بقلم: عبدالله علي شبلي. كاتب وناقد / المغرب
لقد شكلت الطفرة التكنولوجية نقلة كبيرة في العالم غيرت معها الفاهيم والقيم ، واستحدثت عالما خاصا بها ، فرضت فيه بقوة أيجدياتها وحدودها الخاصة ، بل تعتبر طفرة منفتحة يستحيل التحكم فيها ، أو توقع حدودها المستقبلية ” معها يبدأ عهد ثقافة جديدة وعالم جديد ليس من اليسير استشراف حدوده النهائية لكثرة ماهي متنقلة دوما إلى الأمام ، ولا التنبؤ بجميع ما يمكن أن يحمله من مفاجآت في العقود القادمة من الألفية الثالثة ” *1
ومن أبرز تجليات هذه الطفرة عربيا، غياب القراءة بمفهومها الراقي الذي ينتج أفهاما تصلح وتؤسس وتبني جيلا جديدا راقيا ، يغير ويشيد عوالم جديدة قادرة على رفد حضاري وقيمي، به يعم المبدأ ويسيد التطور الانساني الذي يعلي الآدمية ، ويحقق مسعاه ممثلا بخلافة الإنسان لله في كون قمين بعيش حقيقي ، يبني وينمي، يكد ويجد، ليحقق عمارة الأرض بالصالحات .
وفي هذا الزمن الذي سبق وسمه بميسم “كورنة القيم “*2 ، ندرك بجهد قليل ،وتفكير اقل أن السيطرة الافتراضية صارت طابعا عاما يمتلك اغلب الفضاءات ويغطي كل الأمكنة ، حتى كأنه لا يكاد يترك للواقعي واليومي مكانا يتجسد فيه. ويعبر خلاله عن ذاته.
ولئن اختلفنا في أسباب ذلك ، والعوامل المتداخلة التي أفرزت هذا الواقع الجديد لزاما ، فإننا لن نختلف ابداً في كون هذا التخلق الجديد يقتل لاشك كل ما هو انساني فينا ، ، إنه واقع افتراضي لاشك ، إن لم نقل أنه صار ادمانا مرضيا في امتداداته الكثيرة ، وتأثيراته الاجتماعية والتربوية والنفسية . ويتجلى هذا الأمر رأسا في أوساط أسر غير متعلمة وشبه متعلمة ايضا ، بل وحتى متعلمة ، غير أن ما يوحدها غالبا هو تخلي الآباء عن مسؤولياتهم الأساسية المتمثلة أساسا في المراقبة والتتبع ، وجعلها محصورة في توفير الخبز اليومي والملبس والمشرب. وكأنما ما خلق هذا الكائن إلا ليأكل ويشرب ويتناسل. بينما رسالته أجل وأعظم من ذلك ، أنبل وأكمل وأثقل ، إنه خليفة الخالق نفسه ، خلق ليعمر الأرض بصوالح الأمور.
ومن وجهة نظر سيوسيوثقافية نلاحظ تغير اهتمام الفرد بشكل كبير واستبدال المحاور القديمة التي كانت سائدة مثل الكتاب ،المسرح والسينما ، بأشياء أخرى مناقضة لا علاقة لها بما سبق.
إنها تبديلات وتنويعات مفروضة ، فرضها واقع جديد ، لا علاقة له بالقديم. فصار ثالوث آخر يسيطر ويتسيد هو الرياضة ،الغناء ووسائل التواصل الاجتماعي ، وإن كنت أرى أن الأنترنت هو النجيع الذي يمد هذه الأثافي الثلاث بالحياة ، ويعطي لوجودها معنى محققا.
وكاننا، والحالة هذه، قد استبدلنا الثقافة بالغناء وجعلنا من الرياضة كتابا. (واقصد الرياضة مشاهدة وتتبعا لا ممارسة طبعا ).
وتجلى هذا التحوير الجذري في أفهام الناس وتصوراتهم عن الثقافة والوعي والموسوعية، حتى صرنا في أحايين كثيرة نسمع استصغار من لا يلم بالمعلومات الرياضية واحتقاره ، وكأنه ارتكب جرما ،حين لا يستطيع إدراك اسم من الأسماء الكروية اللامعة ، حتى كدنا أن نقول أن المثل السائر “فلان أشهر من نار على علم وجب استبداله، بقولنا فلان أشهر من لاعب كرة قدم، وأصبح التافه من الناس والمتخلف فينا من لا يجيد حفظ اغنية إسفاف وابتذال أريد لها أن تحفظ وتشهر ، حفاظا على وضع قائم ، أو استجلابا لمغنم وافر ، او لعله فقط تلهية واستلابا لجيل طويل عريض من الناس.
هذه القدوة – الملهاة هي التي صارت ديدنا مفروضا يبتغي تنميط الأذواق ، بل وتشكيل المبادئ وطرق التفكير وفق مقاس محدد، يتوافق مع مرجعيات فكرية وايديولوجيات نمطية ، وتمترسات تخدم جماعات متحكمة في العالم ومدخلاته من بعيد، تحكم الفنان المسرحي الحذق في عرائس الأراجوز.
إن غياب النص الابداعي والثقافي عموما يعتبر أحدى التمظهرات الواضحة لسيطرة مطلقة لما هو رقمي ترفيهي رياضي ، وهذا يبسط الفرش لعوالم أخرى باتت تفرض نفسها على هذا الجيل الرقمي ، ويجعل القدوة التي كانت مرتكزة على العلم والتثقيف تتبخر تماما ، لتتسيد زعامات كرة القدم في الدوريات المشهورة ، وفنانات الغناء والاغراء، والرقص الاستعراضي .
هذا التتفيه الذوقي هل هو امتداد طبيعي للتحولات الديمغرافية والاجتماعية التي يعرفها المجتمع ؟
وهل هو نتيجة حتمية للقفزة العولمية التي شهدتها السنوات الأخيرة في كل البقاع معلنة هيمنة الافتراضي والرقمي *3؟
أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مخططا معدا بإحكام مرامه الإلهاء والإبعاد حصرا للطاقات ودرءا لمخاطر التثقيف والتوعية ، لكونها شكلت في ماض قريب جيلا قادرا على التحليل والنقد ، مصرا على التحرك بل و التمرد ؟
فشكلت الثقافة بذلك وقوده الأساسي لتشكيل الوعي وممارسته على أرض الواقع ، وهو ما لا تريده قلة قليلة متحكمة في الأوضاع. وتسعى إلى الحفاظ عليها كما هي ، تغليبا للمصالح الذاتية وتحقيقا لغايات ومآرب جمعية أو قبلية نفعية.
لذلك نقول أنه لن يخطئ المتتبع الحذق اليوم في الاقرار بتراجع ما هو ثقافي ابداعي، أمام السيل الجارف لما هو افتراضي رقمي ، فقد غدت وسائط التواصل الاجتماعي متربعة ، وصار مشاهير الفن والرياضة ، أهل لكل تشريف وتكريم. فغدت مباريات الكلاسيكو تتشح وشاح الثقافة العامة ، واصبح أبطالها أسيادا حق لهم الأتباع واستحقوا الإتباع ، تربعوا على الشاشات و القمصان ، وملكوا القلوب بعد العقول ، فتغيرت القدوة جذريا من تغليب الثقافة والقيم إلى تسويق الصورة والموديل، وأصبح الغناء ميسما عاما لكل الأذواق ، خاصة لدى الشباب والمراهقين. وهذا الأمر يعني استتباعا تراجع ماهو ثقافي ابداعي خاصة النص الأدبي بمفهومه العام والممتد ، ” على أن الحياة الوحيدة التي نعيشها هي الأدب ، إنها الحياة التي نجدها بمعنى من المعاني ، في كل وقت لدى كل الناس ” *4
وبغض النظر عن توجهاتنا الثقافية التي تتحكم في إصدار أحكام قيمة على الأمور ، وتجاهلا لتمترسنا الإيديولوجي الذي تفرضه تموقعات اجتماعية وطبقية ، وانتماءات عقدية ودينية ، فإن لهذا الطوفان الهائل أسبابا يتداخل فيها ما هو نفسي بما هو اجتماعي وتربوي.
على الصعيد الاجتماعي لا خلاف في كون الأسرة باعتبارها نواة المجتمع الأولى قد مستها تغيرات كثيرة جوهرية، وان كانت تختلف من مجتمع الى آخر، حسب درجة وعيه، ونمط عيشه، وطبيعة العلاقات التي تحكمه، غير أن نهجا عاما لوحظ سيطرته في المجتمعات العربية، ويتمثل أساسا في تراجع كبير للدور الريادي للأب باعتباره قدوة، وأنموذجا قادرا على غرس القيم الدينية، وحراستها، والسهر على احترامها ونشرها، وهذا يوازيه أيضا، تخل واضح للأم عن تموقعها داخل الأسرة، حيث صارت مستلبة، تائهة تبحث لنفسها عن تموقع يثبت هويتها، ويترجم ذاتها بشكل يتوازى مع رسالتها النبيلة أما صالحة مربية، وشقيقة للزوج في التكوين والتتبع.
هذا التغير الاجتماعي الذي ضرب اعصاره اغلب المجتمعات، ترافق مع ترف ملحوظ في بعض المجتمعات العربية، خاصة الخليجية منها، إلا أن هذا الغنى لم يوازيه تطور معرفي ثقافي، ولا قفزة قيمية كفيلة بصنع التغيير الإنساني الذي ينشده المجتمع، هذا الترف نفسه كانت له عواقب وخيمة على المدى البعيد والقريب ايضا، لقد أكسب ثقة عمياء للشباب العربي في المستقبل القريب وعودهم العجز والتكاسل، مما اثر في صناعة القيم، وخلخلة كثير من الثوابت الدينية التي تربط المال بثمرة العمل، بل وترقيه الى درجة العبادة، فصار الإنسان ينتظر رخاء لم يصنعه، وتعود العيش في بحبوحة لا يستحقها.
يعتبر ميل أغلب الناس الى عوالم الترفيه والترويح عاملا أساسيا في بعد العامة عن التعاطي للشأن الثقافي، واستبعاد الكتاب والإبداع، خاصة في أوساط المجتمعات العربية، تلك التي لا تخصص ميزانيتها دعما قارا وذا شأن للشأن الثقافي. كما أن الأسر، وفي أغلبها، لا تعاقر الكتاب، ولا تتوجه رفيقا محوريا، ولا أنيسا، بل تعوضه بالتلفاز والهاتف والحواسيب اللوحية.
وإذا زدنا على ذلك هذا الصخب الإعلامي الجارف، الذي يرافق التشهير للأغاني والمهرجانات الثقافية والرياضية، إتضح الفاعل في كل ذلك. وصار المتلقي بطريقة غير واعية في اغلب الأحيان مجرورا الى تتبع اخبار الرياضات التي تستولي على معظم الشاشات، وسماع اغلب الأغاني مجبرا، تلك التي سيطرت على معظم موجات الراديو، بينما توارت واختفت معظم البرامج الثقافية والأدبية التي كانت تزخر بها معظم الاذاعات العربية.
وهذا المزاج العام السائد وحده يحتاج دراسات مطولة تستدعي استحضار ماهو نفسي اجتماعي، دون اغفال التربوي والاقتصادي.
ونعتقد جازمين، أن الدور الأساسي الذي يجب أن يحسم الأمور، ويعيد الثقافي -الإبداعي إلى التسيد من جديد، لن يكون سوى الأسرة الواعية – المثقفة والملتزمة، باعتبارها نواة المجتمع الأساسية، فهي قادرة، إن إلتزم أهلها، بإرجاع الأمور إلى صوابها، وإعطاء الثقافة الحقيقية مكانها الحق، وتتويج الفكر والابداع رافعتين نحو الرقي بالمجتمع، وتحقيق تقدمه لسعادة الفرد ونيله ما يستحق من رفاهية منتجة، وعلم يبني، يعلي، ويغني، وهذا ما تفرضه الرسالة السماوية استتباعا لمفهوم خلافة الله في أرضه، لحمل الأمانة الثقيلة والعظيمة .
الهوامش :
1.عبد الرزاق الداوي /الفلسفة في عصر العولمة وتكنولوجيا المعلومات .عالم الفكر العدد 2 المجلد 41 . 2012 ص 176 .
2. مقالة سابقة لي تم نشرها تحت عنوان كورنة القيم. ونحت المصطلح على وزن فعللة اشتقاقا من لفظ كورونا. وذلك لوسم التغيرات الاجتماعية والثقافية التي طالت المجتمعات عموما ممثلة في أبرزها بالعزل والتباعد والحجز، وهو ما يهدد الكائن البشري في طبيعته الاجتماعية.
3. واجب لفت الانتباه إلى أمر معين ، وهو أن هذه الطفرة الرقمية لا نرى لها أثرا ايجابيا في الدول العربية إلا لماما ، خلافا لبعض الدول الغربية والشرق أسيوية التي استطاعت أن تفيد من مجالات الرقميات، وتجلى ذلك أساسا وظهر جليا في توظيف التعليم عن بعد ورقمنة الخدمات أثناء فترة الحجر الصحي، مقابل فشل ذريع في منظومات الدول العربية.
4. /إمانويل فريس وبرنار موراليس. قضايا أدبية عامة. ترجمة لطيف زيتوني .عالم المعرفة ع 300. فبراير 2004. ص 110.