الناقد إبراهيم الأعاجيبي / العراق
من الروايات التي أجهدتني قراءتها, ولم أستطع أن أمسك بتلابيب السرد لشدةِ حذق القاص في قصته, بل إنه أعيى قراءه في هذا السرد المتقن, الجنوبية التي يكتب بها الكاتب قد ألهمته هذا السحر المفتن بلا رحمة, لأن الجنوب العراقي بطبيعته الساحرة بلا رحمة هي مصدرُ إلهام لدى كثير من الكتاب والأدباء والعلماء حتى, هذه الروح الجنوبية التي كتب بها بشخصياته المحورية كانت سمة بارزة واضحة المعالم, الكاتبُ واضحٌ جداً عليه الكم المعرفي والسردي في هذه الرواية, والتي أعِدُها من الروايات التي تصنف ضمن قائمة الروايات الصعبة لإتقانها وعملية بناءها الهندسي القصصي, لا يمكن للقارئ العادي أن يستشعر بجماليتها الأدبية ما لم يعيد قراءتها مرتين أو ثلاث بأقل تقدير, وأما القارئ النخبوي فيحتاج إلى القراءة الواعية المتأملة ليفكك النص بهدوء ويستخرج القيم الجمالية لمثل هذا النوع من السرد, مرةً أخرى يتناول الكاتب علي لفته سعيد قضية العراق ولكن هذه المرة بإسلوب قوي جداً, كأن فلسفة كلامه تعطي أبعاداً أخرى يجهلها القارئ العادي وربما تضيع أو تغيب عن ذائقة ووعي القارئ النخبوي, العراق فيما بعد 2003 شكلاً تحولاً كبيراً في ذاته, ربما كان هنالك تغييراً جذرياً في كثيرٍ من عادات وأعراف عراقية قديمة, وكان هنالك انسلاخ كبير حصل لدى البعض من الناس, هذه التحولات الطفيفة والجذرية كانت محور وعي الكاتب, فهو يكتب عن الانقلاب القيمي بالامور المجتمعية وقضاياه, الكاتب هنا يقف كالمرآة يرى أنَّ الحياة ويرى نظرة وتكيف الناس لهذا التحول الكبير, كأن تغير النظام السياسي قد أدى إلى تحول في عقلية وتفكير المجتمع, الشخصيات التي اختارها الكاتب كانت كل شخصية تمثل مزاج من الأمزجة المتباينة, فمثلا شخصية علي الدفان, محسن, جمعة ,مجتبى, هذه الشخصيات مارست دورها السردي بكل اتقان, ربما رتبَّ الكاتبُ شخصياته ورسمها قبل صناعة الحدث في مخيلته, وثمَ عمدَ إلى صناعة الحدث ليشكل بناء القصة المتقن, هذه القصة ذات بزمانها ومكانها تثمل بوضوح جلي التغير الذي طرأ على المجتمع العراقي والذي أتى دون تهيأ أو إعداد له, فحصل الانقلاب القيمي بقسوة متناهية وقوة مفرطة في الانعطاف الكبير, لأن التغير أتى من الخارج بفرض نظام جديد وهذا النظام كيَّف الناس بحسب توجهاته, وكما يقال أن الناس على دين ملوكهم وعاداتهم وطبيعة تفكيرهم, التفكير الذي كان يشغل فكر الشخصية المحورية هو الخروج من دوامة هذا القلق والضياع والتشرد من أزمة قيم, نتيجة لدخول قيم طارئة جديدة على المجتمع العراقي, كان الجنوب العراقي يمثل الأصالة القيمية ولكن بدأت بعض هذه القيم القديمة تعيق وتؤثر على الناس في حياتهم الحديثة, القديمُ من العادات ما زال مترسخاً بعقلية الابناء لأنهم حتى في هذا التطور الجديد لكنهم مازالوا داخل هذا الصندوق الفولكلوري الذي درجوا عليه منذ نعومة أضفارهم, الكاتب العليم كان على معرفةٍ كبيرة بخصائص المجتمع الذي يكتب عنه فلذا ترى شخصياته متماسكة جداً, خياله كان متبحراً بالغوصِ في عوالم بعيدة, الكاتب أطلق العنان لشخصياته أن تعبر عن ذاتها بنفسها ولم يجعلها أسيرة لرغبته, وهي سمة أضافها الكاتب لعناصر الجمال في قصته, أن تكتبَ بحرفية عالية فهذا يتوفر منك أن تكون على معرفة واعية للمتغيرات والتحولات التي تطرأ والتي تشكل أهمية في عملية رسم الحدث السردي, لم أكتب مقتطف عن القصة لأترك القارئ يبحر في فضاءها الرحب ولكي لا أحرمه من متعة الذوق والفن, لعلّ أكثر ما أثارني هو الصعوبة في مسك حبل التسلسل السردي, العناوين التي وضعها كانت غاية في الهندسة المحكمة, كأنه يريد أن يجعل من نفسه من الكتاب الذين يجب أن تعاد قراءة ما يكتبون, الميزة الأخرى هي سعةِ الخيال الخصب الذي رسم هذه الرواية , لا بد أنه كان قد سافر في إلى متاهات بعيدة الغور في عالم الخيال ليأتي لنا بعرش الكلمات فينثره ليستخرج الجوهر منها ويرصفها رصفاً متقناً بين يدي المتلقي, هذا الخيال واضح جداً أنه خيالٌ مبدعٌ, وإلا فقصة بمثل هذا الموضوع وبهذه المعالجة المُحبكة تحتاج إلى عمق وتعمق كبيرين, الرواية عالمٌ رحبٌ في أحداثه وطبيعة السرد المتشابك والعميق, أما اللغة فلا شك ولا ريب انها لغة كاتب متمكن جداً من أدواته البلاغية واستعاراته التي يتلاعب حسبما يمليه عليه المعنى في جملة يختارها كلماتها الأكثر جمالية وأثر, فهو يكتبُ بلغةِ الأدباء الذين يولون أهمية بالغة في لغتهم لأنهم أرباب اللغة التي هي طيع أيديهم, يعبثون ويغيرون ويبدلون ويستعيرون من الجمل متى شاءوا بأيِّ صورةٍ يشاءون, روايةٌ تترك قراءتها أعمق الأثر في نغس المتلقي وتجعله يتساءل عما غاب عن وعيه ومعرفته والتي هي كثيرة, الكاتب الذي يثير المتلقي ويجعله في حيرة من أمره ليفك الألغاز التي تركها الكاتب في مؤلفه هي عملية ابداعية لا يتقنها إلا أولئك الذين خبروا الكتابة ومارسوها بمهنية وتقنية راقية خصبة.