إبراهيم الأعاجيبي/ النجف
إنَّ العلاقةَ بين الرواية والفكر علاقة وثيقة ومتلازمة,فكلاهما نتاج المخيلة الجمعية للمجتمع,إذ كثيراً ما اشتغلت الرواية على الفكر وعوّلت عليه في خطابها السردي,وكما يقول رفيق رضا صيداوي في كتابه(الرواية العربية بين الواقع والتخييل) معرفاً الرواية بأنها:جزء من الواقع الاجتماعي والثقافي الذي تنخرط فيه آيديولوجيا.إذن هي خطاب جمالي تمارس فيه الأيديولوجيا سلطتها التأثيرية فكرياً ونفسياً. ويقول د.محمد سبيلا في كتابه( الآيديولوجيا نحو نظرة تكاملية):وإذا كانت الأيديولوجيات المختلفة بوصفها ظواهر فكرية وثقافية عامة تؤطر المجتمع. تعيش واقعاً من الصراع المستمر لفرض رؤاها الفكرية والسياسية على الواقع الاجتماعي,عمار بلحسن في كتابه( ما قبل ما بعد الكتابة): فإنها تكون في الرواية نسقاً متوارياً يتخفى خلف أقنعة سردية مختلفة قد تشي لغة الكاتب أو طريقته في بناء أحداث الرواية أو تقديم شخصياتها, ذلك بأن علاقة الأدب الموضوعية بالأيديولوجيا تظهر في كونه خطاباً أنتج تحت تأثيرها, وفي كونه هو الآخر ينتج آثاراً أيديولوجية, لذا فالأيديولوجيا العامة تبدو مضمرة ومخفية في النص الذي تكشفه القراءة . فتكون العلاقة بين الفكر والرواية وفقاً لهذه الرؤية علاقة تبادلية تقوم على التأثر والتأثير,فالرواية تنماز عن فنون الأدب الأخرى بقدرتها على استيعاب الواقع وتمثله وتمثيله بطريقة واعية,وهذا ما اشتغلت عليه رواية (قلق عتيق),إذ نرى أن الرواية قد اشتغلت على الفكر كثيمة واضحة جداً, ولعلها عالجت قضيةً مهمة, إذ تحكي التغيرات الفكرية والسياسية في مرحلةٍ أو حقبةٍ من تاريخ العراق السياسي والثقافي,امتازت المرحلة التاريخية التي تعالجها الرواية بأنها عبارة عن صراعات وتناحر لتياراتٍ فكرية وسياسية, الروايةُ سلطت الضوء على الصراعات الفكرية والسياسية في مدينةِ سوق الشيوخ التي اتخذها القاص أنموذجاً مصغراً للعراق, يقول النص في صفحة 83(كيف لهذه المدينة احتضان كلّ هذه المتناقضات في القومية والدين والمذهب والأحزاب والثقافة والوعي.. تجلس في مقاهيها فتسمع ما يمتدّ من اللهجات والتجارة)إذ وضع المدينة هي محط استقطاب الناس ونزوحهم إليها لأنها تضم كافة ألوان الطيف, هذه إشارة ذكية منه, وتوظيف رائع يُحسب للسارد,إذ الفكرة أصبحت أكثر رمزية وتعطي مدلولها بحنكةٍ عاليةٍ,ساحة العراق كانت تمور في الصراعات الفكرية وهذه المدينة النموذج الأكثر قرباً في التشبيه,لأنها جمعت الجميع تحت سقفها وفوق ظهرها,فدلالة المكان أعطت دلالتها بتقنية مميزة وصورة فنية جيدة,الصراعاتُ الفكرية والثقافية كانت تقام في هذه المدينة بين مدٍ وجزرٍ,والمدينة رابضة منتظرة الخلاص الأخير والاستقرار التام فيها.لعلَّ شخصية عبيّس أكثر من عبرت عن الحالة النافرة والمستهجنة لهذه الدوامات الفكرية السائدة وكشفت شخصية (عبيّس) رأي الجمهور غير المنتمي لأيِّ تيارٍ من هذه التيارات.
إنَّ هذه التيارات الفكرية التي كانت تتنافس لاستقطاب الجمهور كانت تتخذ أساليب في الدعاية والترويج,والكاتب يأخذ عينات من كلِّ هذه التيارات التي تتناحر فيما بينها,اللافت للنظر أن الكاتب خلق شخصية ممثلة لكل تيار ومعبرة عنه,لأن لكل شخصية من هذه الشخصيات ميزة خاصة بها, فمثلاً شخصية البعثي تختلف عن شخصية الشيوعي اللذين هما على طرفي نقيضٍ تماماً,نجد الاستخدام المضمر للنظريات التي كانت مُتداولة بين الناس كالاشتراكية والماركسية وغيرها, هذه النظريات أضمرها النص لضرورةٍ فنية,النص أشار إشارة رمزية لحالةٍ عاشتها كل أنظمة الحكم المتعاقبة وهي حالة (الانتقام) هذه الحالة السوداوية التي غلبت على أغلب أنظمة الحكم, إذ إنها تعمد إلى تصفية وملاحقة رجال الحكم الذين حكموا قبلهم وهذه الحالة تسارع بتوليد ثغرة كبيرة وفجوة في القيادة الجديدة, إذ يكشف عن هذه الحالة الحوار الرمزي الذي دار ما بين عبيّس ونعيّم:(أنت شيخ ابن شيخ..إرجعْ لرشدكْ وراح تشوفْ نفسك شيخ عشيرة بمكان الوالد..أصفنْ شوية وشوف حالك..بسْ أوصيك لا تنتقم أ لن إذا فكّرت بالانتقام ما راح تتخلّص من حالتك أبدْ)هذه الرمزية التي كشفها الحوار تدل على الطريقة التي يتخذها رجال السلطة الجديدة وهو القصاص من رجال السلطة السابقة,هذه الحالة عاشها العراق في تاريخه الحديث.القاصُ هنا مارس دور الناقد بواسطة خطاب النقد المتمثل في دلالة النص أعلاه,وهذه الدلالة حولت الخطاب من خطاب بارد إلى خطاب ناقد ومستكره ليؤثر في سلوك السلطة الجديدة عسى أن تعيدَ النظر بهذا السلوك!السارد مارس دور الناقد لكثيرٍ من سلوكيات هذه الأطراف المتناحرة فيما بينها,فمثلاً يقول النص عن سلوك الفرد البعثي:(صير آدمي..ولا تبقى مع الشيوعيين الكفرة..إنت صرت مسلم.. البعث أقرب إلك)..(إذا بقيت مع الشيوعيين نقتل زوجتك وأمّك وأبوك وحتى ابنك)هذا النص كشف عن النزعة السلوكية والثقافية لحزب البعث,هذا الاشتغال الفكري والنقد الثقافي الذي لعبه النص أعطى للرواية ككل قيمة فكرية إضافية تضاف إلى مزاياها الجمالية الأخرى التي اشتغلت عليها،الروايةُ تستدعي التاريخ في خطابها وثيمتها لتستحضر الحاضر وتستشرف المستقبل فهي تنظر إلى الماضي ليس إلا الماضي لذاته بل لما يعد طريقاً نحو فهم المستقبل,وكما يقول د.عبد السلام المسدي في كتابه(التفكير اللساني في الحضارة العربية):إنَّ قراءةَ الماضي هي التأسيس المغذي لسيرورة المستقبل. لعلّ استدعاءَ الرواية لحقبة زمنية ماضية هو ومعالجة التناحرات الفكرية التي كانت سائدة لهوَ يُعد رؤية استشرافية لحاضر المُعاش أو المستقبل الآتي أو المجهول,النزعةُ الذاتية لكل شخصية مؤدلجة كانت واضحة,إذ هنالك دلائل كثيرة تشي بتعريف الشخصية لأي تيارٍ تنتمي,اللافت للنظر إن القاص لا ينظر لصدق الأحداث أو كذبها بقدر ما يحاول أن يؤسس لفكرة. فرواية قلق عتيق هي رواية تحاكي الفكر.وهي ليست قصة للروي أو الحكي بل هي عملية ابداعية تعنى بالفكر وقام البناء الفني لها على أساس مخيلة فكرية,كثيراً ما وردت ألفاظ مثل(الثورة) وهي تعني الثورة التي تكون عبارة عن انقلاب أو مؤامرة يُدبرها تيار معارض ضد تيار حاكم,هذه التوجهات كانت تتلاطم فيما بينها وتستعر نيران غضبها,فالرواية هي رواية سياسية بالدرجةِ الأساس واجتماعية في الدرجة الثانية لكنها لا تعني أن تكون عبارة عن قصة خطاب أو خطاب قصة,بل هي تعطي للفكر مساحة وللمخيلة أن تعبر,القضية الكبرى التي عالجتها الرواية هي (ألـ لماذا) لماذا نحن هكذا؟ لماذا يحصل هكذا؟ لماذا لا نصل لمثل تلك المجتمعات التي وصلت وتقدمت في سلم الحياة,هذه الـ ( لماذا) جعلت النص يحمل خطاباً مضمراً تبوح منه الاستفهامات الكثيرة,الشخصية التي انتقاها السارد,إذ وضع لكل شخصية تعبيراً أو مثالاً عن توجهٍ ما,التساؤل الذي يلح أين نجد شخصية السارد بين هذه التيارات المتصارعة
(الاشتراكية, الرأسمالية)السارد كان مضمراً ومتلاشٍ بين النص, ولكنه كان كثيراً ما أعطى لشخصية (عبيس)دوراً كبيراً,إذ جعل منه الوسيلة عبر الانتقال في الأزمنة, لأن (عبيس)عاصر عدة أنظمة وتيارات ووقوفه بموقف اللأبالي أو البعيد عن معمعة الصراعات الايديولوجية يوحي بأنه يمثل الشريحة الغالبة على المجتمع الذي لا يريد أن ينتمي لأي تيارٍ من هذه التيارات,وهذا مثالاً واضحاً على كثير من أفراد المجتمع الذي يقفون على الحياد.
إن رواية قابلة لعدة قراءات,ولا تمر عليها النار التي تحرق الروايات,وهي نار المباشرة الفجة أو السطحية السهلة,إذ إنها ستبقى تحتاج إلى تأويلاتٍ عدة لأن ثيمتها الأبرز هو الفكرة,وموضوعات الفكر بحرها ساحل له. مثلت رواية قلق عتيق التوجه الفكري والابداعي الذي وصلت إليه الرواية العربية والعراقية بالتحديد,عبر تجديد العملية البنائية والاشتغال على الفكر والتعويل عليه في العملية السردية التي نضجت وأصبحت مواكبة للرواية الحديثة المبدعة.