الشّاعرة: هدى كريد
شاعر من رحم الأرض والوجع يتلو سفر التّكوين عشقا للأنثيين محبوبته الشّقراء وتونسه الغرّاء. كتاب نبوءة جديد يضرب موعدا مع النّسيان، في أكثر من نثيرة يتجدّد الميثاق. هو ماهيّة الشّعر والشّاعر. وأيّ نبيّ لم يكن مجهولا؟ خاصّة حين يكتب بلغة المنجم والنّار. كلّ شيء بنكهة الدّاموس. والرّحلة ولدت كي تؤذن بموت قافلة الضّائعين وأوّلهم الشّاعر حامل لواء المحنة. يكتب بعزم مقاتل لايني ويوقّع أكثر من قصيدة بميسم الصّمود الّذي هو جماع المبدإ المبثوث بين المعاني واللاّزمة الكليّة الخاتمة لرحلة المأساة.
صامدون
صامدون
قصيدة سجّل
خيط قويّ يشدّنا إلى الامل رغم العتمة التي كادت تسدّ كلّ منافذ النّور. هذا شاعر مجازف عاصف بثوابتنا. اضطلع بمصيرنا في كامل المسؤوليّة. إذ أعار صوته لمن طوّحت بهم الحياة في دروب الضّياع ،ضحايا القدر والبشر والسّلطة الغاشمة .
لي أريج الشّهيد
خبز الكادحين
وجع الجائعين
والمحرومين
من قصيدة شرارة الكادحين
نمضي معه في دفق الرّيح كي يوسّدنا المخلعة الّتي تقطّع الأوصال وتفّتت العظام بهول الأوجاع. لقد اختار الكتابة بمداد الألم ينغل في الرّوح. هو سجين حرف يغذّيه في كتاب تحدّ لا تصفرّ أوراقه وقد قبض على جمر الثّوابت واوّلها مناصرة العمّال في تشبّع بمبادئ ماركس وكلّ من كان نصيرا لهم. تراه ينادي الرّفيق ويندّد بأنظمة القمع والعورات العربيّة فضلا عن بيانات متكرّرة باسم الفقراء والكادحين.
والمهمّ أن ولاءه الأكبر كان للمنجم ينحته بصبر ونصر. تتفجّر ريشته بأبد نازف وهيام متطرّف أوساع الوجع والغضب، يمتشق قلما وطنيّا أو قوميّا أو انسانيّا. فهو تونسيّ المولد، عربيّ الهوى، انسانيّ الانتماء. يقول في هذا السّياق
إنّي قادم
أرى تونس
والأرض العربيّة
انّي قادم
ارى في عيني
ما لا يرى
من أيّ ربع
قصيدة سجّل
آمن الشّاعر بكلّ مسافات العشق يقطعها يأتمر بأمر الرّغيف ويعلن العصيان ضدّ قوى الرّجعيّة (وشيوخ الإخوان ودولة العصابات )
وحين يحتدم الغضب لا يبخس الوضاعة حقّها وتهندس القصيدة ملحمتها بأسلوب مباشر حينا وايماء حينا آخر. فالإيمان عار يتّخذ رموزه الذّاتية وما أوتي من أسباب البيان دون أقنعة ولا تفيهق. لا مواربة بيان ولا تقيّة هو الصّدق صادما عاصفا. اختراق بلا مسافة امان واحتراق.
وإذا رمنا صورا شعريّة بما في الشّعر من انزياح واستعمال فرديّ تنطبع بهما تلك الصّور دخلنا محراب العشق.
يوسوس في قصيدة وشوشات على وتر واحد بأحلى غواية
الآن أشتاق
واشتاق لكوكب مهمل
في أقصى الشّتاء
أشتاق إلى امرأة
ورثت نبوءة الشّعراء
هذه الأنثى التي عشق كحل عينيها ولونها الشّمسي منحته ما به يكون، الوطن والقصيدة ومرفأ السّلام ولو إلى حين. هي
كلّ الكون وكلّ البدايات والنّهايات.
قصيدة سنة فقط
النّص بقداسة حضورها نصف خصيب ونصف جديب. وتلك الدّورة موتا وانبعاثا ألفناها عند الشّعراء التمّوزيين. ولعلّ حضور الأنثى قدّاس ابتهال، رمز أكثر من وجود واقعيّ إذ هي برأينا تحلّ حلولا صوفيّا في الشّاعر تحييه وفي الكون يزهر فيها ويتّشح بخصوبتها. لأنّها كائن علويّ لا ينتمي إلى هذه الطّبائع الأرضيّة المدنّسة. فلا يكون حضورها إلاّ انعتاقا (وحيا وشعرا وفي عينيها كتاب النّبوءة المطلق)
صوفيّة فيها أشواق الوطن والعالم. إنّها الرّمز الأعظم للنّماء والوجه البهيج للوجود. يهذي في حضرتها بأكثر من هويّة (الحبيبة، الأمّ، الوطن، الذّات، المنشود، المقدّس، عشتار الخصوبة)
ففي قصيدة امرأة الحلم
يمتطي صهوة الجنون مسافرا إليها. فلا شيء يقتل أكثر من توقّع صادق
استعار شاعرنا منها الرّحم السّاخن لتولد قصائد النّار. تتمدّد على صدره بلا ذبول وتغتسل بماء وجده متشكّلة مع الفجر الابديّ. وهنا تحتشد جحافل المقاومة وتنكسر الخيانة على تخوم الطّهر. وليس أنكى من أن يصير الوطن منفى بلون الحزن والدّماء
والمحن
التي استعارت تضاريس
الوطن
من قصيدة شجن 2
أمّا أنثى القصيد فتلتحم بالذّرى دون الوهاد وربّما تكون في المفترق تشي بحياة شاعر في المابين لا هو بحيّ ولا هو بميّت .وكلّما أوغلنا في هذا الرّمز الرّهيف تتعالى الصّوريّة على المعقوليّة وتتكثّف الفجوات البلاغيّة، كأن تموت في الكون الشّعريّ حوريّات المدينة، وتبقى الشّقراء مخلّدة بالوله والكلمة، ويحتجز الطّائر في قفص ويتحرّر في الرّوح مترنّما بوحي الغزل، وينبت للقصيد جناح يغيّبها في السّماء عند المغيب. لا شيء ممّا اعتدنا عليه يثبت. ولا نركن إلى توقّع لتفاجئنا الاستعارات بما نلتذّ له. وكفى بالشّاعر أن يحدث في الورقة هندسة بصريّة بموجبها ينحسر السّواد مع كلّ خاتمة كعلامة نصر
للابد
للابد
للابد
الذّعر المفاجئ
أحد
أحد
أحد
قصيدة المصاهرة
تشظّي حبّ
لا تموت
لا تموت
لا تموت
قصيدة إضاءات
ومسارب النّثيرة في إيقاعها البصري قيم السّواد والبياض ومساحات الامتلاء والخواء. كلّما أدماه مخرز القهر تلا تراتيل الشّوق وسفر التمرّد المبين، يخيّل إليه أنّ ابتسامة ناعمة تبقى في الأرض تقيه قتادها، فيستمدّ منها عناده قائلا نعم للآمال المترسّبة في الأقاصي ونجنح إليها منتظرين زمن ما بعد اليقين رغم ترامينا على أطراف العجز. لم تكتب الانثى إلّا بلغة الحياة، ولم تصنع هذه إلّا من تلك. لا فاصل أبدا بين مادّتي الإبداع. لذا خلق الدّم المنجميّ أعراسه في أوردتها وكانت الزّغاريد نوحا وأطرابا، معادلة استثناء خرجت من قصيدة لم تنفلت عن تباريح الفجيعة. ومساحة الورق هي المدّ الثّوريّ والاستماتة لخلق الكنه الصّافي لذات اثقلتها الحشود فنحتت وجودا مستعرا يتشبّث بتلابيب الحبر ويخطّ فوق الورق المشتهى بعناد كلّ العشّاق، ينفلت عن نواميس الوزن. فلا يتوحّد إلاّ بنفسه واملاءات الرّؤيا ونبوءة الالتزام تقتضيها أحبار تقتات من النّجيع.
ولعلّ المعراج هربا من مدينة تتشكّل في ظلمة الدّاموس أو خندق الموت يكون انفلاتا إليها حبيبة وطفلة وقصيدة. وفي أقصى حالات العجز ينكفئ على ظلّه ملتحما به
يا فتى النّار
لا أحد سواك
يؤرق هذا المدى
والسّؤال
قصيدة فتى الرّمل
وقد يكون الخلاص غيبيّا في كنف الرّفيق الأعلى بعيدا عن زمن المعصية.
تبقى قصائد عمر أولاد وصيف طريق سالك إلى الجوهر مرتهن بأوجاع الجماعة عبر صيغ الجموع بلا حياد. إذ أنّه متورّط في الدّفاع عن كلّ المهمّشين وملحمة يخطّها الشّعر المنجميّ ولاء لتغريبة العمّال وشوكة في حلق كلّ العتاة. التّسريد في شعره ضديد للتّشريد وغربة الإنسان اينما كان. ميسم الكلام صدق لا يتعثّر في بيان إلاّ ما اختاره الشّاعر طائعا من لطيف الاستعارات والاقتباس إلى حدّ تحوّل القصيدة إلى بيانات مندّدة بالقمع ونير الأيدي الوارثة. بكلماته يسحق عناقيد التّعب ويتوّجه بها رسالة إلى من صمد في هذا البلد.