الكاتبة آيات عبد المنعم/القاهرة.
“ركوة حرف” عنوان كتاب جذبني للنّاقد والشّاعر “طلعت قديح” ؛ وددتُّ أنْ أنقل انطباعي كقارىء عابر يُسجّل بصمة شكر لهذا الجهد المتميّز الّذي يَضمُّ عشرين قراءة نقديّة لعمل أدبيّ في مئتي صفحة.
هذا العمل القيّم يُقدّم خدمة للكاتب المبتدىء فالقراءة النقديّة الجيدة تُعلمنا كيفَ نكتب، وكذلك تُضيف للكاتب المتمرس الّذي يحتاج لعين خبير مختصّ تقرأهُ ليتطور عزفُ موسيقاه علىٰ أوتار السطور.
كذلك توفر للقارئ أرضيّة خصبة للاطلاع على أكثر من عمل أدبي، وتفتح شهيّة انتقاء البعض منها إن لم تجعل المصابين بداء “الببلومانيا” بالاستحواذ عليها كُلّها.
إنَّها تمنح لنا فرصة الجلوس مع نخبة عقول مُبدعة حيثُ أنَّ الكاتب “طلعت قديح” يتقمّص ببراعة دور “باريستا” صانع قهوة خبير متمرّس ينتخبُ عدّة نصوص بعناية فائقة كحبّات بُن ناضجة يُمحّصُ أفكارها ويُجِيد التعامل مع أذواق القُرَّاء فيُقدِّم ثلاثة عشر نصًّا شعريًّا، وسبعة أعمال أدبيّة فيها نصّ ومجموعة قصصية واستعرض خمس روايات، تميزت الانتقاءات باختلاف مشاربها، وتنوع مضامين البوح فيها بين الحبّ الممزوج بنفحة صوفيّة، ورثاء للوطن الغائب، أو تفاصيل لواقع سياسي نعيش أزماتهُ الحيّة، أو رحلة إبحار في الذات.
كلّ تلك النصوص مُعالجة بحرفيّة عالية ليس على الصعيد اللُّغويّ فحسب الّذي برع فيه الكاتب، بل استوقفني جودة التحليل، وكأنّهُ يمنح للقارئ عين ثلاثية الأبعاد (3d) يُعلمنا كيف نقرأ، ونتجاوز السّباحة علىٰ سطح الحروف، أنْ لا نكتفي بالوقوف على الشاطئ والتغزّل في البحر.
كان قلمهُ جوادًا حيثُ كان النصّ يحتاج إلى الجغرافيا يمنح إطلالة “لنهر الدّانوب”، ويعطي للقارئ دلالة كافية لغاية الكاتب من هذا التوصيف.
إنْ وجِدَ التباس في بعض التصورات الفلسفيّة للكاتب يُعدّلها فيوضح مثلاً التمايز بين المُلحد والعلماني، يمنحُ نُبذة خاطفة لليساريّة، يتوغَّل في النصوص الدينيّة إنْ لزم الأمر المهم لا يترك أيُّ قارئٍ يتوه في منتصف السطر، لكن في نفس الوقت حبرُ الكاتب متعاون يؤمن بأنَّ القارئ شريك ثاني في نقد النقد يُفسح المجال للتحليق في فضاء النصّ علّنا نقطف ثمارًا جديدة أو نلمحُ رطبًّا سقطَ سهوًا.
قبل أن أختم لابدَّ للإشارة إلىٰ جماليّة أن يكون الناقد شاعرًا لأنَّهُ سيُغدق الكثير من الدَّلال على النصوص الأدبية ويتعامل مع حرف المؤلف برفق ويحترم تجربته الشعريّة، بل يستطيع أن يسبر الأغوار النفسيّة للشاعر أو الأديب، وهذا ما تراه حينَ تقرأ “ركوة حرف” تستطيع أنْ تلمسَ كيفَ أنَّ روح الشّاعر عندَ الأستاذ “طلعت قديح” تستيقظ تارةً وتغلِبُ علىٰ حرفِ الناقد في بعض النصوص، فتخلقُ لنا تأويلًا يُواكب جماليّة النصّ أو قد يتجاوزه.
ما كتبتُ هو نُبذة عن مرافقتي للكتاب عشرون ساعة متفرقة بدأتها من صباح يومِ صيامٍ كان فيها “ركوة حرف” بمثابة قهوة بديلة فاخرة لم احتج فيها إلى فنجان قهوة يُعدّل المِزاج إلاّ مساءً علىٰ السّهرة، وقُبيل مشارف الفجر لأسكبَ قليلًا من إغواء رائحة الورق العالقة بِكفّي..