الأستاذ الشاعر و الناقد لطفي عبدالواحد / تونس
تعد رواية “زمن الكلام الأخير” الإصدار الثاني للأديبة الروائية فاتن كشو وتلي مباشرة روايتها الأولى “صوت الحب” التي كانت نشرتها في سنة 2012 .
صدرت رواية زمن الكلام الأخير عن دار زينب للنشر في 272صفحة من الحجم المتوسط وفي شكل أنيق وتصدرت الوجه الأول من غلافها لوحة للفنان الرسام العراقي علي عبد الكريم وتتضمن رسما لعدد من الأشخاص لا تتضح ملامحهم ولعل في ذلك ما يوحي بالبعد الإنساني عموما دون تحديد لزمان وجودهم ومكان تحركاتهم وعلاقة هؤلاء ببعض أشخاص الرواية ونجد منهم من ينتسب للعراق الشقيق وكان له دور هام في مسار الأحداث وتقدمها أما الوجه الثاني والخلفي من الغلاف فقد تضمن فقرة مقتبسة من أحد فصول الرواية وعنوانه : ” منير بن زهرة” وورد بالصفحة 129،وهي فقرة يمكن اعتبارها نافذة اختارتها الكاتبة تحيل إلى مضمون الرواية لترغيب المطلع في قراءتها ولحثه على الإقبال عليها.كما تضمن الغلاف في جانب منه تعريفا بالكاتبة فاتن كشو وأهم مؤلفاتها وإصداراتها الأدبية.
وإذا تجاوزنا المظهر الخارجي للكتاب وما اشتمل عليه نجد الكاتبة قد صدرت روايتها بقولة لها ومقدمة استغرقت صفحتين ونصف الصفحة. وقد ورد في القولة ما يلي : ” إنك تستطيع أن تميتني وأن تجعل روحي تغادر مني الجسد لكنك لن تستطيع أن تقتل حكايتي التي سيرددها التاريخ”
ولعل ما يلفت الانتباه في هذه القولة التي تنطلق من الفرد إلى المتكلم “أنا” الذات والمتوجهة إلى المخاطب المفرد “أنت”وتستهدف القارئ المتقبل دون تحديد صريح والمخاطب عموما، ففعل الموت المؤذن بالنهاية والمؤدي لإخراج الروح من الجسد يقتل الجسد ولكنه لا يقتل حكاية الإنسان فالحكاية حكاية الإنسان عبر الزمان ولو تغيرت الأزمنة والأمكنة فلن يعني الصمت المترتب عن القتل الموتَ، كذلك الموت لا يعني انقطاع الصوت الذي يتحول إلى صدى السنين الحاكي أو تعددا للأصوات فالحركة تولد السكون والسكون مولد للحركة وهذا ما نلمس تجلياته في تعدد الحكايات التي تنبني على حكاية أكبر وأكثر خلودا أساسها الحب هي حكاية الإنسان كما تراه فاتن كشو انطلاقا من رؤية الذات للآخر وللكون. وهنا لا يصبح للجغرافيا وتنوع الحدود وكثرتها اعتبارا إلا فيما يعمق مكانة الإنسان وتحديه للصوت والصمت والعوائق بما يضمن انتصار القيم النبيلة والعواطف الإنسانية المتصلة بالروح وتشابه التجارب بغض النظر عن النهايات أي نهايات الأفراد.
أما مقدمة الكاتبة لروايتها – و قد كان بإمكانها الاستغناء عنها ليكون دخول القارئ إلى عالم الرواية مباشرا- فقد كانت على ما يبدو اختيارا واعيا منها، له ما يبرره بلا شك.فهي مقدمة تفتح آفاقا على النص السردي الروائي وكأن الكاتبة قد أرادت أن تنبه القارئ مهما كان نوعه أو حيث كان إلى أن مسار السرد مختلف عن السائد في الرواية الكلاسيكية ذات الصوت الواحد ،إذ هي تسعى في بناء رواياتها إلى اعتماد تقنية تعدد الأصوات فيها بحيث تتضاءل سلطة الراوي وهيمنته في سرد الأحداث وتوجيه الشخصيات اقتداء بأسلوب روائيين كبار منهم عملاق الأدب الروسي دستوفسكي في التأسيس للرواية الحديثة ذات الأصوات المتعددة . ولعل الكاتبة فاتن كشو تفصح عن ذلك بوضوح في مقدمتها حين تقول ” كنت في علاقة جدلية مع هذا الواقع كروائية إنسان في المقام الأول يؤثر في واقعه ويتأثر به وتداخلت عناصر كثيرة واندمجت مع بعضها البعض وانصهرت لتفرز وجهة نظر فلسفية روحية لا تمثل بالضرورة وجهة نظري الخاصة لأنها نابعة من أشخاص الرواية ومتعلقة بما يحيون ويعيشون ولهم الحق والحرية في تبنيها والدفاع عنها وتأييدها بحججهم وبراهينهم التي يبسطونها في الرواية والتي تلمح إليها خيوط السرد ويحيل إليها البعد الضمني للمعاني المتوارية وراء السطور والتي تمثل في الغالب جانبا ميتافيزيقيا ندركه بأرواحنا ولا تقبله عقولنا”
هذا التوجه في السرد الذي اختارته الكاتبة لنفسها وعبرت عنه في مقدمتها يشكل المنطلق لرواية الأحداث استنادا إلى شخصية محورية اختارتها الكاتبة ونسبت إليها فعل الرواية والسرد ومنها تتفرع حكايات سائر الشخصيات في تداخلها وتأزمها وتطور مساراتها والقضايا المطروحة من خلالها وهي بالأساس قضايا متباينة واجتماعية تنطلق من محيطها المحلي فالعالمي فالإنساني الأرحب. وتختفي الكاتبة الفعليه فاتن كشو وراءها بشكل متعمد ظاهريا – وهذه الشخصية المنطلق للرواية وهي الدكتورة نسيمة التي تعرفها بأنها عالمة في علم الآثار البشري، يحملها خيالها إلى عالم الروحانيات وإلى “الفلسفة الروحية القائمة على كنه الروح وحقيقتها وعلاقتها بالعالم السفلي كما بالعالم الأثيري أو عالم ما بعد الموت وتؤيد فكرتها بحجج وبراهين لتثبت لنا من وجهة نظرها أن الروح خالدة بعد الموت ومفارقة الجسد “(المقدمة)
وتضطلع شخصية نسيمة المحورية في الرواية – إن صحت تسميتها كذلك بدور الراوي المفتعل لتقوم بدور المقدم والشارح للأحداث وهي أحداث تجري في عالم متخيل افتراضي يشبه عالم الخيال العلمي وتستعيد أحداثا وحكايات من زمن روائي متأخر عن الحاضر بما يقدر بحوالي القرن من الزمن، لتقدم رواية داخل الرواية الأولى تتمثل في حكايات وردت في مذكرات الحبيبين: نورالهدى الديماسي التونسية وكاظم النعيمي العراقي التي تنبئنا عن حكاية حبهما وتظهر لنا حكاية حب أخرى تزامنت مع حكايتهما وهي التي تضم سحر وكريم ،وقد اطلعت عليها نسيمة في إحدى الروايات.
وداخل الرواية الداخلية بزمن السرد الماضي حكايات ارتبطت بشخصيتي نور الهدى وكاظم في القرن الذي يتأخر عن زمن الدكتورة نسيمة ، وتحركت في أطر مكانية مختلفة ومتعددة، منغلقة ومنفتحة ، محلية تونسية وأخرى عراقية خارج حدود الوطن وهنا نلاحظ التداخل الفعلي في الأطر بأنواعها والرؤى رغم التطور المادي الذي يقاس يفارق الزمنين وهو مائة سنة أو ما يزيد عنها. ويبقى الرابط الأزلي ما سمته الكاتبة حب الأزل انطلاقا من فكرة تناسخ الأرواح التي يرى المؤمنون بها أن العمر الفردي ينتهي بمفعول الموت المادي وتغادر الروح معقلها الأول لتنطلق في فضاء أوسع وأرحب لتدرك الخلود وهي أي الروح تغادر كما تذكر الكاتبة في المقدمة (الصفحة 8 ): “وإن فارقت الجسم فهي لا تفارق موطن الحكاية وتظل حائمة حول مسرحها الأول حيث كانت تعيش قصة حبها مع من أحبت وقد يخطر أو يعن لها أن تعود من جديد في شخصية أخرى تمثل امتدادا لحكايتها التي ستظل حية متقدة ولتخلد كذلك بذاكرة الأرواح.”
هذا التصور للأحداث في أزمنة مختلفة وهذا التداخل في الأطر والشخصيات والعلاقات يجعلان الرواية تتأرجح بين الواقع والخيال، ليصبح الخيال ضربا من الممكن والواقع المعيش. لذلك لا نستغرب أن يشمل التداخل صور الأشياء ورؤية الوجود وأساليب الشعر والفن فكثيرا ما يمتزج النثر بالشعر والشعر بالنثر وفي ذلك روح الكاتبة فاتن كشو التي تروم الانطلاق والانعتاق في آفاق أكثر امتدادا واتساعا وسموا لا تذكرها إلا العين البصيرة والمخيلة انطلاقا من العين المبصرة. ومن هذا التصور لعالم الرواية حرصت الكاتبة على محاولة تحقيق هذه المعادلة الصعبة التي لا يجيد تحقيقها إلا ذو الحس الفني والمتمكن من أدوات السرد وطرق التعبير في فصول روايتها المتحولة من رواية الصوت إلى رواية الأصوات وذلك ما يبدو جليا للقارئ للرواية المتمعن في بنائها ومتتبع أحداثها وتقدمها في مسارات مختلفة حددتها بفصول جعلت لكل فصل رواية وصلة بما يتبعه من فصول رئيسية وأخرى فرعية حددتها في فهرس الكتاب وآخر السرد.
وبعيدا عن آفة التلخيص التي قد يلتجئ إليها مقدمو الكتب أو على الأقل البعض من مقدمي الرواية لان كل تلخيص هو تخليص لها من متعة القراءة والاكتشاف ومن الفهم الشخصي للرواية باعتبار القراءة ضربا من إعادة بناء النص الروائي والإبداع فإني أراني مجبرا باختيار شخصي مني على التوقف عند هذا الحد موجها إن صح التعبير – ومرغبا لكم ولكل من ابتلي برغبة القراءة للإقبال على قراءة “زمن الكلام الأخير” التي روتها فاتن كشو من فصلها الأول إلى نهاية فصلها الأخير بلسان الرواية كما أسلفت الدكتورة نسيمة العالمة في علم الآثار الشرعي التي قادها علمها وتخصصها وقد وظفته لمعرفة سبب الوفاة وسر رفات ألقاها البحر على الشاطئ إلى الإقرار بمنطق التصوف والإيمان بخلود الأرواح، بما يفسر تكرار تجربة الحب في زمنين مختلفين وفي بيئتين مختلفتين وتبني فكرة “امرأة الأزل” كما تقول منشئة الرواية في الصفحات الأخيرة من روايتها :
“قد تكون آرائي غير قابلة للبرهنة بطرق علمية لكني تأكدت من صحتها ومن أن الأرواح تخلد ويظل لها وجيب ممتد عبر الزمن وأن بعضها يستمر بالحياة متقمصا شخصية أخرى كما حدث مع امرأة الأزل تلك الوردة المحاطة بالأشواك التي رأت أمها ليلة وضعها أنها تقطفها من بستان ورود وأخبرها هاتف بأن الوردة لن تعيش طويلا إذ كانت لها حياة أخرى .لم يكن أحد يتوقع بأن حياة نور الهدى الديماسي “امرأة الأزل” ستنحو ذلك المنحى وأنها ستنساق وراء قلبها الذي أحب “محمود-كاظم النعيمي” العراقي وأنها ستتبعه مسلوبة الإرادة كأنما خلقت لتكون توأم روحه أو كأنما القدر أهداها له بدل الأخرى التي ضاعت منه…لكن لعنة الموت والفراق التي حلت بالحبيبين الأولين من سنوات طويلة تكررت مجددا ليلقيا حتفهما ولكن على أرض تونسية هذه المرة وكل واحد بمعزل عن الآخر واللافت للانتباه بالحكاية أن الموت الذي تربص بالحبيبين لم ينجح في تفريقهما فأوصت الفتاة قبل موتها (على قطعة جلد صغيرة من حقيبتها البيضاء التي رافقتها دائما في لقاءاتها بمحمود) بأن تدفن قرب حبيبها محمود – كاظم النعيمي …تعرف أنه مات لكنها لم تنفصل عنه وتعرف أنها ستموت حين كتبت الوصية لكنها لم تر بموتها نهاية للحب بينهما.”
فاتن كشو روائية وقاصة تونسية . تعمل موجهة في التربية، أصدرت روايتين(صوت الحب وزمن الكلام الأخير ) ومجموعة قصصية(رفاق الشمس) ومجموعة شعرية (منذ عدت من وهمي ) و كتابتين في كتابين جماعيّين : أصبح الصبح فلا ! في القصة صدر بفرنسا لكتاب عرب وكتاب جماعي في الشعر : روح شرقية صدر ببلغاريا حاصلة على جائزة في النقد سنة 2015 ولها كتابات نقدية عديدة …اسمها ككاتبة مدرج في كتاب بيبلوغرافيا الروائيين بالمغرب العربي للدكتور الجزائري شريف بن موسى عبد القادر .وهناك حول الكاتبةفاتن كشو مقالات نقدية كتبت عن رواياتها ومجاميعها في صحف تونسية وعربية بالاضافة الى..محاورات في صحف مكتوبة عربية وتونسية . وتكريمات فردية واستضافات في محطات اذاعية عربية وتونسية . ناشطة مدنية و مكلفة بخطة منسقة جهوية لمنظمة مساواة النسائية.