الشاعر والناقد التونسي أ.فتحي الحمزاوي
وريقاتْ..
سربٌ من حمائم أفكاري
يخلع ريشه ويرتدي
أقنعة الغدِ..
ينقِّب عن بقايا جذورٍ
تقبع في الأنقاضِ..
حروفي وريقاتٌ
تخضلُّ وتذبلْ..
تهدهدها الريح حيناً
وأحياناً تزمجرْ..
ويفيض الدمع من مآقيها لآلٍ ومطر..
تنوء روحي في غمار يأسٍ
ولِهٍ بخمرة الأملْ..
والعمر ينسابْ .. كساقيةٍٍ
تنكر مجراها
فهل هذي الدرب دربنا ؟؟
أم هذا السرابْ..؟؟
اللحن الأسير الوحيد ْ..
يود لو يغنِّي, لو يطيرْ..
لكن الناي يشاكسني
ويؤرجح ذاتي
بين البقاء والعدمِ..
قيا قلب اسمع ابتهالاتي..
ولا تنفق الوقت متلبِّساً بالهمِّ..
انتظرنا قدوم الربيعْ..
وافترشنا سندس الحلمِ..
ألفاً من ليالٍ, كلللتها ليلة الأفراحْ..
الحلم تناءى..
وبكى شهرزادَ الصباحْ..
القراءة:
-متانة البناء وجمالية الأداء في المنجز الشعري النسوي العربي .
-قصيدة “وريقات” للشاعرة اللبنانية
زينب الحسيني نموذجا:
-على سبيل المقدمة :
الكتابة الشعرية النسوية او المنجز
الشعري النسائي حقول شاسعة،
لم تنل حظها من الحرث والإخصاب،
وللأسف لم يظهر ألق نوارها البديع،
ولم يفُح عطرها الشذي ،
لم يحصل ذلك، لأنها تفتقد إلى ذلك الألق وذاك العطر ، بل لأنه استقر
في الفكر النقدي -كما في كل المجالات-
ان الإبداع عموما والشعر خصوصا من اختصاص القلم الذكوري
الذي استحوذت عليه عقلية السلطة
والأنانية ولم يعترف إلا لنفسه بالقدرة على القول والإبداع ، وأن شيطان الشعر الملهِم ذكر،فلايكون اصطفاؤه إلا من الذكور ،ولا ينال
كرمه إلا للذكور..
لكن النص “الشعري”يأبى إلا أن يتنفس من شاعره،ذكرا كان ام أنثى..
يأبى إلا أن يؤمن بالإنسان دون اعتبار الجنس أو اللون او البيئة .
من الأقلام النسوية الجديرة بالاحترام والإكبار ،الشاعرة
زينب الحسيني، التي أثثت من
خلال قصائدها عوالمها الخاصة
ورسمت كونها الشعري بكثير من الهدوء والاتزان ،فإذا الألفاظ عندها
تجري مجرى ماء الجدول الرقراق،
لكنه يخفي كآبة دائمة صريحة حيية،
متوجة بالتلقائية والعفوية.. وهو ما يتجلى في نصها “وريقات” الذي استدرجنا برقة مجراه وعذوبة مبسمه إلى التحليل التالي الموالي:
1/العنوان:”وريقات”
ورد اللفظ مجللا بصفتين هما:
صيغة الجمع من ناحية ،ووضعية التنكير من ناحية أخرى، فيتضاعف
بُعد التكتم والتكثيف الدلالي الذي
ستشيع ظلاله على مساحة “المتن”
فلفظة “وريقات” مفردها ورقة،
تفتح في الدلالة نافذتين كلتاهما
لها منطق يصادق عليه بناء
القصيدة ومعاجمها وصورها
على السواء..
أما النافذة الاولى فتفتح عل نوع
من الكتابة يسمى “بكتابة الذات”
في شكل سيرة ذاتية بالشعر ،
على غرار السيرة الذاتية المسرودة
حكائيا في النثر .
فالورقة تعبير مجازي عن لوحة
من لوحات حياة “الأنا”
تعبير عن محطة من محطات تجربة
الذات في الحياة..
واما محيلات ذلك في القصيدة،
فتظهر في ضمير المتكلم الذي
اختار ان يرتدي ضمير “الأنا” تارة
وضمير ال”نحن” تارة اخرى في هيئة تبادلية سمتها “التعاود”
تظهرايضا في جملة الألفاظ المؤدية
للذات او ما يرادفها او ما يكنِّي عنها من قبيل:
( روحي/ذاتي /حروفي..)
-أما النافذة الثانية ،فتنفتح على الطبيعة المتنوعة التي تشمل الطير والماء والنبات وغير ذلك:
(الحمائم/الريح/السواقي/مطر /ربيع ..)
وتغدو الطبيعة روح النص.
والنافذتان ليستا في تنافر او تضاد ،
بل تتشابكان في تصوير رؤى النفس
وهواجسها وتفاصيلها .
2/في البناء
القصيدة الحديثة تقوم على فكرة
“الوحدة العضوية ” فالانسياب لا يعني التفكك والتشتت، بل إن متانة
المعمار داخلية غير مدركة الا بالغوص في أعماق النص،والبلوغ
الى الأسس التي انبنى عليها .
فالمتأمل في وجه من وجوه هذا
البناء وهو مسألة الضمائر يلاحظ هذا التناوب
بين الضميرين (أنا/نحن) بشكل
دوري ، وهو ينجز المعمار الخطي للنص
ويكثف انتشار الإيقاع الذي يتأتى
في الشعر القديم من مقومات العروض (الوزن /القافية)
وباعتبار ان قصيدة الشاعرة زينب
هي من نوع الشعر الحر فقد استعاضت عن النظام الخليلي بأشكال حداثية من قبيل كيفية التصرف بالضمائر وتوزيعها .
-من تجليات تشكل بناء النص ،
هو انحلال البداية في النهاية ،
وذوبانها فيها على هيئة اختفاء أمل
“البدء ” في لهيب يأس “النهاية”
النفَس الذي شاع في مدخل النص
يلوح متطلعا وإن بحياء (سرب من حمائم أفكاري يخلع ريشه ..
ويرتدي أقنعة الغد )
لكن هذا الأمل يتحلل ويضيع
كصرخة في واد..
( الحلم تناءى /وبكى شهرزاد الصباح)
فبين الخطوتين يتقوس الخط الأفقي
للنص ، ويتخذ شكل الدائرة ليسم معمار النص ،بتلك الصورة الدائرية .
-3/ في تشكل “الذات”
ذكرنا كيف أن القصيدة تشكلت من أشكال الكتابة الذاتية ، لذلك تحملت
اللغة بمفرداتها وتراكيبها ومعاجمها
وصورها, مهمة تشكيل لوحة (الأنا)
وهي تتطور على امتداد السطور ،
وقد تغيرت ملامح هذه الصورة عبر
محطات ،حسب تغير المزاج والحالة
النفسية التي تمثل مرآة عوالم الداخل ..
وتلعب الأساليب اللغوية دورا مهما
في الكشف عن هذه المناخات النفسية المتضاربة .
ويمكن ان نمثل لذلك بالظواهر الموالية :
-الإقرار والاستدراك:
” اللحن يود / لكن الناي يشاكسني”
التضاد :
” تخضل /تذبل ،البقاء /العدم”
تحكي القصيدة إذن اضطرابات النفس ، وهي تتردد بين اليأس والأمل ، بين الرغبة في الظفر
وخيبة الانكسار ،فتبدو كريشة
في مهب الريح ،إلى أن ينطوي بها
المطاف إلى الارض ثم اليأس ،
حين يبكي الصباحُ شهرزاد و ينأى الحلم ..
ورغم أن النص يحكي ذات صاحبته،
إلا ان ضمير الجمع” نحن” قد يفتح
القول على سيرة جماعية،ربما هو جيل الشاعرة من المثقفات اللواتي حلمن بتغيير حقيقي في بنية المجتمعات العربية فخابت أحلامهن .
-4/على سبيل الخاتمة:
لا ندعي الإلمام والإحاطة بما تضمنه
هذا النص الشعري، فذلك غير مدرَك،
في هذه المساحة الضيقة،ولكن اردنا
أن نلفت الأنظار إلى ان الإبداع الشعري النسوي العربي ينطوي على مساحات شاسعة من الأسرار والجماليات التي تستدعي الكشف عنها، وقد بدا لنا أنّ نصوص الشاعرة زينب الحسيني نموذج صادق وحقيقيّ على ذلك”