بقلم: إبراهيم رسول / العراق
يخوضُ الكاتب عمار الثويني ثيمة غريبة وتكمن غرابتها بأنَّها تدور وتشتغل على الخيال الفني( السردي), كأنه يحبُ أن يكونَ غريباً مميزاً في الثيماتِ التي يَنتقيها ويبدأ بشحذِ تقنياته السردية ليأتي بعملٍ جديد, الإبداعُ هو الابتكار أي التجديد, وهذه سمة أو وصف قلَّ من عُرِفَ به, اختيار الفكرة التي ستقوم عليها الرواية هي من أعقد المعقدات أو من المعضلات الشائكة التي تواجه السارد الذي تكون فكرته الرئيسية غريبة والأدق عندما تكون الفكرة خيالية, كثيراً من الروايات كانت ثيمتها خيالية ولا تعرف ملامحها لأنها كتبت بطريقةٍ رمزيةٍ لا يستطيع أن يفك شفرتها المنغلقة المعتمة إلا متلقٍ حذق, يعرف الرمز ودلالته ومغزاه البعيد, هذه لعبة فنية سردية اشتغل عليها كوكبة من الكتاب المبدعين الذين أغنوا الحقل السردي بأفكار مبتكرة, كأن تكون الشخصية وهمية, قد يكون المكان وهمي, هذه المرة يدخلنا الروائي عمار الثويني إلى عنوان جديد, اللافت للمتلقي أن الكاتب جعل مركزية المكان تطغى وتهيمن كثيراً في بناء الرواية كلها, وهذه هي الفكرة المبتكرة التي أجاد وبرع القاص بها, إذ الثيمةُ هذه المرة تدور في شيءٍ يمثلُ رمزية عالية في الطبيعة التي خلقها الله تعالى, يؤثر المكان في الفرد أيَّما تأثير, لعل تعبير الناقد ياسين النصير في كتابه ( إشكالية المكان في النص الأدبي ص 17) دقيقاً حيث يقول: ( ليست الأرض إلا موطن الأحلام الأولى, هكذا فكر الفلاسفة العرب الأوائل عندما جعلوها موطن الخلق ومادة الفكر) هذه التربة تتفاعل معها نفسية الإنسان وينجذ لها انجذاباً فطرياً, ثيمة الرواية لها دلالة رمزية, إذ تمثلُ الفكرة الرئيسية قوة الانتماء والشد نحو المكان الذي يعتبر من المقدسات عند الإنسان, ولقداسةِ الأرض كلها جعلها الله تعالى طاهرة بطبيعتها, الاشتغال السردي كان ينصبُ على هذا الانتماء وهذا الشد نحو الرجوع إلى التربة والماء, واضحٌ من المقدمة التي قدمها لكاتب لروايته, أن هنالك دافعاً ( motive) للكاتب جعله يكتب هذه الرواية, إذ شكل المكان أهميةً كبيرة في النص الروائي, ولعب برمزيةٍ عاليةٍ دوراً كبيراً في تطور الحدث الروائي, إذ الشخصيات كانت تتحرك وفق تطور الحبل السردي الذي نسجه الكاتب وخطط له, إن البناء التتابعي للرواية يعد كلاسيكياً جداً إلا إن الرواية كانت تعنى بمرحلةٍ زمنيةٍ أشار إليها النص, عن طريق الايحاءات التي بثها كثيراً في النص, إذ زمن الرواية جعل من كلاسيكية البناء التسلسلي يعدُ الأجمل من بين الأبنية السردية الأخرى, فكرة البناء التتابعي كانت ميزة فنية جمالية للسرد, كان المكان في الرواية التقليدية عبارة عن مجرد خلفية (BACKGROUND) ليس إلا وهذه الخلفية تتحرك أمامها وحولها الشخصيات وتقوم الأحداث عليها, أما في الرواية الجديدة والحديثة أصبح المكان عنصراً جمالياً هندسياً تحتاجه الرواية ليضفي عليها اللمسة الساحرة, شخصية هيثم لها جذر راسخ بهذه الأرض التي ينتمي لها بكل عروقه وبكل ذرة من جزيئاته, فقد ورد على سبيل المثال في الرواية كلمة دقيقة, أثناء لقاء هيثم وقاسم بمكان خارج العراق: ( كنت أتوقع أنك آخر من يغادر العراق, ولا أصدق ما يتراءى إلى ناظري الآن, قاسم مطر حالوب بشحمه ولحمه ودمه هنا في وسط البلد بمدينة عمان! قاسم مطر حالوب يغادر العراق ومدينة المجر والأهوار!…) التساؤلُ هنا من المتلقي عندما يقرأ هذا النص, لماذا جعل المكان مكانين, وخاص وعام أي العراق كوطن عام والمجر والأهوار كمان خاص؟ هذه فنية لازمة لم تغب عن خيال القاص وهي التفاتة ذكية من خياله الفني, إذ إن الانتماء للوطن شيء يتفق عليه الجميع لكن يبقى الموطن الأول أو المهد الأول وهو المدينة أو الحي أو المنطقة أو الزقاق أو الشارع حتى, يبقى الالتصاق أعمق وأقوى في المكان الأول, الغربةُ الموحشة لها أسباب فوق الظروف فيتحتم على الفرد التغرب, التغرب هنا كان عبارة عن اختناق, إذ يرد هيثم على قاسم ويتساءل متعجباً مُشبهاً التغرب عن المكان ( المجر والأهوار) كخروج السمكة من الماء, هذا التشبيه يدل على الصلة العميقة التي لعبها المكان في نفسية الفرد, النص يشي ببوح مضمر وطاقة تكاد تحرق وتقتل نفس ( هيثم, قاسم) هؤلاء يحملون هموم المكان معهما حيث كانا, لعل مرافقة السواح ليكتبوا البحث والتقارير عن طبيعة هذا المكان هي مهمة انتفض لها الفرد الذي يحمل الولاء المطلق لهذه الأرض, والأعجب أن يكون الإهداء إلى شخصية أجنبية قد كتبت عن هذه الأرض ( ثيسيجر الذي كتب عن الأهوار) , كأنَّ الكاتبَ يريدُ أن يعطي أهميةً قصوى في الاهتمام بفينيسيا الشرق كما أسماها, الأهوار وما تشكل وما شكلت بنفسية المواطن العراقي والجنوبي بالتحديد تعني أنها الحياة لهؤلاء القاطنين حولها, الألم الذي أباحه السرد كان ألماً يعبر عن الغربة الداخلية أو الذاتية للفرد الذي لم يشعر بقيمة له بظل أنظمة لم ترعَ لهذا المكان حقه ولم تحافظ عليها حتى بل الأنكى والأدهى أن السلطة أساءت إلى المكان وأرادت قتله ونهاية حياته, الهور له دلالةٌ مميزة واضحة, إذ إنه الحياةُ لهم, وليس أدلُ على عمق المعنى الجوهري للهور من أن يكون الفرد الذي يتغرب عنه كالسمكة التي تخرج من الماء! اتخذ المكان في هذه الرواية مركزية قوية تفوق مركزية الشخصية في السرد, إذ البناء الهندسي للسرد قام على المكان وأثره في الشخصية, الاشتغال السردي كان مبنياً على أن يكون المركز للمكان كشيء رئيسي أو أولي ثم تأتي العناصر البنائية الأخرى لتكون مركزيتها بعد مركزية المكان, لعل استخدام ( البيت) في رواية ( الرجع البعيد) لفؤاد التكرلي قد تمثل نموذجاً لمركزية المكان في الرواية العراقية, اما في رواية عمار الثويني أصبحت ( الأهوار) هي المركزية أي النقطة التي بُنيت عليها الأبنية الفنية للسرد, الحفرُ الذي مارسه القاص بهذه الثيمة هو لإبراز الأثر الكبير لقيمة الأهوار, كثيراً ما تغنى الكاتب بهذه الأهوار فيصفها بفينيسيا الشرق التي تكون مساحتها أكبر من مساحة بلد مثل لبنان, الروايةُ قد تصنف من ضمن الروايات التي اهتمت بالتاريخ وبالأخص أن الزمن كان عنصراً فنياً وذو أهمية بالغة في البناء الروائي, إذ لم يكن الزمن هامشياً بل كان أحد الأعمدة التي ارتكز عليها البناء السردي, هذا الزمن حاول أن يؤرخَ للرواية بتاريخٍ معين, ولكن هل تصح أن تؤرخ الرواية وهي العمل ( الخيالي) للتاريخ؟ الاجابة قد ذكرها الكاتب في نهاية الرواية وأفصح بكل وضوح بأن هذه الرواية لا تعد مصدراً تاريخياً يُعتد به, ولعمري أن هذه المصارحة لا يدلي بها إلا من كان عالي الهمة, صادق السريرة, كبير النفس, التوظيفُ للمكان وأهمية الدور الذي لعبه في نفسية الشخصية التي كانت مفعمة بالاتصال التواشجي مع المكان كان توظيفاً مبدعاً, إذ العلاقة المتبادلة بين ( المكان/ الإنسان) كانت علاقة جداً متينة, إذ التوظيف الفني كان قائماً على بثِ الاتصال ومن خلالِ هذا الاتصال يحدثُ التفاعل العاطفي بين ( الهور, هيثم, مطر), وهذا التفاعل أعطى زخماً ببناء السرد الأفقي حتى حل العقدة الاخيرة للرواية.