بقلم: منذر فالح الغزالي
الحكاية… ذلك العالم السحري الذي ما انفكّ يدهش الإنسان بسحره وجاذبيته.
منذ طفولة الإنسان على هذه الأرض والحكاية سميره الأقرب. الإنسان لا يعيش بلا حكاية، يرويها، أو يسمعها، أو يعيشها، حياة الإنسان حكاية، بتوحشه وتحضّره، بتدينه، وفلسفته، بكفاحه وحبّه قسوته ورحمته، حربه وسلامه… الحكاية جزء من إنسانية الإنسان.
منذ أن وعى وجوده والإنسان يقصّ حكايته؛ أولى الحكايات التي وصلتنا كانت عجائبية (أسطورة، ملحمة)، في محاولة من الإنسان في تفسير ظواهر الكون التي يعجز عنها عقله أو خياله، ثمّ الحكاية الشعبية التي يختلط فيها الواقع بالخيال. ومرّت القصة في مسيرة تطورها من الغرائبية بكل أشكالها حتى وصلت على تخوم القرن التاسع عشر إلى الواقعية بكل تجلياتها.
وكما عجز الإنسان أمام قوانين الطبيعة المتشابكة المعقدة، فخلق الأسطورة هروباً من عجزه وإرضاءً لحاجة روحه القلقة، جاءت الواقعية السحرية حركةً تجديديةً في الأدب في النصف الأول للقرن العشرين حين لم تعد الواقعية تكفي لبثّ الطمأنينة في روح الإنسان الذي يرى الواقع أعقد كثيرا مما يبدو عليه، بل هو غامض يخفي وراءه مجموعة متشابكة من العلاقات المعقدة.
“الكتابة، في الواقعية السحرية، لم تعد نسخاً للواقع، بل الواقع نفسه لم يعد واقعياً، صار سحراً، إيهاما بالواقع. ومن هنا فالواقعية السحرية تقوم بوظيفتين في آن واحد: الأولى زرع الغموض والسحر في الواقع. والثانية تبديد هذا السحر والغموض، وبالتالي يتحول السحر من وسيلة سردية كما كان في الملاحم والحكايات الشعبية… إلى أيديولوجيا مستترة يتم تسريبها وإخفاؤها في وقت واحد”*.
بعد هذه المقدمة الطويلة نسبياً، نقول باطمئنان كبير بأن النص الذي بين يدينا (الغرق على اليابسة) هو قصة قصيرة، تنتمي لتيار الواقعية السحرية. وقبل أن ننتقل لتفكيك النص وتحليله نستعير ما قاله الأستاذ فوزي عيسى في كتابه الواقعية السحرية في الرواية العربية بأن “الواقعية السحرية هو سرد أحداث ووقائع غير عادية أو خارقة في ثنايا أحداث طبيعية مغرقة في الواقعية… بحيث تبدو وكأنها جزءٌ لا يتجزأ من الواقع اليومي المعاش للشخصيات”
بناء الحدث القصصي
بنية السرد في قصة الغرق على اليابسة بنية تقليدية، ابتدأ الكاتب نصه بمقدمة طويلة نسبيا يرويها راوٍ متكلم هو الشخصية الظاهرة الوحيدة في النص، يمهّد فيها لدخول الحدث ويوهمنا بحياديته.
ثم تبدأ حركة الحدث تتصاعد تدريجياً وبتسارعٍ قليل، وصولاً إلى عقدة الحدث… –” الماء في كل مكان في الصالة!” حيث تبدأ الواقعية السحرية بهذه العبارة الفاصلة، التي انطلقت من خضمّ الواقع، واقع القصة، وليدخل حدثٌ آخر يطغى على الحدث الواقعي، في سيرورة متوازية بين ما هو واقعيٍّ محض، وبين ما هو سحري/ عجائبي، في تداخل جميل، تتوسط بينهما حركة الحدث الآخر على الشاشة الكبيرة، ولتصبح القصة في ثلاثة أحداث متوازية ومتحايثة، وعددٍ لا منته من الأزمنة والأمكنة.
وفي هذه النقطة أيضاً يحصل تحوّل نوعي في بؤرة السرد وفي طبيعته، حيث انتقل من السرد المباشر على لسان الراوي المتكلم العالم، إلى أسلوب العرض أو الحوار، وتعددت الأصوات، على ألسنة شخصيات متعددة، مجهولة الأسماء والهوية والصفات، يخالهم القارئ متشابهين، كأنهم نسخة مكررة…
“فجأة هتف صوت أجش، انطلق من آخر الصالة، طغى على أصوات الفلم:
– الماء في كل مكان في الصالة!
أعقبه صوت نسائي، من الجهة المقابلة:
– هل نحن أيضاً سنغرق؟
فتصاعدت أصوت لغط مع ضحكات متداخلة، من كل مكان في أرجاء الصالة.
حتى صرخ أحدهم بجدية فرضت نفسها على الجميع:
– أتكلم جاداً.. انظروا مكان وقوفكم جيداً.
وأكد آخر بصوت واثق:
– الماء يرتفع منسوبه كل دقيقة.
– لنسرع في الخروج من هنا.
أضاف أكثر من صوت”.
وليس هذا الأمر (تشابه الشخصيات وتماهيها ببعضها، وخلوّها من الملامح الخاصة….) عبثيا، فالكاتب يدرك جيدا كيف يوظف التفاصيل الصغيرة، مستغلا هذه التفاصيل في الشحن الإيحائي بأقصى طاقة.
بنية الزمان والمكان
استطاع الكاتب، من خلال تخييل جيد، وتكنيك مدروس، أن يدخلنا في لعبة إيهام ناجحة مستخدماً بنيتي الزمان والمكان، بشكلٍ خاص، بأقصى ما يمكن من طاقتهما الوظيفية، لتمرير رؤيته وربما أيديولوجيته الذاتية، دون أن يترك خلفه أثراً يكتشفه القارئ بسهولة.
ففي حين بدأ النص بالراوي المتكلم بدايةً نمطية في زمنٍ واقعيٍّ متخيل يصلح أن يكون كل زمان، وفي مكانٍ مفتوحٍ تسقط عليه الشمس وينفتح على الأفق، غير أنه، في الوقت ذاته، مكان انتقالي قلق مرحليّ مؤقت… “رأيت جموعاً غفيرة من الناس تزدحم على باب السينما “، وبطل/ راوٍ يدّعي أنه يمتلك حرية الاختيار… “فقررت مشاهدة الفلم، برغم أنني لم أسمع عنه سابقاً”.
بعد هذا المدخل السريع والآني في سيرورة الحدث، ينقلنا الراوي إلى زمن/ أزمنة، ومكان / أمكنة مختلفة ومناقضة لما بدأ به، مفتتحاً بذلك الحكاية/ الحكايات الموازية النابعة من خضمّ واقع الحكاية؛ لكنّه العالم السحريّ الغرائبيّ الحامل في ثناياه قوّة الإيحاء وطاقة التأويل والإسقاط.
الزمن في صالة السينما، ظلام يشبه الليل، والظلام مفردة تملك آفاقا واسعة للتأويل.
والمكان صالة مغلقة ومقاعد ثابتة، وبشر منهمكون في مشاهدة أحداث هائلة تجري أمامهم؛ لكن… خلف شاشة سينما!
وفي تحليل البنية الدلالية، اختيار بنيتي الزمان والمكان له أهميته، ولهما دورهما الوظيفي الهائل في النص.
بنية العتبة، الغرق على اليابسة
الغرق، وكذلك اليابسة، مفردتان واضحتا الاستعمال، واضحتا المعنى محدودتا الإيحاء؛ غير أن اجتماعهما دون أي كلمات أو أحرف إضافية يفجر المعنى، ويلغي المنطق النحوي ويخلق، على الفور، دلالاتٍ أخرى تنفتح على عالمٍ سحريٍّ له منطقه الخاص الذي يقبل أن يكون الغرق فيه على اليابسة. وهذه العتبة، بفعلها الصادم للمنطق، تلعب دورها الكامل في التهيئة لقادمٍ في سيرورة الحدث من عالم سحريّ، يصبح، لغرابيته، الغرق على اليابسة، متماشياً مع الواقع الغريب الذي عايشه في قراءته للنص.
معمار النص، تكنيك البناء
جرت العادة أن تكون دراسة المعمار البنائي للقصيدة، وبشكل خاص قصيدة النثر، لما للبناء المعماري وشكل القصيدة على الورق من تأثير على الإيقاع. أما ما أريده في تحليل بناء الشكل لهذه القصة فله علاقة بالواقعية السحرية التي استخدمها الكاتب في بناء نصه، فالغاية هي محاولة فهم آلية عمل الواقعية السحرية في ذهن القارئ، وكيفية التأثير الانفعالي والسيكولوجي.
للقصة، في الواقعية السحرية ، مساران على الأقل إذن: مسار أول هو مسار لحدث القصصي، بزمانه ومكانه وشخوصه وواقعه السحري المتخيل الذي رسمه الكاتب بالكلمات على لسان الراوي أو الرواة. والمسار الثاني هو تلك الحكاية التي يفتحها النص ،بفعل القراءة، بالتأويل والإسقاط، وهنا تكون قصة أخرى، في واقع آخر، أو قصص أخرى ربما بعدد القراء للنص، كل حسب تجربته وثقافته، وبالتالي درجة تمثُّلِه لنص.
بعد صدمة العتبة المفارقة للمنطق، يدخل القارئ النص تقوده شخصية واقعية لا يعرف منها ألا أنها عالمة بالحدث وتسرد ما تراه أمامها بشكل حيادي، حتي تطفأ أضواء الصالة، ويسكن كلّ شيء، وتنعدم الحركة داخل الصالة، بطقس إيحائي يربطه اللاشعور الجمعي بحالة يعرفها ويعيشها في مجتمع ساكن منغلق ومغلق على أبنائه، مادياّ ومعنوياّ، سجنٍ كبير، أو سجن أفكار منغلقة، وجموع لا تملك إلا المشاهدة والانفعال، دون أن تقوَ على الفعل أو التأثير والتغيير.
ملتزما بتقاليد الكتابة التقليدية من لغة وسرد وحدث، يتابع الراوي اقتياد القارئ نحو أجواء حلمية أستطاع الكاتب أن يؤثث لها زمانيا ومكانيا بشكل مدروس، ظلام وسكون، ومكان محدود مغلق، محافظاً على بناء الحدث دون أي تغيير، ومحافظا على تلك المسافة الدقيقة بين الواقعي والسحري؛ ليكون القارئ مستعداً لقبول منطقٍ جديد متناسب مع لا عقلانية الواقع السحري الذي نجح الراوي في إدخاله إليه، وتصبح فاعلية تلك القوانين الغريبة تنال القبول لدى القارئ، كونها تتناسب وغرابة الحدث، ويتحوّل اللامعقول، بفعل التخييل والتماهي مع المتخيَّل، إلى عالم خاص بقوانينه وأحداثه، وبالتالي: بردود الأفعال الناتجة عن تلك القوانين الجديدة.
الحبكة، رغم أهمية بنائها، وقوة سبكها، إلا أنها، في الواقعية السحرية، تبقى مجرد وسيلة، والغاية منها هي تلك الإسقاطات والإحالات الذهنية والانفعالية بين واقع الحكاية السحري، وتفاصيل واقع معاش لا يقلّ سحراً عنه وغرابة.
ففي لحظة من لحظات القراءة تقدح في ذهن القارئ نقطة الربط بين فضاء الحكاية السحري، وفضاء آخر، بحكاية ما في ذاكرته المنسية، ليتماهى الفضاءان بعد هذه اللحظة، ويتحوّل ما هو سحري في الحكاية المسطرة على الورق، إلى حكاية أخرى عاشها أو ما زال يعيشها، قد تكون أشد غرابة وأعصى على التفسير من حكاية الراوي… فيخلق المنطق الآخر الذي يحتاجه لا شعوره لتفسير ما لم يستطع عقله الواعي تفسيره أو تحمّله، ومن الطبيعي، بعد ذلك، أن يصبح لكل عنصر من عناصر السرد ما يماثله في لا وعيه، ما دام أنه يقرأ حكاية على الورق، وفي خياله يتمثّل حكاية أخرى، حكايته هو، حكاية، بألمها وغرابتها ولامنطقها، أشبه بحالة عجائبية، تماثل حكاية النص.
خاتمة
الواقعية السحرية طريقة جمالية في إبداع معادلات غرائبية تعادل غرابة الواقع ولا معقوليته. والكاتب يوظف الواقعية السحرية لوضع رؤية فكرية أو أخلاقية أو موقف في مواجهة اختلالات التاريخ والمجتمع والعالم أخلاقيا وفلسفيا، فالخلفية السردية هي خلفية فكرية محض، وبالتالي يكون الإسقاط والتأويل، أو إعادة بناء واقع آخر يشير إليه واقع النص السحري، بأحد أو بعض عناصره المختلفة.
تحية للكاتب سامر أنور الشمالي، وقصته (الغرق على اليابسة).
تحية لمجلسكم النقدي الكريم، بأعضائه وزواره.
منذر فالح الغزالي
بون 22/ تموز/ 2020
*سعيد الغانمي، خزانة الحكايات ، ص ص 144ـ 1134