة ما اختفى وإظهار ما احتجب وفك ما استغلق، ألم يتحدث تودوروف عن نزهتين متلازمتين في الأدب، الأولى موصولة بالأديب يضطلع فيها بوضع العلامات وانتقاء الملائم منها للمراد التعبير عنه. أما النزهة الثانية فمتعلقة بالقارئ يتملى ما نُضِّد من علامات لغوية ويسيح بصره وذهنه في ما حُبّر وخُط لاستجلاء الخفي من المعاني والقصيّ من المقاصد. ولعل الباحث فؤاد عفاني أدرك إدراكا عميقا دور القراءة في تذوق النصوص الإبداعية واستكناه دلالاتها لأنّ غياب القراءة يصيّر النصوص الأدبية أشبه ما يكون بالقلاع المقفلة والمنسية، المنطوية على أسرارها. وعليه نذر جهوده في كتابه هذا الموسوم بـ” الأسرار والمكنونات قراءة في تجارب إبداعية” قصد إظهار مكامن أدبيتها والوقوف على أسرار جماليات القول فيها.
وبنى الباحث كتابه على فصليْن كبيريْن، الفصل الأول مداره على السرد وعنوانه ” أسرار الحكايات قراء في تجارب سردية عربية، انشعب هذا الفصل إلى ستة مراكز اهتمام، تعلق كل واحد بعمل قصصيّ محدد. وتعمّد الباحث التنويع في المدونة، إذ لم يحصرها في الرواية، بل احتفى كذلك بأدب الطفل والنص الأقصوصي” حلبة الرهان”. والملاحظ أنّ هذه الأعمال القصصية المشتغل بها رأت النور في العقد الأول والثاني من الألفية الثانية. وهي من جهة كونها نصوصا معاصرة، جديرة بالقراءة والبحث. ويُحسب للباحث حسْن إنصاته للنصوص القصصية، والانطلاق من أبنيتها القصصية وصولا إلى استنطاق معانيها وهتك أسرارها. ففي “عزازيل” يوسف زيدان يرُدّ الباحث على دراسة عقدها صاحبها على “إظهار البهتان في رواية يوسف زيدان”. ولم يكن الردّ انطباعيا، مزاجيا بل جاء في إطار قراءة متأنية أفضت به إلى تقويض القراءة الأخلاقية والدينية للأثر، والنظر إليه، وفيه، من جهة كونه كيانا تخييليا، تُنضد في العلامات بطريقة فنية، تُحدِث في القارئ ما سمّاه ياوس بالوقْع الجمالي أو الصدمة الجمالية . وإذا كان سرّ “عزازيل” لصيقا بما يحدثه في القارئ من أثر جمالي فإنّ أسرار الإبداع في كتاب الطفل عند المسيري كامنة في ما عدّه الباحث عالما تخييليا مركبا تتحاور فيه مكونات شتى( الطبيعة، الفن، الواقع ، الخيال، البراءة، الخبرة…) عالم يَخرج الداخل إلى أسراره بعبَر وفوائد وإحساس بجمالية الفنّ الأدبي. وفي “فرسان الأحلام القتيلة” و”شجرة الباوبات” و”ألواح خناسة”، كان منطلق الباحث الروايات، أبنية فنية، فضاءات وشخصيات وأحداثا، والمآل دلالات، منها ما هو مباشر لا يجد القارئ العادي عسرا في استجلائها، ومنها ما هو خفي جاثم خلف السطور، هي كالأسرار من جهة الاختفاء الذي يتطلب كشفا والإبهام الذي يتطلب بيانا وتوضيحا. ومن الفصل الأول إلى الفصل الثاني ننفذ عبر النظر في مجموعة قصصية موسومة بـ”حلبة الرهان الأصعب”. ويتفطن الباحث هنا إلى أهمية المسكوت عنه في القصة القصيرة جدا، فهي إذ تكتفي بالإشارات الخاطفة والتلميحات العابرة تدعو القارئ إلى فك الشفرات المُبهمة وملء البياضات. ونلج مع الباحث الفصل الثاني المعقود على مكنونات الشعر”قراءة في تجارب شعرية عربية”، في نقلة نوعية من برودة النثر وانسياب السرد إلى توهّج الشعر ونزوعه إلى التثبّت في حيّز، وميله الذي لا يني إلى القبض على اللحظة وتطويقها بالكلمات. واستُهِل هذا الفصل بتمهيد مداره على ما بين الشعر والأسطورة من أسباب وأنساب ستفتح شرّاعة البحث على قضايا لصيقة بطرائق توظيف الأسطورة ودورها في بناء العمل الشعري، وما تخلعه على النص من دلا لات مباشرة وعميقة، فاشتغل بنماذج من شعر السياب وأمل دنقل وحليمة الإسماعيلي وسعيد عبيد وخالد بودريف ودنيا الشداوي.
وتدرج الباحث فؤاد عفاني في مقاربة هذه النماذج الشعرية من العناوين ولوحات الأغلفة، وصولا إلى النص، مستجليا ما استغلق من عميق دلالاته ودقيق مقاصده.
هكذا بنى الباحث فؤاد عفاني عمله ورتب مادته، حريصا على إيجاد خيط ناظم بين الكلام على السرد والكلام على الشعر، لعلّه كامن في الأسرار تبقى في الكلم طيّ الكتمان حتى يفضحها القارئ الفطن أو الذكي، المتشبّع بآليات تحليل النص السردي، والمتسلح ببعض مكتسبات المقاربات السيميائية والتأويلية. وقد أظهر الباحث جدّيّة واضحة في التعامل مع المادة المدروسة ومرونة في التعامل مع المسترفد من المناهج. نشكر له الجهد ونسأل الله له التوفيق.