بقلم: الدكتور العيد بوده / الجزائر
على أرض توات يتفجر النبوغ، وتنبثق العبقريات، وسنحاول السفر بين أعلام هذا الإقليم بغية التعرف على علم بارز في منطقة التديكلت، ممن أشرقت بهم الأرض، وتنورت بعلومهم الألباب، ولقد أكرمني شيخي وسيدي البروفيسور بن منوفي محمد أستاذ التعليم العالي بجامعة الجزائر- رفع الله قدره، وعظَّم شأنه، بومضات مشرقة من حياة الشيخ باي بلعالم بن محمد عبد القادر بن محمد بن المختار بن أحمد العالم القبلاوي الجزائري الشهير بالشيخ باي. وأمه: خديجة بنت محمد الحسن كان والدها عالما قاضيا في منطقة تيديكلت .
مولده ونشأته وتعليمه:
ولد الشيخ سنة 1930م، في قرية ساهل ببلدية أقبلي بدائرة “أوْلَفْ ” ولاية أدرار. وقد نشأ تربى الشيخ في أسرة اشتهرت بالعلم والمعرفة، فوالده كان فقيها وإماما ومعلما ، له تصانيف منها:
“تحفة الولدان فيما يجب على الأعيان”– “منظومة الولدان في طلب الدعاء من الرحمن”– “منظومة حال أهل الوقت. ”
بدأ شيخنا رحمه الله، تعليمه في سن مبكرة بمسقط رأسه، حيث أتم حفظ القرآن الكريم في على يد المقرئ الحافظ لكتاب الله الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن المكي بن العالم ، بمدرسة ساهل أقبلي ثم أخذ على والده المبادئ النحوية والفقهية ، ودرس على يد الشيخ محمد عبد الكريم المغيلي المكنى بالمنوفي مدة من الزمن ، ثم واصل مسيرته العلمية،فانتقل إلى زاوية الشيخ مولاي أحمد بن عبد المعطي السباعي المراكشي ، ومكث هناك سبع سنوات متتاليات، لتحصيل العلوم الشرعية من فقه وأصوله، ونحو ، وفرائض، وحديث ، وتفسير.
تخرج الشيخ باي بإجازة من شيخه السباعي، ليعود بعد ذلك إلى مدينة أولف، بداية الخمسينات من القرن الماضي، حيث قام بتأسيس مدرسة مصعب بن عمير للعلوم الشرعية لتدريس الطلاب والطالبات الأمور الدينية واللغوية، محاربا ذلك التجهيل الممنهج الذي فرضه الاحتلال، وقد كان الشيخ مدرسا ومشرفا وقيِّما في مدرسته، التي أغلقها بعد تفجير الثورة المباركة خوفا على طلبته من بطش الدخلاء الغاشمين، ثم استئنف الشيخ نشاط مدرسته بعد الاستقلال، فأقبل عليه الطلاب من مختلف الربوع القريبة والبعيدة، مما دفع بالشيخ إلى إضافة نظام داخلي إقامي سنة 1964م. وهي السنة التي التحق فيها بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، فأصبح إماما وخطيبا ومفتيا ومدرِّسا لمسجد أنس بن مالك ومدرسة مصعب بن عمير الدينية، التي ألزم طلابه فيها بقانون داخلي منظم يراعى الجانب العلمي والأخلاقي والسلوكي واللباسي أيضا. وفي عام 1981م، قام بتوسيع مدرسته وأضاف إليها قسما جديدا خاصا بالإناث، فأصبحت تستقبل أعدادا كبيرة من الفتيات على غرار ما تستقبله من الفتيان. ممن تخرج منهم الفقهاء والأئمة، ومدرسو القرآن الكريم، ومنهم من يزال مرابطا على ثغور التعليم الديني في مختلف المساجد والزوايا والمدارس القرآنية.
وقد كان هؤلاء يتلقون في هذه المدرسة علوما شتى ، على غرار:
– تحفيظ القرآن الكريم على مستويات. أولها المستوى التحضيري وأخرها المستوى السادس. وهو ختم الكتاب.
– تدريس الفقه الإسلامي على مذهب الإمام مالك برؤية منفتحة، حيث كان يختم تدريس الموطأ مرة كل عام.
– علم التوحيد بطريقة ميسرة، اعتمادا على كتاب الله وسنة نبيه.
– العلوم اللغوية من نحو وصرف وبلاغة. وكذا المتون.
– تدريس الحديث النبوي، من خلال شرح صحيح البخاري، وصحيح مسلم.
إجازاته:
أجيز الشيخ بإجازات عدة من كبار العلماء داخل الوطن وخارجه، نذك منها:
– إجازة عامة من شيخه مولاي أحمد الطاهري بن عبد المعطي عند انتهاء الدراسة
– إجازة عامة من السيد الحاج أحمد الحسن بأسانيد متعددة.
– إجازة من السيد علي البودليمي في الحديث وعلومه.
– إجازة من العالم اللبناني الشيخ زهير الشاويش.
– إجازة في مكة المكرمة من الشيخ محمد علوي مالكي.
– إجازة في المدينة المنورة من الشيخ محمد العربي السنوسي.
– تحصل على شهادة تعادل الليسانس في العلوم الإسلامية سنة 1971م بعد مشاركته في مسابقة وزارة الأوقاف التي أجريت لمجموعة من المشايخ لتحديد مستواهم العلمي.
سافر الشيخ رحمه الله داخل الوطن و خارجه، فقد وفقه الله لحج البيت الحرام أكثر من 30 مرة، عدا العمر، كان أولها سنة 1964م.وثانيها سنة 1974م ، ومنذ ذلك العام لم يتخلف عن أداء هذه الفريضة، التي كان يلتقي خلالها العلماء، ويزور المكتبات، ويشهد المنافع، وكان رحمه الله في الحج يعقد الجلسات العلمية في الحرم المكي في السطح غالبا، وفي المخيم في “مِنَى” ويجتمع عليه طلبة العلم، وكثير من المحبين له.
كما كانت له في جميع رحلاته لقاءات مع العلماء وطلبة العلم ، مفيدا ومستفيدا، فزار ( تونس والمغرب الأقصى وليبيا) ، وقد دون الشيخ رحمه الله هذه الرحلات في كتابه ” الرحلة العلية”جمع فيه أخبار هذه الرحلات وأحوال المناطق التي زارها.
مؤلفاته :
ألَّف الشيخ في مجالات دينية ولغوية عديدة، فتجازوت مؤلفاته (40) كتابا، لاسيما علوم القرآن والحديث والفقه وأصوله والميراث والسيرة، والنحو والتاريخ والوعظ والإرشاد والتوجيه، والأدب والرحلات .وسنحاول تعدادها على النحو الآتي
– خمسة عشرة مؤلفا في الفقه المالكي.
– مؤلفان في علوم القرآن
– مؤلف واحد في مصطلح الحديث
– خمس مؤلفات في علم الفرائض ( المواريث)
– مؤلفان في أصول الفقه
– مؤلف واحد في السيرة النبوية
– ثلاث مؤلفات في التاريخ
– خمس مؤلفات في مختلف المجالات والفنون.
وفيما يلي عناوين بعض مؤلفاته
كتاب: “إقامة الحجة بالدليل شرح على نظم بن بادي على مهمات خليل” في ( أربعة أجزاء ) طبع دار ابن حزم.
3- “ملتقى الأدلة الموضح للسالك على فتح الرحيم المالك ” في ( أربعة أجزاء ) وهو شرح على منظومته (فتح الرحيم المالك في فقه الإمام مالك) والتي تشتمل على(2509) أبيات.
4- “الإشراق البدري على الكوكب الزهري لنظم المختصر الأخضري”. وهو شرح على نظم الأخضري وكلاهما للشيخ رحمه الله.
5- “المباحث الفكرية على الأرجوزة البكرية”.
6- “زاد السالك على أسهل المسالك” (في مجلدين)
7- “السفر القاطع والرد الرادع لمن أجاز بالقروض المنافع” . وهو رد على من أفتى بجواز المعاملة مع البنوك الربوية وفيه فوائد جمة في التنديد بمن يفتي بغير علم.
8- “السبائك الإبريزية على الجواهر الكنزية” ، وهو شرح على نظم المقدمة العزية في الفقه المالكي.
9- “الاستدلال بالكتاب والسنة النبوية على نثر ونظم العزية “، يقول عنه الشيخ رحمه الله أنه جعل له منهجية خاصة .
10- “كشف الجلباب عن جوهرة الطلاب في علمي الفروض والحساب” ( شرح على نظم الشيخ عبد الرحمن السكوتي في الفرائض)11
توفي الشيخ باي بلعالم نهاية سنة 2008م، وقد حضر جنازته موكب مهيب، يتقدمهم الشيوخ والعلماء وإطارات الدولة على رأسهم ممثل رئيس الجمهورية، ووزير الشؤون الدينية. هناك تم توديع الشيخ بتأبينيات مؤثرة، كشفت عن مدى حب الناس له، وعن مكانته السامقة، وعن فداحة الخسارة التي رزئ بها الخلق … رحمه الله وأكرمه بشآبيب الرحمة والرضوان، ورفع درجته في المهديين.