بقلم: عمر ح الدريسي / فاس / المغرب
أصبح بالكاد يمر يوم إلا ويعبر فيه الأفراد عن قلقهم بشأن الحميمية الإجتماعية الأنطولوجية والتي جعلت منها الحياة الافتراضية والشبكات الرقمية شأنا سيعاد فيه النظر حسب الفيلسوف الألماني هابرماس Jürgen Habermas، وليس هذا وحسب ولكن أيضا بشأن الضمانات المتبقية لضمان حريات هؤلاء الأفراد في التعبير وايضا بشأن الاحتراز لضمان حق خصوصياتهم المهددة بالاختراق وربما الكشف والتعري، هذا القلق (بالجمع) المتزايد بشأن الحرية في الرأي وبشان اختراق الخصوصية والتي كان لها علاقة بالأنطولوجية الحميمية، مستوحى من الحسنات العظمى للثورة التكنولوجية على الإنسان كفرد خاص، وعلى الانسانية كمجتمع لها مصير مشترك على كوكب الأرض، والتكنولوجيا هاته، قد تستغل في عكس ما اريد لها وفيما يُراد منها، من قبل من يترصد للأفراد من أي هفوة في ممارسته للحريات او عبر الوصول إلى عمق تفاصيل “معلومات الخصوصية” والتي يأتي استغلالها هنا، لمصلحة طرف آخر بتحايل وبدون سند حق ولا إطار قانون منظم.
في الوقت ذاته يرى البعض أن الدفاع عن قيمة “حرية الرأي” وقيمة “حق الخصوصية” يشكل في بعض جوانبه إضعافا لقيمة مجتمعية أخرى، تتمثل في أمن المجتمع، فمراقبة الأفراد من قبل المؤسسات بالاعتماد على الوسائل التكنولوجية الحديثة ينبع من التهديد المتنامي الذي يواجهه المجتمع ازاء محاولة الاخلال بنسيج سيره العادي وسلامة أمنه، إلى ذلك يقولون بأن المراقبة الإلكترونية باتت عاملاً حاسماً في ترصد الاختلالات قبل وقوعها، ما ينعكس ايجاباً على أمن الفرد واستقرار المجتمع برمته.
والمقال أتى ليحاول التقريب بين هاتين القيمتين المجتمعيتين من خلال خلق نوع من التوازن بين المصلحة الشخصية والمصلحة العامة، استناداً إلى وثيقة الحق في الخصوصية، وما يستند عليه الاعلام الرقمي كونيا ومنها صفحات وقائع التواصل الاجتماعي من وثيقة “قانون الحريات” للآباء المؤسسين الأمركيين، وما يصطلح عليه حسب مفهوم كونية حقوق الإنسان، طبقا لما استعمله الألماني هانس جورج ساندكولرHans George Sandkûhler.
خروج فيديو مباشر على مواقع التواصل الاجتماعي، ينقل بالتفاصيل، حدث ما حصل من تعذيب لمواطن أمريكي، ذنبه أنه أسمر البشرة، جورج فلويدGeorge Floyd ، وقبل ان يلفظ انفاسه خنقا وهو يصرخ “I can’t BREATHE”، تاركا على جبين البشرية، إرث العار الذي لا يغتفر، عار اللاإنسانية، مُدون بكلمات أخيرة من حياة انسان يموت قهرا ويستأجر الاستغاثة بكل ما بقي له من هنيهات أخيرة قبل لفظ انفاسه الأخيرة وهو مقيد اليدين مسجى على الرصيف مخنوقا تحت ركبة واحد ممن عبث بحياته، عبارات رددها كانت الأخيرة وإلى الأبد، مخلوطة بالدم والدموع على مسامع العالم، ممثلا بمن عاشوا اللحظة دون ان تذرف لهم عين، ولا احد منهم رأف قلبه أو تحرك ضميره، بل جميعهم وكأنهم لا يسمعون غير ما يجعلهم يشهدون على الوأد الجاهلي اللاإنساني لرجل أعزل لم يثبت في حقه أي تعامل مستفز ولو ان رئيسة بلدية واشنطن حاولت تدارك الموقف بتسمية احدى اهم شوارع العاصمة الأمريكية بـ “حياة السود مهمة Black Lives Matters”.
وقبل ايام قليلة من حادث وفاة فلويد، جاء حادث إضافة ايقونة “زر Icone”على موقع التواصل الاجتماعي “تويترTwetter “، كانت الحادثة هذه كافية، لتفجر المسكوت عنه، لتجعل رئيس أكبر دولة في العالم من حيث القوة الاقتصادية والعسكرية، يتدخل –كرد فعل- ويصدر قانونا تنفيذيا، يتوخى منه تنظيم حريات التعامل مع المعطيات التي توجد على هذه التطبيقات من مواقع التواصل الاجتماعي، والأيقونة التي فجرت هذا الحدث، أتت كبادرة، ليس لخلق الجدل، بل ربما للشفافية اكثر، وعدم توهيم المنخرطين والمتابعين بما ينشر من تغريدات، تُعبّر عن موقف بعض الساسة من بعض الاحداث، والذي قد يكون لها تاثيرا على قرارت المواطنين، واحداث الزر الجديد، أتى كآلية في المتناول للمستعملين جميعا للتأكد من صدقية ما غرد به صاحب الحساب، هل هو صحيح ام غير صحيح، طبعا حسب ما تختزنه احداثيات التطبيق من معطيات لتغريدات سابقة، لنفس الحساب، على نفس التطبيق.
الأثر التكنولوجي على الإنسان لا يختلف عليه ضربان ولا يتناطح حوله عنزان، لكن نظرة الفيلسوف الألماني مارتن هاديغر Heideger الذي عاش ويلات الحربين العالميتين الأولى والثانية من نصف القرن (العشرين) الماضي، وصل إلى أن التطور التكنولوجي كان السبب الأهم في هلاك عشرات الملايين من القارة العجوز اوروبا، وملايين اخرى عبر اطراف العالم والقارات الخمس، اضافة الى الخراب والفواجع التي تركتها تلك الحربين على صحة ونفسية الانسان وسلامة العمران والبيئة. وهكذا خلص الفيلسوف هايديغر الى ان التطور التكنولوجي يجب ان يتم تقليصه، واذا لم يحدث، لابد من سن دستور عالمي ينظم علاقة الانسان بالتكنولوجيا قبل ان تأتي عليه في حروب قادمة.
والآن، وبعد رحيل هايديغر، بتنا نعيش بوادر تحقيق الجيل الخامس من تكنولوجيا الاتصالات، والتي تعتمد في عمودها الفقري على تقنيةSychologie Speacking ، بمعنى آخر سيصبح كل فرد وكل شيء، بشرا كان او غير بشر، سيصبح رقم، ولتحديد مثلا الفرد، ستزرع في جسمه شريحة الكترونية دقيقة، على قدر حجم حبة القمح او حبة الأرز، وبها يكون له عنوان IP 4 Code، مثل أرقام الهواتف او الحواسيب التي تعرف بIP حاليا، لكن مع الجيل الخامس للانترنيت ستتوفر IP لجميع الأشياء من شجر وبشر وحتى حجر وسمك وطيور.
وهكذا سيصبح الاعلام الرقمي ومواقع التواصل تعج بما لم تتخيله مخيلة ديكارت ولا توقعته اكسيمية كانط ولا حتى بشرت به الثورة المعلوماتية اواخر القرن الماضي، وحيث مواقع التواصل التي ظهرت مطلع القرن الواحد والعشرون، قد أوكلوا لها مُصمِموها الأوائل في الجامعات الأمريكية، التمكين من ربط وتسريع التواصل لجماعة تجمعهم رابطة علمية، كالجامعة او مؤسسات بحثية كالمختبرات او حتى علاقات صداقة ومهنة. ومع التطور والانتشار السريع للانترنيت، اصبحت وسائل التواصل، آلية لتقریب وجهات النظر، بما فيها الثقافية والعلمية والمعرفية والشؤون الاجتماعية والامور الخاصة من علاقات عامة للأشخاص والمؤسسات وخدمة المنخرطين والزبائن، وعليه باتت أهميتها التواصلية الفعالة والتفاعلية “Virtuel existence” في صلب تطور المجتمعات، وباتت اهميتها في صلب بحوث الجامعات الكبرى ونحن مؤخرا مع جائحة كورونا، كم اكتشفنا ان التكنولوجيا يمكن ان تقينا حتى من الجوائح وتساعدنا على الحفاظ على قدر ليس بالهين من النشاط الاقتصادي والاداري والتعليم ناهيك عن المثاقفة وعقد الندوات عن بعد، وبث المحاضرات وحتى التطبيب والمقاضاة والتعليم عن بعد، ولو أن موضوع التعليم ب تقنية “Virtuel existence” لازال يحتاج الى الكثير من الجهد والعمل لتيسير اثره وبعث فوائده أكثر.
وقرار التدخل الرئاسي عبر وضع قانون تنفيدي لضبط عمل مواقع التواصل، دفع بشركة تويتر إلى شجب القرار واعتباره تهديدا للحريات التي تمنحها تكنولوجيا الأنترنيت، الحرية التي هي مسندة وموثقة بقوانين الآباء المؤسسين لدولة الولايات المتحدة، أي أن الدستور الأمريكي وهو اسمى وثيقة قانونية للأمركيين، حكام ومواطنين، يضمن الحق في حرية التعبير للجميع كما يضمن حرية التعامل والمبادرات الحرة، طبقا لمبدأ ادم سميث: “دعه يمر دعه يعمل”، وطبقا ايضا لمبدأ النيوبيرالية حفيدة الرأسمالية الليبرالية التي تُعايش ربيعها الأربعين، منذ تدشنيها في فترة الثمانينات بالقرن الماضي، مع فترة حكم السيدة تاتشر البريطانية، وفترة حكم السيد رونالد ريغن الأمريكي، ألا وهو “المصلحة الذاتية” أو “Homo Economicos”، لكن هل عصر ترامب، أتى ليفكك أعمدة النيوليرالية وأتى برنامجه ليخلخل مبادئها؟ ولو ان وزير الخارجية الأمريكي السابق، السيد كيسينجر، خرج بمقال، شبه ايديولوجي، خلال استفحال ازمة كورونا بالعالم، يحث على دعم مبادئ النيوليبرالية، لكي تحافظ الولايات المتحدة الأمريكية على اقتصادها وقوتها المعتمدة على الحرية والمبادرة الحرة مع حلفائها لقيادة العالم؟
الحرية هذه التي باتت لا تقف عند الاقتصاد، بل تجسد بقوة عبر شبكات التكنولوجيا، الحالة هذه من الحرية، التي تنبأ لها الكاتب الانجليزي ذي الأصول البنغالية، جورج أورويل، بتخيله لنهاية “الحياة الخصوصية”، في روايته الموسومة ب “1984” والتي نشرت عام 1948، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك بوجود شاشات المراقبة عبر وصلها بكاميرات مثبتة او بالهاتف، وبالمتابعة عبر تطبيق تحديد موقع التواجد الجغرافي، بمعنى أن كل ما ناقشه كل من سامويل فارن ولويس براندايس، وظهر لأوّل مرة سنة 1890 ضمن دراسة مشهورة عنوانها “الحق في الخصوصية”، أصبح متجاوزا بفعل ما أتت به التكنولوجيا والتي حققت كل ما تنبأ بها الكاتب جورج اوريل.
وجدير بالذكر أن خلاصة دراسة سامويل فارن ولويس براندايس دي المنحى القانوني قد أقرت ستة بنود، هي تواليا: “الحق في أن يُترَك المرء وحده”؛ “ولوج محدود إلى الذات- القدرة على تحصين النفس ضدّ الولوج غير المرغوب فيه الذي يقوم به الآخرون”؛ “السرّية- إخفاء بعض الأشياء عن الآخرين”؛ “التحكّم في المعلومات الشخصية- قدرة المرء على ممارسة التحكّم في المعلومات حول نفسه”؛ “الشخصية- حماية المرء لشخصيته وفرديته وكرامته” و”الحميمية- التحكّم في، أو الولوج المحدود إلى، العلاقات أو جوانب الحياة الحميمة”.
كلّ ملامح “الحق في الخصوصية” المشار إليها هي من اجتهاد القانونيين والحقوقيين، عبر امتداد عريق إلى أواخر القرن التاسع عشر، وهو “حق” تمّ “تقنينه” في نطاق ثقافة “الفرد” ومقولة “الفردانية”، التي هي بوجه ما، زبدة العصر الليبرالي.
لكنّ هذا الفهم لمقولة “الحق في الخصوصية” سوف يشهد انقلابا حادّا مع ظهور التكنولوجيات الفائقة والدخول في عصر الإنترنيت، حيث كل ما كان الإنسان التقليدي يعتبره إلى فترة قريبة أشياء “خصوصية” عن هويته، من قبيل ملامح الوجه أو شبكية العين أو بصمات الأصابع أو حتى أجزاء أخرى من البدن، مثل حمضه النووي أو درجة خصوبته أو صوته أو فصيلة دمه أو تاريخه الطبي أو يوميات عيشه وحميميته الاجتماعية، قد صار فجأة بفضل التحديد البيومتري أو القياس البيولوجي للهويات(biometric identification) ، مجرّد “معطيات” رقمية يمكن أن تُطلب منه بالقانون أو أن تؤخذ منه عن حسن نية مقابل ضمان حق خدمة ما أو تُسرق منه بكل مشروعية بناءا على حسن نية تعامل سابق. بمعنى أن خصوصية الشخص كفرد في مجتمعه وحقه في الامتلاك والاحتفاظ بكل ما يعتقد انه من حقه وحده قد يتسرب الى العموم في لحظة لم يكن يعرف انها ستحدث، مما سيجعله خارًا امام العراء الفاضح الذي يتجنبه حتى الحيوان باللجوء للأقبية والزرائب والأوكار، وتتهرب منه الزواحف لتلجأ للجحور، وتتجشم منه الطيور لتبني له الاعشاش، وحتى الأسماك تتجنب بعضها بالاحتماء بمروج المرجان.
إنّ الكثير من الخصوصية قد تسرب من حيّز “البيانات الشخصية” إلى مجال “المعلومات الافتراضية” التي تملكها الشركات العالمية التي لا تهتم الا بما يجني لها الأرباح أو أجهزة الدول التي لا يهمها الا ما يحقق اهدافها. ناهيك عن سجلاتنا الخاصة مثل التوقيع أو رخصة القيادة أو جواز السفر أو بطاقة التعريف أو كلمات المرور في التطبيقات، إلخ… ففجأة، لم تعد “الهوية” ملكية “شخصية”، بل تحوّلت إلى شيء رقمي للاستعمال يسبح بعيدا عنا وخارج إطار الحياة الخاصة.
هذا الصدام بين الخصوصية والتكنولوجيا الإعلامية قد تحوّل بشكل رسمي إلى ورشة عملاقة حول قيمة “الحياة الخاصة”، عوّض تماما ورشة علماء القانون التي شغلتهم في أواخر القرن التاسع عشر حول “الحق في الخصوصية”، بل لم يعد، ولن يعد الأمر يتعلق بصلاحية “الحق” بل باستحالة “الخصوصية”، حيث افتكّ منّا “عصر التقنية” كلّ ادّعاء “ذاتي” للخصوصية. وتحوّلت “الهوية” إلى مجرّد “قاعدة بيانات” يتبادلها غيرنا وراء ظهورنا، بيانات ملقاة على مساحة افتراضية مهدورة كما يقول فتحي المسكيني. وهذا الوضع التكنولوجي للخصوصية أطلق عليه بعض الدارسين الاستشرافيين اسم “المجتمع الشفاف The Transparent Society” ضمن كتاب مثير، يتمحور حول السؤال الإنكاري التالي: “هل أنّ التكنولوجيا سوف تفرض علينا أن نختار بين الخصوصية والحرية؟”. وهو “شفّاف” في معنى أنّنا سوف نُوجد دوما تحت “كاميرا مراقبة” ما، وفق تعريف جديد للتكنولوجيا ينقلها من أداة للسيطرة على الطبيعة، كما تصوّرها ديكارت، إلى “تكنولوجيا المراقبة”Surveillance Technology على البشر، أو تكنولوجيا تُـدمر العمران والطبيعة وتقتل البشر حسب هايديغر.
والرهان هو: إلى أيّ مدى يمكننا إثبات أنّ المراقبة التكنولوجية والبيانات المسجلة طبقا للمجتمع الشفاف ومجتمع “أمّة من البيانات” (Database Nation) وليس من الأفراد أو المواطنين، لا تلغي الحرية في الرأي أو الحق في الخصوصية؟ بالنظر الى المعلومات اليومية التي يرصدونها وتمكنهم من اختراق حتى ما تفكر وتشعر به. أو أن الطموح للإنسان المعاصر نحو تكنولوجيا تفتح “عصر معرفة” غير محدود من نوع رقمي، حيث تصبح الكرة الأرضية “قرية عالمية” وتحقق مبدأ القيم الكونية والفرد الكوني. لكن يبقى السؤال المقلق هو: “هل يمكننا أن نملك دائما، دون استفزاز او تهديد او تخويف ما، معلوماتنا الخاصة، هل ستبقى هويتي ملكا لي، ما هي الضمانات الغير متراجع عليها مهما حدث او سيحدث؟ مرة أخرى؛ كيف يمكننا أن نحمي حقوقنا في الرأي والخصوصية ونحمي الهوية وننعم بالاستقلالية، عندما تقوم التكنولوجيا بغزونا والتحكّم فينا على نحو أسهل من أيّ وقت سابق؟