الأستاذ رضوان زعير / ألمانيا
صادفني في إحدى قراءاتي قولة للمستشرق “باريت” :(وإن الخطاط ليتحكم في الاحرف التي يكتبها تماما ..كما يتحكم الموسيقي في أحاسيسه.. وهو يصوغ نغما بذاته.)
ما استوقفني حقيقة هو رؤيته الارتباطية بين مقومين فنيين (الخط والموسيقى)ولعله اختزل المقوم الثالت في اعمدة فنوننا العربية في مجال الخط العربي ..ألا وهو الأدب(شعرا او نترا).. لاشتراكهما في الاداة أو الوسيلة (الحرف العربي)..
وإذا نظرنا ببصيرة لهدف الفنون والاداب ..نجدها تسلك منبعا واحدا لتصل للشاطئ نفسه ..وهو الإلهام العاطفي فلإشباع القلبي وصولا للإقناع العقلي..عن طريق مخاطبة الإحساس ..والوجدان ..والبصيرة.وإن اختلفت قنوات الاستقبال الموصلة للهدف..فالموسيقى والشعر يلجأن للقلب من طريق الأذن بإثارة منطقة الاحساس والخيال..بينما الخط العربي سلك مسلك العين …لإشراكها في عملية التذوق الجمالي والارتقاء الاحساسي .مستخدما نفس الوسيلة التي هي الحرف في صورة عظمة نص او رشاقة قصيدة…مع تصوير وهندسة في أجمل حللهما ..
فالخطاط والأديب والموسيقي يخاطبون وتر الجمال والاحساس والخيال.. لاستتارة العقل في عملية وجدانية تبدأ بالانبهار والانشداد فالتذوق والتلذذ..وكل ينتقي أطايبه في التصوير والابداع ..من زاوية موهبته و فيوضاته…
والجميل في الامر ان الانطلاقة دائما تبدأ من الحرف العربي المعجز في ذاته وصفاته…فاتساعه وامتداده لحمل قيم صوتية وادبية وهندسية رياضية خوارزمية ولعلنا نبسط هذا في مقال ثاني، جعلا منه حجر الأساس والانطلاق..
ثم فقط النظر في الحروف وتشريحها يستجلب منا دراسة فنية موسيقية ..فالألف كونه فاتحة عقدها .هو نفسه صورة هندسية لنقطة سوداء تحركت في البياض الشاسع لتحده وتجعل منه لوحة او قصيدة او نوتة موسيقية، وهو تماما كالصوت الذي يصدر من أعماق الفؤاد او من وتر الألة ..ويمثل بذلك دور مفتاح (صول )موسيقيا، وهذا شأن كل الحروف عند تشريحها..لكن تمت سر آخر خفي في ارتباط الخط بالادب والموسيقى..فالشاعر عند توظيف شعره لموضوع من الأهمية بمكان نجده يركب البحر الكامل او الطويل المعروفان باوزانهما القوية وقافيتهما المجلجلة ومفرداتهما المهيبة ،كذلك شأن الخطاط عند مشق النصوص العظيمة والمهمة،إذ نجده يخط بخط الثلت الجلي المعروف بقوته وكبريائه واستعصائه.والموسيقي أيضا يجنح لمقام البيات او الرصد القويين .
وهذا ديدن كل الخطوط والمقامات والأشعار..ففي مقام الحب والغزل نجد مقام النهاوند الناعم والدافئ..ونجد خط التعليق والفارسي بانسيابته العاطفية ..ونجد بحر الرمل برقته ونعومته ..ونجد خط الرقعة يتماشى مع مقام البيان و بحر البسيط ..وخط النسخ ومقام الرست وبحر الهزج ..وفي محاورة الملوك والمفاخرة بين العظماء نجد خط الديواني والجلي ديواني والطغراء يتصدران الأمر لبسط الهيبة والفخامة وعلو الكعب والمقام كشأن بحر الوافي في الشعر للافتخار والزهو ..وهكذا ..
وأساتذة الخط العربي لا تستقيم عندهم اللوحة الحروفية إلا اذا توفرت على الحس الموسيقي البصري.البعيد عن التخشب واليبس والتصلب ..والرشيق أسلوبا وجوهرا ومعنى..كما الحال في السرد الشعري ،لا ينساب بأبعاده الشكلية والدلالية إلا إذا انسكب في قوالب فنية حسية وتعبيرية مؤثرة.