الناقد منذر فاتح الغزالي / بون / ألمانيا
النص
“ويمطرني الحنين رذاذاً
لأرجوحة في زورق الهوى..
وكيف لي أن أرتق
شقوق الروحْ
وأقطع شرايين النوى..؟
وكم سرٍّ بكى في المنحنى.. !
وانثنى الورد تيهاً وباحْ..
يهمس الوجد في أذني ..
لمَ في الحب ندورْ
ما بين بعثٍ وموتِ..؟
وأنا سكرى بكأس الدموعْ..
أمتطي أحلام خيبتي
.. دعني أتوهْ .. في بحر أسراري
فلا ذنب للرِّيحْ
إن أسلمت أشرعتي”
ثانياً: القراءة بقلم: منذر فالح الغزالي
تعرّفت على قصيدة الشاعرة زينب الحسيني في فترة مبكرة نسبيا، كانت قصيدتها لا تزال بكراً، تقرؤها على الورق كما لو أنك تسمعها توّاً، تركّب حروفها وتقولها للمرة الأولى، دون تنقيح ولا تعديل.
هذا الكلام لا يعني أن قصائدها الأولى كانت على ضعفٍ ما، أو ليست بذلك العمق الذي تكتب به اليوم.. بل، على النقيض، منذ قصيدتها الأولى كان الشعر عند الشاعرة زينب ولا يزال بوحاً وجدانياً عميقاً صادقاً؛ لهذا تأتي مفرداتها غنيةً بعناصر الطبيعة، على عادة الشعراء الرومنسيين… “يمطرني، رذاذاً، زورق، المنحنى….”
وعلى ديدن الحركة الرومنتيكية في الشعر، تأتي موضوعات قصائدها لصيقةً بالروح، الروح العاشقة الولهى، الغارقة في حبٍّ مكلوم، أو المنتظرة ذلك الحلم الذي يأبى أن يتحقق، ويأخذ قيمته من مدى انتظارنا له… أو الحنين لزمن كان، وربّما لم تعشه؛ لكنها تحلم به وتأبى الروح مفارقته، وأي شعورٍ أقسى وأوجع، وأشد تأثيرا من الحنين؟
وفي هذه القصيدة، يتجلى انصهار الروح بالكلمة، من خلال لغة القصيدة، وسَرَيانها بين شقوق الروح التي انفتحت على ذكريات غَمَرها النوى.
إن كانت قصيدة حنين تغرف من قاموس الشعر الرومنسي، فإن الشاعرة المثقفة لا تستسلم لانثيال اللغة وانهما رها، ولا تكتفي بالسطحي من الكلام، فالروح اللائبة في البحث عما لا يحتمل التفسير تستوقفنا مع أسئلتها الحائرة، الوجودية…
“لِمَ في الحبّ ندور
ما بين موتٍ وبعث؟”
ولا نكاد نغادر دهشة السؤال نفارق قصيدتها، حتى تربطنا بها من جديد بتلك العبارة الحكمة…
“لا ذنب للريح
إن أسلمت أشرعتي”
لا ذنب للحب إن شدّنا إليه بحنينٍ لا ينقطع، وحلمٍ لا يفارقنا، وشوقٍ أبديٍّ لجميل آتٍ.
هذه القصيدة الرومنسية في قاموسها اللغوي ومفرداتها وموضوعها، بنيت على صور متعاقبة، بل هي في الحقيقة معرض لصور تترى.
منذ السطر الأول: ويمطرني الحنين رذاذاً.. استثمرت الشاعرة البلاغة خير استثمار، وأجادت في بناء صورها على الاستعارة .
وعناصر الصور تعطي للحنين لوعةً ورهافةً أيضا..
“كيف أرتق شقوق الروح
وأقطع شرايين النوى”
يا للصورة الباهرة!
ما بين استعارةٍ وطباق بنت الأستاذة زينب صورةً في غاية التأثير والجمال والعمق.
بهذه الانسيابية والتآلف بين البلاغة واللغة، يسري القصيد جدولاً رائقاً متهادياً، يجعلنا نتحسّس موسيقاه من صورٍ منسجمةٍ مع مفرداتٍ مع تراكيب بيانيةٍ، مضفورةٍ ببراعةٍ واقتدار، بعفوية أكاد أقول مخادعة؛ فهذا الجمال والبناء المحكم، لا يبدعه إلا شاعرةٌ مسكونةٌ بالشعر، لها رؤيتها، وتملك من الإبداع ما يجعلها توصل لنا رؤيتها بغاية الألق والجمال.