الدكتور أسامة البحيري – أستاذ النقد الأدبي بجامعة طنطا / مصر
السرد بنية لغوية تتعلق بحدث حقيقي أو خيالي أو أكثر ، يقوم بتوصيله واحد أو اثنان أو عدد من الرواة لواحد أو اثنين أو عدد من المروي لهم ( 1 ) .
بهذا التعريف يعد علماء السرديات التاريخ شكلا من أشكال السرد ( 2 ) يختص برواية الأحداث الحقيقية ، لتسجيلها ، وتوثيقها بدقة وأمانة ، بينما تتميز الرواية بسرد الأحداث الخيالية ، أو تمزج بين الحقيقة والخيال ، لتنتج سردا إبداعيا لا يكتفي بالرصد والتوثيق الواقعي .
ويتقاسم التاريخ وكثير من السرد الواقعي تقاليد لغوية وسردية معينة ، فالسارد لا يتحدث بصوته الخاص أبدا ، وإنما يسجل الأحداث لا غير معطيا القراء الانطباع بعدم وجود حكم شخصي أو شخص يمكن تعيينه قد شكلا القصة التي سردت ( 3 ) .
شكل التفاعل بين التاريخ والسرد الإبداعي خيطا بارزا في نسيج الرواية العربية منذ بداياتها الأولى وحتى اللحظة الراهنة في واقعنا الروائي والتاريخي المعاصر .
مر التفاعل بين التاريخ والسرد الإبداعي في الرواية العربية بثلاث مراحل متتابعة ، هي :
1 – الهيمنة التاريخية ( إحياء التاريخ )
في هذه المرحلة هيمن التاريخ بأحداثه ، وشخصياته ، وفضائه الزماني والمكاني على السرد ، واقتصر دور السرد بتقنياته التقليدية على تقديم الحقائق والمعلومات التاريخية دون تدخل كبير ، أو إسقاط على قضايا الواقع المعاصر . أي أن الرواد من الروائيين – كجرجي زيدان ومن تلاه – وظفوا الفن السردي في خدمة المعرفة التاريخية جذبا لعامة القراء الذين لا يقبلون على قراءة التاريخ إلا في ثوب قصصي تخييلي .
استسلم الروائيون لهذه الهيمنة التاريخية ، وعدوها مزية ومنحة تقدم لهم جهدا سرديا جاهزا ، ” هذه المزية هي أن المصائر تقررت ، والحيوات انتهت ، والعظات وقعت ، والجزاء الطبيعي والحكم التاريخي قد استقر ، عندئذ يمكن للفنان أن يجد أرضا ممهدة ، لأن التاريخ قد وضع البداية والنهاية لكل قصة تاريخية ، فعلى الكاتب أن يجوس في تلطف وتلصص وعمق خلال العلاقات البشرية في التاريخ ” ( 4 ) .
وآثر الروائيون في هذه المرحلة اختيار فترات الازدهار والانتصارات المجيدة في التاريخ الفرعوني والعربي والإسلامي لإحيائها ، وتثبيت أثرها في النفوس ، ودارت أحداث الروايات – في معظم الأحيان – حول شخصيات المشاهير والأبطال الذين لهم دور إيجابي ملموس في التاريخ العربي والإسلامي والمصري ( مثل عنترة بن شداد ، وسيف بن ذي يزن ، والملكة زنوبيا ، وامرئ القيس ، وسلمان الفارسي ، وطارق بن زياد ، وصلاح الدين الأيوبي ، وسيف الدين قطز ، ومحمد علي ، وغيرهم من المشاهير ) . وغاب – في معظم الأحيان – الهدف الإبداعي للسرد ، وبرزت أهداف أخرى تعليمية ، وتربوية ، وإصلاحية ، ونضالية كما في روايات جرجي زيدان ، وعلي الجارم ، ومحمد فريد أبي حديد ، وعلي أحمد باكثير ، ونجيب محفوظ في رواياته التاريخية .
ويبرز علي أحمد باكثير هذه الأهداف في مقدمة روايته ” وا إسلاماه ” قائلا :
” هذه قصة تجلو صفحة رائعة من صفحات التاريخ المصري في عهد من أخصب عهوده ، وأحفلها بالحوادث الكبرى ، والعبر الجلى . يطل منها القارئ على المجتمع الإسلامي في أهم بلاده من نهر السند إلى نهر النيل وهو يستيقظ من سباته الطويل على صليل سيوف المغيرين عليه من تتار الشرق وصليبي الغرب ، فيهب للكفاح والدفاع عن أنفس ما عنده من تراث الدين والدنيا … وبطلها الملك المظفر قطز يضرب بنزاهته وعدله ، وشجاعته وحزمه ، وصبره وعزمه ، ووفائه وتضحيته ، وحنكته السياسية وكفايته الإدارية ، وإخلاصه في خدمة الدين والوطن مثلا عاليا للحاكم المصلح ، والرجل الكامل .
وهي بعد شهادة ناطقة بأن في هذا الشعب الوديع الذي يسكن على ضفاف النيل قوة كامنة ، إذا وجدت من يحسن استثارتها ، والانتفاع بها ، أتت بالعجائب ، وقامت بالمعجزات ” ( 5 ) .
ويهدي محمد فريد أبو حديد روايته ” الوعاء المرمري ” – وهي مجال هذه الدراسة التطبيقية – إلى الشباب المصري الذي شارك في ثورة 1919 م رابطا حاضره المصري الثوري – آنذاك – بماضيه العربي البطولي ، فيقول في بداية تقديمه للرواية : ” أكتب هذه القصة تذكارا لقطعة عزيزة من حياتي ، وأهديها إلى هزّة الشباب الكبرى في عام 1919 م ” ( 6 ) .
2 – التوازن السردي والتاريخي ( استدعاء التاريخ )
في هذه المرحلة تطورت آليات السرد الروائي ، وعاد الروائيون إلى التراث والتاريخ لإسقاط قضايا واقعهم المعاصر على الأحداث والشخصيات التاريخية القديمة ، وصار الفضاء المكاني والزماني التراثي صالحا للتعامل مع القضايا والمشكلات المعاصرة عن طريق الرمز ، والإيحاء ، والإسقاط ، والاستدعاء.
وحاول الروائيون في هذه الفترة تشكيل معادل موضوعي لأزمات واقعهم وهزائمه بالهروب الإجباري إلى التاريخ ، واختيار فتراته المأزومة والمهزومة ، كرواية ” السائرون نياما ” لسعد مكاوي ، ورواية ” الزيني بركات ” لجمال الغيطاني ، ورواية ” أرض السواد ” لعبد الرحمن منيف ، وروايتي : ” مجنون الحُكم ” ، و ” العلاّمة ” للروائي المغربي بنسالم حميش .
فنرى – مثلا – جمال الغيطاني في روايته ” الزيني بركات ” يهرب من التناول المباشر لفترة القهر البوليسي ، وتكميم الأفواه ، ومصادرة الحريات العامة والخاصة ، واتساع نفوذ رجال المخابرات ، وتغلغل الأجهزة الأمنية في جميع مرافق الدولة في فترة الستينيات من العهد الناصري ، وهي الفترة التي انتهت بالهزيمة النكراء في يونيو 1967 م ، وتراجع دور مصر الإقليمي والدولي . ويلجأ جمال الغيطاني إلي استدعاء بعض أحداث أواخر العصر المملوكي في مصر، واتخاذه قناعا سرديا تاريخيا يوازي فترة كتابة الرواية في أواخر الستينيات من القرن الماضي ، لأن العصر المملوكي في آخره اتسم بازدياد القهر والتسلط والظلم والتعذيب ، وإرهاق الناس بالضرائب والجبايات والمكوس، وشيوع الهرج والفوضي والخيانة التي أدت إلى هزيمة المماليك في مصر والشام من جيش العثمانيين بقيادة السلطان ” سليم الأول ” ، وتحول مصر سنة 1517م من دولة مستقلة مؤثرة في محيطها العربي والإسلامي إلى ولاية تابعة للسلطان العثماني .
3 – الهيمنة السردية ( مواجهة التاريخ )
في هذه المرحلة برز دور التقنيات السردية الجديدة ، واحتلت واجهة المشهد الروائي ، وجعل الروائيون التاريخ عنصرا من عناصر تجديد الخطاب الروائي ، فأفادوا ” من أحداث التاريخ الفعلي الواقعي للأفراد ، والمجتمعات والشعوب ، والأحداث الإنسانية العامة القديمة والحديثة ، سواء كانت إفادة إبداعية متخيلة ، أو إفادة تسجيلية مباشرة من بعض الوقائع والأحداث التاريخية … وبذلك أصبحت الرواية الجديدة تتسم بشكل بنيوي مفتوح على إمكانات تشكيلية إبداعية لا حد لها ، ولا نهاية لتنوعها ” ( 7 ) .
واقتصر دور التاريخ على تزويد السرد بالشخصيات والأحداث الماضية ، ولكنها خرجت من إطارها التاريخي الحقيقي ، وأصبحت حاضرة في الواقع المعاصر ، وتتعامل بأدواته وتقنياته العصرية الحديثة ، مع احتفاظها بظلالها التاريخية ، وبخاصة في الجوانب الانهزامية والاستبدادية ، لإبراز التفاعل المستمر بين هزائم الماضي ومشاكل الحاضر ونكساته . وتخلى السرد الإبداعي عن الالتزام الدقيق بالأحداث التاريخية ، وتطوراتها الفعلية ، لتنبيه آليات التلقي ، وحثها على مواجهة الفترات المظلمة في التاريخ ، ومساءلتها عن دورها في هزائم الواقع وكوارثه .
كرواية ” قوارب جبلية ” – وهي مجال هذه الدراسة التطبيقية – للروائي اليمني ” وجدي الأهدل ” ، ورواية ” الأنس و الوحشة ” للروائية اليمنية ” هند هيثم ” .
هذه المراحل المتتابعة التي مر بها التفاعل بين السرد والتاريخ تتوازى مع مراحل تطور الرواية العربية منذ بدايتها وحتى وقتنا الحاضر ، وهي :
مرحلة الرواية التقليدية ، ومرحلة الرواية الحديثة ، ومرحلة الرواية الجديدة ( 8 )
وقد أفاد الروائيون – في مراحل الرواية التاريخية الثلاث – من مصادر التاريخ الرسمية الموثقة ، ونوه عدد قليل منهم بالسير الشعبية ، وعدوها ” نصوصا روائية متعددة الملامح والرؤى ، وهي ذخيرة واسعة وغنية بالقصص والأساطير والخرافات ” ( 9 ) .