الكاتبة آيات عبد المنعم/مصر
بَيْنَ الْفَيْنَةِ وَالأُخْرَى يضجُّ الرَّأي العام ليسنتكرَ حادثة تحرّش دنيئة وقعت هنا أو هناك؛ يُرافقهُ جدل بيزنطي حول المثير والاستجابة ومن المسؤول عن الشّرارة الأولى المُحرّكة للشهوة، يتمّ حصر القضيّة بين طرفين، أنثىٰ بعين البعض هي ضحيّة برتبة معتدي أوّل، ورجل بنظرهم مظلوم وظالم لا يدركون أنَّ أيّ تبرير لسلوك المعتدي هو إدانة أكبر للرجل باعتباره كائن مُستثار مسلوب الأهليّة العقليّة عبد لغرائزه وشهواته.
وحقيقةً لا أودُّ الدخول في هذه النقاشات الضيّقة لأنَّ مسألة التّحرّش أعمق بكثير من هذا التّناول السطحي، برأيي إنَّ التّحرّش يبدأ من الأعلىٰ وليس من الأسفل، من العقول وليس من الأجساد، من غياب منظومة القيم الأخلاقيّة في العقل الجمعي، من قصور وتقصير النخب الّتي ترسم معالم نظرة الإنسان لذاته وللغير بعدها يطفح على الممارسات السّلوكيّة للأفراد، فكلّ تلكَ الجزئيات الصّغيرة ما هيَ إلاّ طحالب طفتْ علىٰ سطح مستنقعٍ من الأفكار احتلّ العالم.
ولقد نوَّهَ “الدكتور عبد الوهاب المسيري” لأهمية رصد البعد المعرفي في دراسة له تنبأت بأنَّ الشذوذ الجنسي سيتصدر المشهد قبل اتساع شيوعه ومنحه الشرعية في الغرب باعتباره النتيجة المنطقية والترجمة لمبدأ اللَّذَّة النَّفعيّ.
نحن الآن نعيش في ظلّ تحرّش دول كبرى بدول تَابِعة، فمن منّا ينسىٰ ما حدث في سجن أبو غريب، ومازالت الولايات المتحدة الأمريكيّة تمارسُ إيمانها بمبدأ البقاء للأقوىٰ، تتبنّىٰ الرّؤية الماديّة الرّأسماليّة الّتي تُكرس صورة نمطية للمرأة المثيرة والرجل الجذاب في وسائل الإعلام،
وما زاد الطِّين بَلَّةً رئيسها “دونالد ترامب” الذي قام بالتّحرّش بابنتهِ على الملأ.
الكارثة أنَّنا في المجتمعات العربيّة نُحاكي النّموذج الغربي في أسوء ما فيه بالإضافة إلى أمراضنا الذاتيّة ومنها سوء فهم الدّين، فنجدُ البعض اختزل المرأة في آيات الحور العين كمصدر للذّات في الآخرة، وعورة في الدُّنيا، وابتعد عن النّظرة العادلة في القرآن للمرأة الّتي منحت لها دور فعّال ورأتها قدوة لا عورة فإمَّا أن تكون مثال إيجابي كإمرأة فرعون التي تحدّت السّلطة السّياسيّة آنذاك بإيمانها وثباتها أو سلبي.
وعلى صعيد الفنّ نجد أنَّ الهابط منه أفسد ذائقة المُتلقّي وشوّهَ نظرته للمرأة بما قدّمَه من مادّة حيّة للتحرّش.
وناهيكَ أنَّ حتىٰ الأوساط الثقافيّة أيضًا لا تخلو من التّحرّش، فبعض المثقفين ينظرون إلى المرأة كجسد لا كعقل يحاورهم.
ختامًا لن نستطيع القضاء تمامًا على التّحرّش لأنَّنا نتعامل مع طبيعة بشريّة، لكن على الأقل علينا الحدّ منه ولا نجعله يسود المُجتمعات، ولا مناص من تطويق ظاهرة التّحرّش إلاّ بسيادة العقل لذا المسؤوليّة تقع علينا جميعًا نُخبًا وشعوبًا.
القاهرة ١٠/ ٧/ ٢٠٢٠