ذ. جميل فتحي الهمامي /باحث في الحضارة العربية/ تونس
إنّ قدر الكتابة أن تحمل عنا ثقل الفكرة من غير أن تتهيب مراودتها. وأيضا أن تفتح للذات طاقة للحلم المحاصر بين مصائد الحياة الموشومة بالمكابدة، فيها تتجدد الرؤية وينتعش الخيال في أفيائها. فمنها نصوغ ذواتنا من جديد ونعيد تركيب لعبة الحياة والوجود. نجترح مسارب تقتنص عبرها الذاكرة كل عصي على أن يكون قبض أيدينا، دون أن نملي على القلم من أي البحور يغترف، فكل البوح الخفي والمعلن هو تمرين على مقارفة السعادة وتحصيل لنشوة الحضور، ونحن إذ نخوض غمار الكتابة ندخل مملكة الحكي دونما اشتراطات معلنة، فسيدة الكلمات تملك أمر معبدها وتمنح عطاءها الجزل لكل من هو حفي بكرمها.
بعيدا عن اللغة الإنشائية، اليوم صار كلّ من هبّ ودب كاتبا وهذا في حدّ ذاته جريمة بحقّ الأدب وبحقّ التاريخ وبحقّ أجيالنا القادمة… فماذا سيقرؤون عندما يختلط الحابل بالنابل ؟ وماذا سيقرؤون عندما لا يستطيعون التمييز بين الغثّ والسمين ؟ أسئلة مشروعة نطرحها في زمن استباحة الحرف والكلمة. إنّ الكتابة تُحقّق الجمال وتظهره. كيف ذلك ؟ لنا ان نتساءل… ذلك أنّ أعلى إنجاز للجمال حسب الكاتب بومغارتن ندركه في الطبيعة، ولذلك فإنّ تقليد الطبيعة ومحاكاتها هو من مهامّ الفن السامية، وهذا ما تحققه الكتابة. إننا حينما نرى بعض المشاهد الطبيعية التي تَسْلُبُ العاقل لُبَّه، والناظِر بَصَرَهُ، والمُتَمَتِّعَ روحه، أو عندما نتعرض لموقف أو نسمع قصصاً مؤثرة لأحدهم، أو نتعرف على أناس هم آية في طهارة النفس، ونُقِيِّ الروح؛ نقول “أووه” سرّاً أو جهراً، لفيضِ قلوبنا من روعة ما نرى ونسمع ونُحِسّ، وكأنّ الله أضفى جمالاً إلهيّاً على الكون. وقد نحاول تحويل تلك الروعة والجمال وترجمتها إلى كلمات مكتوبة لنَجعلَ منها فكراً أو فنّاً. فيبدأ في استنظام وصفها شعر الشعراء، وبلوغها أدبُ الأدباء، فتكتسبُ الكتابة حينها جلالها وجلاءها، وتُحقّق هدفها. وللأمانة الأدبية، وجب علينا دقّ ناقوس الخطر، ذلك أنّ مع ازدياد أعداد الأقلام العربية الشابة، واتساع رقعة مواقع التواصل الاجتماعي واعتبارها منبر من لا منبر له، منبر لكل من هبّ ودبّ أن ينثر فيها ما فاضت نفسه، وما اختلج شعوره وأوحى له خياله، أصبحت أرى أن أدبنا في انحدار، فمثلنا كمثل السوق، كلٌّ يعرض فيه بضاعته، ومن البضاعة ما هو غالٍ وثمين لا يطاله إلا مقتدر، ومنها ما كان بثمن بخس، فكلماته معدودات لا يربطهنّ رابط يشعرك أنها تحمل معنى مفيد بين طياتها. والكتابة يا معشر القرّاء هي بحر عميق لا تخض عبابه وأشرعتك ممزقة فتغرق فيه. وإنّ أكثر ما يصيبني بالإحباط والاشمئزاز في آن، هم من اتخذوا الكتابة سلعة لكسب رزقهم، يا ويلنا، أو يأتي علينا زمان نبتذل في الكتابة حتى نملك قوت يومنا، ويجدر بي في الختام أن أنوه أنني في مقامي هذا لا أدعو إلى نبذ الحب أو تجنبه في الكتابة، فمن رأى نفسه أنه يرفع الحب منازلًا عليا ويضعه موضعه الصحيح فليكتب، وإنني أيضًا لا أنفي جمال الكتابة في عصرنا الحالي، فكثير من الأقلام الشابة اليوم يمتلكون حظًا وافرًا من جمال القلم وحرفيته ويصوغون كلماتهم بنغم كأن الواحد منهم قائد أوركسترا في مسرح أوبرا.
في الختام، وجب على النقّاد والكتّاب والجمهور على حدّ سواء التصدّي لهذا العبث الفكري من اسهال لفظي واستباحة لحرمة الكتابة واستسهال هذا الفعل… ففعل الكتابة ليس رسالة حب يرسلها عاشق لمحبوبته، فتتجاوز عن الأخطاء اللغوية، وعن العبارات الركيكة كونها تترصّد المادّة العاطفية الموجودة فيها، بل الكتابة لها حرمة وحرمتها لا يجب أن تنتهك أبدا.