ذ. مصطفى امزارى
في البدء كانت العتبة.. ..بل ثلاث عتبات صغرى أرادها الكاتب مدخلا دالّا للمرور الى النص غيرالعتبة الكبرى/ العنوان الرئيسي الذي كان منسجما مع المتن .
جاءت العتبة الأولى على شكل إهداء إلى ذئب الفيلسوف طوماس هوبز ” الانسان ذئب لأخيه الانسان ” ، ومادام الفيلسوف لن يستفيد من الاهداء ،لأنه ينتمي الى القرن السابع الميلادي ، فإن الكاتب يقصد هذا الانسان الذي غدا عدوانيا ازاء الاخر ، الشيء الذي أصبح يثير لديه مشاعر الخوف والقلق و التي كانت موضوعا للقصاصات التي دأب الكاتب على جمعها الى جانب الاحداث التي يعيشها ولم تتناولها اي قصاصة….وانسجاما مع منطق الرواية نطرح هذا السؤال : ألم يكن الكاتب متوجسا من الواقع حد القلق ؟؟
أما العتبة الثانية فكانت عبارة عن مقولة : ” في قلب الالم …هل يمكن القيام بشيء….أي شيء ؟ ” .. ولعل التساؤل المنسوب الى كاتب ما ربما يكون الاستاذ عب الحميد الغرباوي هو صاحبه ..أي ان ضغط المعاناة والالم يجعلان حواس الانسان مخدرة لا تقوى على القيام بأي شيء ولكن هذا التساؤل يبقى منفتحا على احتمالات كثيرة وربما هذا هو السبب الذي جعل الكاتب يترك نسبة المقولة مفتوحة على المجهول. وقد كذبت رواية “جامع القصاصات ” هذه المقولة وهي تفرض نفسها كنص متكامل ، رغم الالم الذي كان يعتصر قلب الكاتب.
اما العتبة التالثة فهي قولة لجلال الدين الرومي ” لا تجزع من جرحك…وإلا فكيف للنور أن يتسلل الى باطنك ؟” وهنا يبدو أن ا أفق انتظار الرواية قد اعلن عنه الكاتب بإبداعية كبيرة ، ذلك أن بوثقة النور الضيقة رغم المعاناة تستطيع ان تنفتح على عوالم الامل..
لقد اعتمد الكاتب في هذه الرواية نمطا سرديا جديدا، يعتمد على تكسير بنية السرد بمجموعة من التعاريف المعجمية او الشخصية بشكل مقصود لايقاف القارئ على المواضيع الحارقة التي تبناها كالانقراض المحتمل للانسان وهو يتآكل من داخله بفعل ضغوطات الواقع (ص8) والارهاب كآفة ضاربة في عمق الواقع (ص20) ….ولعل تعريف الكاتب ل (دراكولا) و(البرت فيش) يحمل اكثر من دلالة لعل اهمها أن العنف هو ما غدا يحرك هذا العالم وهو ما كان في اغلب الاحيان موضوع القصاصات.
وإذا كان الكاتب ينحو منحى سيرذاتيا بالنظر الى هيمنة ضمير المتكلم العائد على الكاتب ومسار حياته ، إلا ان الرواية كانت منفتحة على نقد الواقع العام بشكل كبيربدءً بالصحافة نفسها والتي كانت منهلا يستقي منه قصاصاته يقول في( ص 28 ):” أي ملح وأي زفت ..الصحافة تسير من سيء الى أسوأ …جل المنابر اصبحت ميدانا لتصفية الحسابات بين الكبار ..الكباربين مزدوجتين طبعا …انا اتحدث عن الضمير المهني .”
ولعل تركيز الكاتب على نقد الضمير في كال المجالات ما يلخص موقفه من الواقع برمته إذ تدرج في التعامل النقدي معه عبر تلاث حالات :
-“غياب الضمير المهني “(ص28)
– “ينفصنا الضمير المهني” (ص30)
– ” للاسف مات الضمير” (ص33)
إن الكاتب لا ينتقد نكاية في واقع لم ينصف إنسانية الانسان فحسب ، بل يدلّل على ذلك بشواهد من الواقع ، بدليل الحكاية التي اوردها عن” نيرون” في صفحة ( 27) ، وحكاية الصديق المدرس في صفحة ( 39) …ولعل قمة قلق الكاتب هو ما اورده على لسان صديقه الاردني رائد ابوزهرة في رسالة سماها “هز النحاس ” تضمنت اسئلة حارقة يمكن تلخيصا في السؤال الاخير ” وما الفرق بين شيء وشيء ، طالما لايزال فضاء الكون معلقا، وما من ريح تهز نحاسه ” (ص34)
ان الكاتب وفي خضم تفاعله الايجابي مع الواقع ، عبّر عن قلقه المضاعف وهو يقول : “انا ايضا مختنق بألف سؤال وسؤال ، وتساؤلاتي لا نهاية لها ، ولا مجيب عنها…”… ” قد يجيب عنها الآتي المجهول ” ، هذا المجهول الذي قد يكون ” نبيا ” أو “عائدا من عمق التاريخ القديم ” أو” رسولا يحمل رسالة من كوكب آخر تعيش فيه كائنات في سلام..” (ص35).
إن ابداعية الرواية ،في نظري ، تتجلى في قدرة الكاتب عبد الحميد الغرباوي على التحكم المثالي في دلالة عنف الواقع انطلاقا من تقنية توظيف ” القصاصات التي لا مكان فيها للجمال ” (ص22) ، من هنا كان مصيرها الاعدام بالنار…
إن القصاصة الصحفية بما تحيل عليه ، في غالب الاحيان، من عنف الواقع هو ما سوّغ انحسار دائرة الفرح وطغيان الحزن ، ولعل ادراج الكاتب لحكاية المدرس وتمرين الضحك والبكاء ما يؤكد ذلك، ” نجح التلاميذ في تمرين البكاء فيما فشلوا في تمرين الضحك…” (ص39) ، ولعل السوال : ” أرايت اخي عماد كم بات الضحك صعبا حتى وإن كان تمثيلا او تعبيرا عن هم ؟ (ص40) ،يلخص مرمى الكاتب .إنّ حكاية الأسد سلطان ” النادم على فعلته وهو يفترس ذراع مروّضه ، كانت تذكيرا حاضرا بقوة في الرواية ..اذ وظفها الكاتب بإبداعية كبيرة وهو ينقلها الى ذاته والى صديقه : “لست وحدك ،عزيزي، تشعر بالرغبة في افتراس ذاتك ، أشعر أنّي انا ايضا في الطريق لألتحق بك ، ولعل الكثيرين قد يلتحقون بنا ،فقط هي مسالة وقت مرتبطة بسرعة الاستجابة ودرجة التفاعل مع هذه الرغبة اللعينة…” (ص55). وهنا يحضرني سؤال مركزي : ما نوع الروايات والحكايا التي استشهد بها الكاتب في “جامع القصاصات ؟ .
الجواب بسيط ..انها ذات طبيعة عنيفة ،لاتخرج عن طابع القصاصات ، ولعل تعريف الارهاب الذي اورده الكاتب يبدو الموضوع الاكثر عنفا والذي ميز القرن الحالي…
إن الكاتب يراهن على الكشف عن واقع الحياة ، عن الاختلالات الاجتماعية والثقافية والسياسية ، هذه الاختلالات التي تصل الى حد ممارسة نوع من الضغط النفسي على عينة من الناس ,والتي يمثل الكاتب نموذجها المثالي ،لم تعد قادرة على التعايش مع واقع غير آمن ، بل ان التمسك الفطري بالحياة يدفع بها الى البحث عن حلول بديلة لمواصلة العيش ، كارتياد الطبيب النفسي ،أو الدخول في عزلة كبيرة…وقد عبر الكاتب عن ذلك بالمباشر من خلال استنطاق العديد من القصاصات وما تعكسه من اختلالات الواقع ، و بالمرموز من خلال دلالة ثلاتية الابعاد ،ترتبط ،في نظري، بالتطهير بالنار (احراق القصاصات) وبالماء (دخلت الحمام اطلقت ماء الرشاش على راسي وانا اتقيأ ” وبالجري (كنت أمشي خببا،
الان، اجري…) (ص53)..
إن الكاتب عبد الحميد الغرباوي يسائل الواقع بجرأة كبيرة وهو يتغيا الانسان في البدء والمنتهى ،” إلهي ماذا فعلوا بالانسان ؟” ( ص52) . إن هذا السؤال الحارق هو الذي افضى الى هذه القناعة المتسائلة إذ يقول : “في كل مكان يُضطهد فيه الفرد ويجلد في مشاهد علنية تكاد تكون فلكلورية او هي كذلك ، وتعرض إعدامات بالجملة ، ويدعم الفكر الظلامي…
من هم الذين يتبوّأون مراكز رئاسة حقوق الانسان في هيئة الامم المتحدة …” (ص53)
وبكلمة واحدة اقول ، إن رواية “جامع القصاصات ” رواية حققت في نظري امتاعا مزدوجا على مستوى الموضوع وطريقة التناول ، وعلى مستوى الاسلوب الروائي الجديد والذي اعتمد تكسير بنية السرد بالحوار وبالتعريف وبالاستشهاد وبالحكاية ..وكلها منخرطة في نقد لاذع لمنطق العنف الذي اصبح عنوان الحياة الراهنة للانسان المعاصر.