بقلم الأديبة زينب حداد / تونس
يستقبلك أوّل ما تدخل قاعةَ الجلوسِ ساعةٌ كبيرةٌ معلّقةعلى الجدار الذي رسمتْ عليه الرطوبةُ أشكالا من وحْيِ سنين الوحدةِ …ساعةٌ تزحف عقاربُها أفعوانيةً تتصيّدُ الدقائقَ و الساعاتِ …
القاعةُ صغيرةٌ يرشحُ البردُ من جدرانِها و الصمتُ …أثاثٌ بسيطٌ هنا و هناك أتى الزمنُ على ألَقِهِ فباتَ باهتًا كأنّ رمادًا قد ذُرَّ عليه …أريكةٌ هي مقعدُه و كرسيٌّ هزّازٌ هو مجلسُها و طاولةٌ عليها جهازُ هاتفٍ أضاعَ ذاكرةَ الرّنينِ و إنْ حاولَ فلا أحدَ
يُعيرُه اهتمامًا إذ مَن عسى يكونُ الطالِبُ وقد خلتِ الدنيا من حولهما ؟…
أريكةٌ و كرسيٌّ و طاولةٌ و هاتفٌ…والصمتُ خامسهم
من سنواتٍ وهو ينتقلُ من الفراش إلى الأريكةِ كلَّ صباحٍ ،ومن سنواتٍ وهي تتخذُ نفسَ الدربِ لتجلس على الكرسيّ قبالتَه و تحرصُ ان تكونَ الساعةُ في محيطِ بصرِها
الذي يجاهدُ كي يتبيّنَ الخيطَ الأبيضَ من الأسْوَدِ…تتلهّى بحركةِ العقاربِ …كثيرا ما تناشدها التأنّي و قد تتآمرُ عليها الساعةُ فتسرعُ الخطى وكأنّها على عجلةٍ من أمرها تريدُ أن تخلصَ من هذا العذاب الأبدي و العبث الذي لا ينتهي
هو وهي و الساعةُ ثالثهما… و الصمتُ …
الستائرُ مسدلةٌ صيفا و شتاءً فلماذا تُرفَعُ ولا شيءَ في الخارجِ يمكنُ أنْ يجلوَ صدَأَ الأيام المتماثلةِ من خريفِ العمرِ٠
قد يضيقُ بالمكانِ فيأخذُ عكازَه وينظرُ إليها عساها تسعفه فتسرعُ إليه كما تُسرعُ عجوزٌ” وَهَنَ العظمُ منها و اشتعلَ الرأسُ شيبًا” …تأخذُ بيدهِ فتُصدرُ المفاصلُ صوتًا كأنّه وقْعُ الحجرِ على الحجرِثم يتبعهُ أنينٌ مُختنِقٌ لا يُعرَفُ مأتاهُ :منها أو منه أو من كلِّ خليّةٍ فيهما ليختلطَ بأنّاتِ الساعةِ على الجدارِ مكتومةً مُتَوعّدةً …
هو وهي والساعةُ …والأنينُ رابعهم
تقوده إلى النافذةِ وتزيح الستار جانبا فيشغل عينيه اللتين سكن فيهما الضبابُ بحفيفِ أشجارٍ تخلّتْ عنها أوراقُها أو غبارٍ يصّاعدُ مع هبّاتِ الريحِ كأنّه الأرواحُ توّاقةً إلى السماواتِ وقد أوْهنَها الحبسُ في الجسدِ ٠
لا شيءَ في الخارجِ غيرُ السكونِ ولا شيءَ في الداخلِ غيرُ الصمتِ إلاّ حركةَ عقاربِ الساعةِ كالحشرجةِ تعلنُ مرورَ الزمن باهتا أجوفَ بلا لونٍ ولا طعمٍ،ثقيلٍ باردٍ …تبعده عن النافذة وتقوده إلى أريكته فيجلس بعد جهادٍ مع مفاصله التي استعذب الروماتيزم الإقامةَ فيها…
من السريرِ إلى الأريكةِ إلى النافذةِ …
من النافذةِ إلى الأريكةِ فالسرير …
دورةٌ لا تنتهي …ووجود بلا معنى
تجلس على كرسيّها مجدّدا …لاشيء فيها يتحرّك غير شفتيها …يبدو أنّها تسرد لنفسها أو لطيفٍ ما حكايةَ تسعين عاما من عمرها بحُلوِها فتبتسمُ و بهمومها فيتجهّمُ
وجهها…
يعلو شخيره فتنظر إليه في إشفاقٍ وتلحّ على الكرسيّ أن يعتقها ، و بعد جهد و مناورةٍ
تقتربُ منه وتحاول إيقاظه فيفتح عينيه المشحونتين بمشاهد الحروب و الاحتجاجات،
بسنوات عجافٍ وأخرى سميناتٍ ،بمظاهر الأفراح وطقوس المآتم،بأحلام الربيع و ذهول الخريف ،بعُبوسِ الشتاء و ازدهاء الصيف …
تقول مطمئنةً:هل آتيك بشيء من الحساء الساخن؟
يقول:سأنتظر حضورَ الأولادِ من المدرسة
تقول:لن يأتوا فقد رحلوا ثلاثتهم
يقول:قالت لي أمّي بالأمس إنّها ستزورني وستُعدُّ لي الطعامَ الذي أحبّه و ربّما يصحبها أبي …أنا ابنهما الوحيد المدلّل
تقول:الأمسُ مضى عليه أربعون عامًا
يقول : سأذهب إلى الغرفة الاخرى لأنام في حضن أمّي الدافئ …أطفئي كل الاضواء فأمّي تكره النوم في الضوء …
تنظر إلى الساعةِ في شرودٍ…تتنهّدُ عميقا فتحسّ بباطنها أجوفَ كبئرٍ بلا قرارٍ
لا شيءَ غيرُ الوحشةِ و الوحدةِ و عقاربُ الساعةِ ثالثهما
يستندُ إلى ذراعِها بِيُمناهُ و إلى العكازِ بشِمالِه و يتّجهُ نحو البابِ يطلبُ الخروجَ …
يضعُ يدَه على المِقبضِ ثمّ يردّها خائبةً وهو يُرمْرمُ :”سأنتظرُ أمّي بالداخلِ فهي لا تحبُّ أن تراني تحت البردِ و الريحِ …ستأتيني بالإزارِ الذي حاكته لي من الصوف”…
تقوده مجددا نحو الأريكةِ ثقيلةَ الحركةِ،مُرهقَةَ النظراتِ…أنفاسُها حشرجةٌ و صوتُها أنينٌ
من البابِ إلى الأريكةِ ومن الأريكةِ إلى النافذةِ ومن النافذةِ إلى الأريكةِ ومنها
إلى السريرِ وهكذا …دائرةٌ لا تتسع ولا تضيق كالدائرة التي ترسمها عقاربُ الساعةِ المعلقةِ على الجدار تكنِّسُ ما يعترضها من ذرات الزمنِ نحو نقطةٍ ما ، نهايةٍ ما …
وضعتْ على رجليه غطاءً سميكا واستلقتْ على كرسيّها الهزّازِ و أغمضتْ عينيها المجهدتين فمضت بها الرحلةُ إلى عوالم تتفجّرُ شبابا وخضرةً ومياها و نورا و نوْرًا٠
كانت وإيّاه في غمرةِ النور يغازلان الأفقَ :هي عنوانُ الوسامةِ وهو عنوانُ الفتُوّةِ …
عندما فتحت عينيها ،كان ضوءُ الشمسِ قد تسلّلَ من السُّدولِ إلى الداخلِ …رفعتْ عينيها إلى عقاربِ الساعةِ…وجدتْ أنّها قد توقّفتْ عند الثالثةِ صباحا …أسرعتْ إليه توقظه لتأخذه إلى فراشهِ وهي تلعنُ النومَ والأحلامَ و ذهابَ الصحةِ …أسرعت بخطى امرأةٍ في التسعين قدْ وهنَ العظمُ منها و طحنتها السنون …وضعت على جبينه يدا مشفقةً مرتعشةً و سرعان ما ردّتها خائبةً… كان باردا متيبِّسًا ٠
عادت إلى كرسيّها تنظر إليه وإلى الساعةِ التي عادت عقاربُها إلى الدورانِ تطحنُ الدقائقَ و الساعاتِ …
لا شيءَ في الغرفةِ غيرهي والساعة و الصمتُ ثالثهما
*العنوان هو صدر بيت معروف للشاعر الجاهلي تميم بن مقبل
ما أطيبَ العيشَ لو أنّ الفتى حجر. تنبو الحوادثُ عنه وهو ملموم