بقلم: الدكتور امحمد امحور/ كاتب، باحث في الأدب العربي والشعبي رئيس مصلحة تأطير المؤسسات التعليمية والتوجيه بمديرية الناظور
تختزل نادية العمراتي في أضمومتها الشعرية الباذخة “أرصفة عارية” عوالم انزياحية ومجازية تنشد إلى ملكوت الذات بأواصر وثيقة، تحاور بها أزمنة حديثة، وتنفتح على أنساق معرفية، وثقافية، وذائقة شعرية موجهة بمقصديه خاصة تعلي من قيمة القريض في زمن معولم أبكم لا يبين، ولا يعير أدنى اهتمام للعواطف والأشواق، والأحلام، والاستيهامات المؤجلة إلى إشعار آخر. وأن تنبري الذات الشاعرة لرتق مكامن الخلل في الجسد، والذاكرة، والوجدان؛ يعني ذلك أنها قد ارتوت بماء المجاز، والاستعارة، والكتابة، والخيال الجموع منذ أمد بعيد، وانصاعت لعوالم التخييل، ونوستاليجيا الذات، وايقاعات الخليل سنين عددا. ومن ثمة فقد استبانت صفوتها من رغوتها، ولم تعد مشروع مبدعة تراود سحر الكلمة الشاعرية، بل إنها استوت شاعرة بحق وحقيق، ثم إن ذائقتها الشعرية، وقدرتها الفائقة على التقاط اللحظات الجميلة في الحياة، وإعراضها صفحا عن الفترات العصيبة فيها، زودتها بطاقة تخييلية أسعفتها، في مناسبات تترى، وأماكن منفلتة من الزمن في هذا السجل الشعري البهيء، على السجال الذي يتحول إلى حوار عقيم حينما تجرد الذات الشاعرة من كيونتها ذاتا تعكس ذلك الآخر البئيس والكئيب وقد يتحول هذا السجال إلى تشييد عوالم شعرية بهية، وخاصة عندما ترتدي الذات الشاعرة سترة المجاز وهي تطل من أعلى شرفة الحزن لتبعثر أوراق ضحكات، وقهقهات على جدار الوقت، لتفسح المجال للمتلقي، الذي قد يستوي عودة في صورة قارئ مفترض أو قد يتبدى في هيئة منشد يعزف على أوتار الشعر سيان، إمكانات واعدة يشي بها هذا السفر الشعري، لملء، البياضات، والفجوات، والفراغات التي تركتها الذات الشاعرة عمدا، وعن سبق إصرار، لإشراك هذا المتلقي في تضميد الجراح بهدف استشراف دلالات شعرية الغموض وترصيع أيقونات المجاز وهرطقات الايقاع الداخلي الذي لا يستوي أوده إلا على أنغام السماع المستوحات من مقامات المتصوفة وأحوالهم . وأن تضمد الشاعرة نادية العمراتي جراحها عبر ثنائية الاتصال والانفصال؛ يعني ذلك أنها قد نالت قصب السبق في الانفتاح على ذلك الآخر وما يرمز إليه من برودة المكان (الانفصال)، وقد يتحول إلى لحظات مائزة ترصدها الذائقة الشعرية رسما وتشكيلا، وقد تتهجاها لغة تنهل من الزمن الذي تراود فيه صلاة العشق والنبوءة مانحة الهالة للحرف الكاليغرافي الذي يتوارى بدوره ليمنح الفرصة للصوت الشعري الجميل (الاتصال)؛ هذا الصوت الذي يرفض مجاراة إيقاع الخطيئة، ما دام المجاز يمتلك سلطة لغوية تنشد إلى قواعد سياقية ترغم الخطيئة على الانتحار فوق حقول ذلك الآخر المنفصل على الذات الشاعرة،ولا غرو فالعطر لم يعد يجدي إذ لا عطر بعد عروص .
لقد نجحت الذات الشاعرة إلى حد بعيد في جعل صوتها متفردا بعمق الرؤيا، وجسارة استشراق آفاق واعدة عبر الانخراط في قضايا العصر وأسئلته الحارقة في تعالقاتها الممكنة مع المتخيل والذائقة الشاعرية .
وعموما فإن المبدعة نادية العمراتي قد راكمت ثقافة موسوعية مكنتها من رصد لحظات شعرية باذخة، وانفتحت على مصادر معرفية متنوعة، ساهمت في تشكيل بنية عميقة قابلة للقراءة والإنشاد، والتأويل . والمتلقي قد يجد صدى لذخيرته الفكرية وموسوعته الأدبية في هذه الأضمومة الشعرية الوارفة.