الكاتب وجدي الأهدل / اليمن
رئيس دولة الأدب
أنفق البروفسور الإنجليزي جيرالد مارتن قرابة العقدين من عمره لكتابة حسنات وسيئات شخص يحمل اسماً عادياً: غابرييل غارسيا ماركيز.
ولكن حامل هذا الاسم لم يكن رجلاً عادياً، فهو الأديب الذي فاقت شهرته شهرة جميع رؤساء جمهورية بلاده (كولومبيا) وأصبح يعد بين أربعة أو خمسة خالدين في التاريخ من أبناء أميركا اللاتينية.
ويعد الكتاب الذي تربو صفحاته على السبعمائة وسبعين صفحة وعنوانه “سيرة حياة غابرييل غارسيا ماركيز” مفتاحاً مطلسماً ينقلنا في غمضة عين من العالم العادي الذي نحياه إلى عالم سحري مصنوع من الكلمات لا غير، يفتننا ويغوينا ويسلب لبّنا، ويجعلنا على تماسٍ مباشر مع أسطورة “الإوزة التي تبيض ذهباً” ويرينا لحظة بلحظة كيف تحول ماركيز من شاب عادي لا يلفت نظر أحد، إلى روائي عبقري هائل التأثير على أرواح الملايين من البشر.
حكاية الإوزة التي تبيض ذهباً التي ترويها الجدات تحققت بصورة رمزية في شخص هذا الكاتب، والمستحيل أضحى حقيقة واقعة.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام: “الوطن: كولومبيا” و “خارج الوطن: أوروبا وأميركا اللاتينية” و “رجل العالم: الشهرة والسياسة”. والأقسام الثلاثة تتفرع إلى ستة وعشرين فصلاً: “من أصول مغمورة، عقداء وقضايا خاسرة، بيت في آراكاتاكا، رفقة جده، أيام المدرسة بارانكيا وسوكري وثيباكيرا، الطالب الجامعي والعنف في بوغوتا، العودة إلى الساحل صحافي متمرن في كارثاخينا، بارانكيا بائع كتب وجماعة بوهيمية، العودة إلى بوغوتا مراسل صحفي من الطراز الأول، اكتشاف أوروبا: روما، جائع في باريس: البوهيمية، ما وراء الستار الحديدي: أوروبا الشرقية إبان الحرب الباردة 1957، فنزويلا وكولومبيا: ولادة الأم الكبيرة، الثورة الكوبية والولايات المتحدة الأمريكية، هروب إلى المكسيك، ميلكيادس الغجري: مئة عام من العزلة، الشهرة أخيراً، برشلونة والانتعاش في أميركا اللاتينية، الأديب المستوحد يكتب ببطء خريف البطريرك والعالم الأرحب، تشيلي وكوبا: غارسيا ماركيز يختار الثورة، عودة إلى الأدب: قصة موت معلن وجائزة نوبل، نوبة الشهرة وعطر الغوافة: الحب في زمن الكوليرا، خلافاً للتاريخ الرسمي: بوليفار غارسيا ماركيز، عودة إلى ماكوندو خبر كارثة تاريخية، غارسيا ماركيز في سن السبعين وما بعدها وغانيات حزينات، خاتمة: الخلود ثيربانتس الجديد”.
ويذكر جيرالد مارتن في مقدمته للكتاب أنه التقى بأكثر من ثلاثمائة رجل وامرأة ممن لهم علاقة من قريب أو كانت لهم صلة ما في وقت بعيد بماركيز. ومن هؤلاء شخصيات ذات مكانة بارزة في العالم لم يكن من السهل مقابلتها مثل فيدل كاسترو رئيس كوبا المتقاعد، وفيليب غونثالث رئيس وزراء إسبانيا السابق. كما قام جيرالد مارتن بفحص أطنان من الوثائق ليؤلف كتابه هذا، حيث قرأ كل المقالات والتقارير الصحفية والقصص التي كتبها ماركيز وحتى الرسائل التي تبادلها مع أصدقائه، بالإضافة إلى قراءة عدد لا يحصى من الكتابات النقدية المنتشرة في صحف ومجلات العالم وبلغات عديدة. وهو يقر بأن هذه المهمة احتاجت منه إلى مثابرة وجلد عظيمين “لا تنهمك فيها إلا الكلاب المسعورة والإنكليز” وأن يفني ربع عمره لإنجازها. وأي شخص يطالع الكتاب سوف يدهش من غزارة الهوامش الملحقة بآخر الكتاب التي أخذت لوحدها سبعاً وسبعين صفحة، وبمعدل وسطي يقارب العشرين إشارة مرجعية في الصفحة الواحدة. وكرد على هذا المجهود البحثي الملتزم بالدقة إلى حد الهوس يُصرح غابرييل غارسيا ماركيز متنهداً: ” آه، حسناً. أعتقد أن كل أديب يحترم نفسه لابد له من كاتب سيرة إنكليزي”.
ويصف جيرالد مارتن كاتب السيرة المثابر في أسطر قليلة موجزة المسار الذي وضعته فيه الأقدار ليكون بمثابة الملاك الموكل بتدوين أفعال غارسيا ماركيز الدنيوية وتحري ما نتج عنها من خير أو شر:
” لقد اشتغلت لإنجاز هذه السيرة سبعة عشر عاماً. وبخلاف ما ذكره لي كل من كلمته في الأيام الأولى:( لن تتمكن من لقائه، وإذا ما التقيته، فلن يتعاون وإياك) فقد بدأت ألتقي الرجل بعد بضعة أشهر من بداية العمل، وبالرغم من أنني لا أستطيع القول إنه كان يفيض حماسة: ( لماذا تريد أن تكتب سيرة؟ كتابة السيرة تعني الموت) إلا أنه كان ودوداً حسن الوفادة ومتسامحاً. في الحقيقة، إنني كلما سئلت إن كانت هذه السيرة مرخصاً لها، فإن ردي كان دائماً هو: (لا، إنها ليست سيرة مرخصاً لها، بل هي سيرة مسموح بها) لكنني دهشت وشعرت بالامتنان عندما أعلن غارسيا ماركيز أمام الصحافة العالمية في العام 2006 إنني كاتب سيرته الرسمي. لعل ذلك يجعلني كاتب سيرته الوحيد المسموح به رسمياً! كان ذلك امتيازاً استثنائياً”.
غارسيا ماركيز اسم من ألماس
صرح فيدل كاسترو مرة عن صديقه الأثير غابرييل غارسيا ماركيز مُعظماً قدره وسلطته المعنوية في العالم بقوله: “إنه رئيس دولة، ولكن أية دولة؟”. وعندما نتصفح الكتاب في فصوله الأخيرة ندرك أن سلطة ونفوذ غارسيا ماركيز السياسية، والأدوار التي لعبها في الساحة الدولية توازي سلطة رئيس جمهورية أو عدة جمهوريات مجتمعة. وهو الشعور الذي ينتاب الكثير من المراقبين، وأولهم طبعاً فيدل كاسترو الزعيم السياسي الأكثر شهرة وشعبية بين رؤساء أميركا اللاتينية. وبدون شك نجح غارسيا ماركيز في أن يحوز مكانة عالمية تضعه على قدم المساواة مع الملوك والرؤساء، مع فارق أن كفة الميزان ستميل إلى صالحه حتماً في المستقبل، لأن الزمن الذي لا يرحم سيطوي ذكر أولئك السياسيين الذين سيعبرون كأشباح في حاشية الكلام عن العبقرية الماركيزية التي عبرت سماء العالم كشهاب ساطع.
تمكن مؤلف الكتاب من وضعنا في صورة هذا الإنجاز الاستثنائي لأديب معاصر، كان بإمكانه مثلاً التوسط بين دولتين لحل الخلافات السياسية بينهما، والتأثير على صنع القرار السياسي في خمس دول على الأقل. إنه مجد لم يبلغه أحد من قبله ولا في زمانه، ويكاد يكون الأديب الوحيد الذي تمتع بهذا القدر من التأثير السياسي على مر التاريخ.
يحفل الكتاب بمعلومات غزيرة عن الحياة الخاصة لغارسيا ماركيز، وكفاحه المستميت للحفاظ على جذوة الكتابة متقدة في روحه أمام عوارض الزمن وعواصف الحياة. ليس سهلاً التمسك بأمل الكتابة واعتبارها السبب الأول والأخير للوجود بالنسبة لشخص فقير كان يضطر إلى عدم الالتزام بأي عمل مفضلاً الإخلاص التام للكتابة، بينما هو لا يجد ثمن وجبات الطعام متحملاً أقصى درجات الجوع حتى إنه اضطر في بعض الأوقات إلى الأكل من القمامة.
يعلمنا هذا الصبر الماركيزي على حرفة الكتابة ومشاقها درساً بليغاً نحتاجه نحن الأدباء العرب أكثر من غيرنا، فهو لم ييأس أبداً من نيل النجاح، ولا سعى إلى خفض جناحه للسلطة في بلاده ليحصل على وظيفة تمنحه حياة آمنة، بل على العكس حاول قدر استطاعته الابتعاد عن إغراءات السلطة، وحافظ على مسافة حفظت له استقلاله وحريته، وهذه الصلابة هي التي أنقذته من أن ينحط بنفسه في العمل مع حكومات فاسدة تسلبه بالتدريج إرادته. ولا أقصد هنا الوظائف الصغيرة أو الهامشية، بل تلك الوظائف الماسة بعصب النظام، فنجد المثقف العربي يتسلق السلم ليتبوأ هكذا مناصب في صفقة مريبة مع سلطات بلاده.. ربما يكون من المفيد جداً للأدباء الشبان قراءة سيرة غارسيا ماركيز، لأن أهم ملمح في حياته على الإطلاق هو الاستقلال بذاته وعدم الخضوع لأية سلطة. وهذا الإباء والاعتزاز بالنفس هو ما حافظ على سلامة روحه وموهبته من الإفرازات العفنة لآفة التسلط المستشرية التي لا يكاد ينجو منها إنسان في عالمنا المعاصر إلا في النادر.
كبوات غارسيا ماركيز أم مؤلف الكتاب؟ّ!
يضع مؤلف الكتاب عدسة مكبرة على أخطاء غارسيا ماركيز ويضخمها، وتأتي في مقدمة أخطائه – من وجهة نظر المؤلف والعالم الغربي- رفضه إدانة كاسترو بسبب قضية اعتقال السلطات الكوبية للشاعر “هيربيرتو باديّا”. وكان كبار الأدباء في باريس قد وجهوا رسالة احتجاج إلى فيدل كاسترو نشرتها جريدة اللوموند، وتضمنت الرسالة أسماء عدد كبير من الأدباء منهم: جان بول سارتر، سيمون دي بوفوار، خوان غويتسولو، ماريو فارغاس يوسا، خوليو كورتاثار، بلينيو مندوثا و .. غابرييل غارسيا ماركيز الذي طالب فيما بعد بشطب اسمه، حيث تبين أن بلينيو مندوثا افترض أن ماركيز سيؤيد الاحتجاج فوقع نيابة عنه. وكان رد فعل كاسترو على رسالة الاحتجاج عنيفاً ومتحدياً. وبسبب مواقفه المتذبذبة تضررت علاقته بكوبا ضرراً بالغاً، كما أنه فقد صداقة معظم الأدباء الذين وقعوا على البيان. والمؤكد أن هذه هي اللحظة التي دخلت فيها حياة غارسيا ماركيز السياسية في تعقيدات لا نهاية لها، وجعلته يبدو من وجهة نظر البعض “منافقاً”. ولتقدير أهميتها يصفها مؤلف الكتاب بقوله: “أهم أزمة بلا أدنى ريب في السياسة الأدبية في أميركا اللاتينية في القرن العشرين أدت إلى انقسام بين المثقفين الأميركيين اللاتينيين والأوروبيين على مدى عقود تالية من الزمن”.
وبما أن ماركيز سوف يتخذ فيما بعد وطيلة سنوات عمره اللاحقة مساراً سياسياً مؤيداً للثورة الكوبية على طول الخط غير مبال ٍ بالانتقادات الغربية لكاسترو ونظامه، فإن مؤلف الكتاب يوحي ضمناً – ولا يجرؤ على التصريح- بأن هذه العلاقة السياسية تبدو تناقضاً بين الكاتب ومبادئه الإنسانية، وأنها نالت من سمعته على نحو ما. يلتفت كاتب السيرة إلى التغييرات التي أصابت غارسيا ماركيز بعد الشهرة المفاجئة التي انحطت عليه بعد نشره رواية مائة عام من العزلة، وبأسلوب بارد يسجل التحولات التي أصابت غارسيا ماركيز:
“إن هذا الشخص الجديد – رجل الستينات الحقيقي على ما يبدو- استفزازي ومغرور ودوغمائي ومنافق وغير مهذب بملء إرادته، لكنه مع هذا تصعب معرفته معرفة عميقة. لكن الناس سيحبونه لكل هذه الصفات لأنه يبدو واحداً منهم، يُهوّل الأشياء ويتملص بفضل ذكائه الذي هو ذكاؤهم، وهو وجهة نظرهم بالعالم”.
قد يبدو مؤلف السيرة متحاملاً على غارسيا ماركيز، لأننا في هذه الحالة لن نستطيع معرفة الحقيقة إلا إذا قابلنا غارسيا ماركيز نفسه وجهاً لوجه، ولمسنا هذا الجانب من شخصيته. ولكن على كل حال أي رجل في مكانة غارسيا ماركيز الشاهقة لابد وأن يشعر من حوله بالتضاؤل والتهميش، وسوف يتم تضخيم تجاهله لهم كإشارة إلى أنه متكبر ومغرور وما إلى ذلك من المشاعر السلبية التي تنتاب الناس في حضور المشاهير.
المثلبة الثالثة التي يرصدها جيرالد مارتن في مسيرة حياة غارسيا ماركيز هي تعلقه العشقي بالسينما، وإنفاقه ثروته بإسراف على معهد السينما ومؤسسة السينما في كوبا، وهو يرى من وجهة نظره أن تجربة غارسيا ماركيز مع السينما لم تكن موفقة، فقد أعطاها وقته وماله، ولكنها لم تعطه في المقابل أي نجاح يذكر. أي أنه حب من طرف واحد: “إنه يحب السينما، ولكن السينما لا تحبه”.
يُعرج جيرالد مارتن على النص المسرحي الوحيد الذي كتبه غارسيا ماركيز وتم عرضه على خشبة المسرح في الأرجنتين وانتهى بكارثة، حيث تكالب عليه النقاد من كل جانب، ونال من الهجاء ما لم ينله أي عمل آخر لغارسيا ماركيز، وهو ما جعل الأخير يكف عن الكتابة للمسرح مرة أخرى.
وإذا أتينا إلى عكس الصورة، وقلبنا السحر على الساحر، فإن جيرالد مارتن مؤلف السيرة لم ينج عمله- رغم روعته- من المثالب، ولعل أبرزها ما بدا وكأنه يكتب وعينه على مذكرات غارسيا ماركيز “عشت لأروي”. فتارة يؤكد صحة ما ورد في مذكراته، وتارة أخرى يفند المغالطات أو المبالغات ويوردها صحيحة! وهذه “حنبلية” تدقق في تفاصيل لا حاجة للقارئ بها، ونسي هذا الإنجليزي العتيد أنه بعمله المدقق هذا – الذي يشبه عمل مدقق الحسابات في شركة- يُفسد عمل الذاكرة وطريقتها الفريدة في التذكر وما يمتزج بها من خيال مزخرف.. وغارسيا ماركيز في مذكراته أورد ما انطبع في ذاكرته عن أيام طفولته، وهو ليس معنياً بالتأكد من صحتها. ومنها مثلاً حادثة مقتل ثلاثة آلاف من عمال شركة الموز التي حكاها له جده مرات ومرات. يتمسك غارسيا ماركيز بجمال هذا الرقم وشاعريته، بينما يرفع جيرالد مارتن كارتاً أحمر في وجه غارسيا ماركيز، ويورد وثائق تثبت أن القتلى كانوا أقل من هذا الرقم بكثير. وهذا هو الفارق الجوهري بين مذكرات غارسيا ماركيز وكاتب سيرته، فالأول يهتم بما انطبع في ذاكرته، بينما يهتم الثاني بالحقائق والأرقام والوثائق الدامغة.
نعم جاء هذا الكتاب – وهو كتاب ثمين- في وقته، رغم أن غارسيا ماركيز صاحب السيرة بدا متشككاً في نوايا جيرالد مارتن الدفينة، وأدلى بملاحظة تظهر تبرمه من تأخر صدور السيرة بقوله: ” يبدو أن جيرالد مارتن ينتظر أن يحدث لي شيء ما لكي يصدر كتابه!”. وعلى كل حال كان هذا التأنيب كافياً لكي يسارع جيرالد مارتن بإصدار السيرة، وأن يكف عن انتظاره الماكر لوفاة غابرييل غارسيا ماركيز.