إبراهيم الأعاجيبي/ النجف
بعيداَ عن الشكل القصصي أو صناعة الحدث القصصي, هنالك جمالية في تكثيف اللغة داخل النص, كأنَّ السرد عنده قصيدة بلغة سلسة حلوة, لعلَّ الروائي قد مارس الكتابة وهو يملك خزيناً لغوياَ يجعل من كلماته تناسب كقطرات الندى, هذه المَلَكَة اللغوية مكنته ووفرت له هذا الكم من الكلمات ليأخذ منها ما يراها عذباَ ويطرب الذوق, اسلوبه يحاكي الواقع لكن الخيال كان حاضراً حتى لا يفقد السرد قيمته محتواه, كثيراً من الكتاب يكتبون بلغة مباشرة مما سَهلَّ بإحراق ما يكتبونه, الكاتبُ هنا يكتب بحرفية عالية ووعي كبيرين, ثيمة القصص كانت بارزة بوضوح واستطاع أن يتقن الثيمة وثم عَمِدَ إلى إسباغ الميك آب على النص, وبذلك خرجت قصصه كأنها منحوتة نحتاً على يد فنان تشكيلي, ففي قصة في المزاد العلني يبتدأ القصة بمقدمة تمهيدية والتي بدورها مهدت في عملية رسم الحدث بلغة تصاعدية رويداً رويداً, يقولُ: الشارع مزدحمٌ, والاجسام متلاصقةٌ.. متداخلة, يهرول في داخلها القلق, يبحث عن نسمةٍ في فراغٍ, من يستطيع أن ينقل قدميه ولثلاث خطواتٍ بصورةٍ مستقيمةٍ فهو محظوظ.. تصطدم الأكتاف بالأكتاف والأقدام بالسيقان, والرؤوس تهتز كما البندول في ساعةٍ غير مضبوطةٍ, وجوهٌ صفرٌ فقدت أصواتها ولم تعد تنشد لفرط الطنين الهائج في دواخل مهزوزة, كان وجهها طافحاً بزغبٍ طفولي… هكذا يبدأ القصة, ليسحب القارئ إليه ويشده لمتابعة هذه المسيرة التي ستغوص إلى عمق النص دون شعور بضجر أو ملل أو نفور, هذا الاسلوب غلب على هذه المجموعة فهو لم يلجأ إلى المباشرة الفجة التي تضيع النكهة الفنية للعمل الأدبي, بل صنع من الخيالِ واقعاً, وهذا الخيال كان عالماً رحباَ, يدخلنا إلى فضاء القصة دون أن نشعر بهذه الجاذبية, وأما في قصة الغرفة العلوية فيقول: أنهيت قراءة القصة, كان الجميع نياماً إلا أنا والسائق وطفلٌ صغيرٌ ظلَّ يلهو في حضن أمه النائمة, طويت الجريدة وقلت في سري, حال وصولي سأذهب إلى بيت القاص لأبشره بنشر قصته الجميلة وفي الوقت نفسه أرى غرفته العلوية ومكتبته التي لا تشبه المكتبات الأخرى في خشبها, أنظر إلى بداية الجملة, ليجعلنا نتساءل وراء القراءة عما تكون وظيفة هذا القارئ؟ وما هي القصة؟ ومن هم الجميع؟ ومن هذا السائق ومن هذا الطفل وأمه؟ الكاتب علي لفته كثيراً ما جعل قراءه بحاجة إلى أجوبةٍ لما يقرؤونه, كثيراً ما تصادف القارئ جمل مبهمة تحتاج إلى غوص بعيد الغور ومهارة في عملية استنطاق النصوص وإخراج الاجوبة المبهمة التي صُبغت بها, إنه يدخلنا إلى عالم الفكر وهذا اسلوب عسير على كثير من الكتاب, لكن الكاتب هنا لا يريد من نصوصه أن تبتذل بعد قراءتها أو تستهلك بعد الاطلاع عليها, إنَّ أدبه ليس بهذا الرخص ليكون مهضوماً بصورة سهلة, بل إنك لن تمل ولن تستطيع أن تستغني عن قراءتها, ففي كل حين ستبقى هذه النصوص غضة طرية عذبة, أن الأدب اليوم لم يكن ذلك الأدب الذي هو عبارة عن ثيمة مشتتة هنا وهناك بلغة فصيحة, بل أصبح الأدب يتدخل في قضايا الفكر والثقافة والعلم, هنا أصبح من الواجب على الأدب أن يحيا هذه الحياة التي هي التي ستنهض به وتجعله يواكب العصر بروحه ووعيه وفكره, وأبرز ما وجدته بهذه المجوعة هو روح العصرنة والحداثة والفكر, مما جعلني أعيد قراءتها لثلاث مرات متتالية وفي المرة الرابعة حتى استطعت أن ألملم أطراف السرد وأتقن الحبكة وأنشغل بالفكرة, وعندها أعيتني الفكرة كيف أجمعُ شتاتها المترامي الأطراف بهذه اللغة المكثفة؟ أن ما شدني في هذه القصص هو الشاعرية أو الموسيقى المملوحة التي كتبت بها, كأني تذوقتُ تلك الملوحة وصرت أستسيغها كل حين, أن تقرأ هذه المجوعة أقول لك تريث قليلاً وأعد ما قرأت لأنك واجدٌ نكهة وطعماً آخر ستشعر به بكل إعادة, الخزين اللغوي والفكري مكنَّ القاص أن يستحضر من قاموسه اللغوي مرادفات ومفردات مستجدة, الكلمة لا تتكرر كثيراً لأن في قاموس القاص مرادفاتٌ لها كثير, لذا فبلاغة السرد كانت ولا أروع ولا أعذب, كثير من الكتاب يكتب ويكاد ان يبث روحه في نصوصه, ويظهر النص طبيعة السارد أن كان جميلاً أو قبيحاً أو بينهما, ظهرت نصوص هذه المجموعة بإسلوب مملوح جداً ممكن أعطى نكهة يتذوقها اللسان في أثناء القراءة, لأن النفس تميلُ إلى ما يحدثُ فيها أثراً, وما رأيك بها إن قرأت أثراً تقطر العذوبة من بين حروفه !
الكاتب علي لفته سعيد