بقلم محمد محضار
عندما استيقظت هذا الصباح ،اِكتشفت أن هناك أشياء غير طبيعية ،قد حدثت في أعماقي، وأن هناك تغييرات جذريه ،قد مسّت جسدي، ظننتُ المسألة في أول الأمر مجرّد حلمٍ عابر ، لكن مع مرور الوقت ،اِتضح لي أن الحلم حقيقة ، شربت قهوة سوداء علّ خلايا دماغي تسعفني وتضعني على السكة الصحيحة ،لكن التناقضات ازدادت وضوحا، فاستسلمت للأمر الواقع، وقلت لنفسي :”إن ما يحدث لي يتجاوز حدود إدراكي وقدراتي العقلية “
اختلطت عندي المفاهيم ،وتزحزح الأنا الأعلى من مكانه، ولم تعد لدي القدرة على التمييز بين الواقع والخيال ،عندما خرجت إلى الشارع، بدت لي الحياة العامة باللونين الأبيض والأسود فحسب، أما الناس فكانوا يسيرون بطريقة معكوسة..
تذكرت أن علي ركوب الحافلة من شارع أفغانستان في اتجاه مرس السلطان حيث مقر عملي ، عندما جاءت الحافلة اكتشفت أنها بدون أبواب ،ولا نوافذ، ولا مقاعد ، والناس الذين يوجدون بداخلها يتحدثون بلغة لم أفهمها ،وأجسامهم شفافة قابلة للاختراق ،كنت أراهم وأخترقهم لكنهم كانوا غير آبهين لأمري، كأنني غير موجود ،توقفت الحافلة فجأة ، فاندفعت إلى الخارج.
عندما ولجت مقرّ عملي ، بدت لي الأمور لأول وَهْلة عادية ،لكنني ما إن دخلت مكتبي ،حتى فوجئت بديكورات قديمة، وتجهيزات تحيل على فترة زمنية بائدة ، كراسي خشبية لم يعد لها مثيلٌ ،وأرائك جلدية، ذات قيمة تاريخية ،ومكاتب من الأكاجو الممتاز ،كل شيء كان يوحي بأنني أوجد خارج الزمن الذي كنت أعيش فيه ،كان لباس الموظفين المنتشرين في المكاتب الإدارية ،يحيل على !الماضي بكل عبقه، ويُذكّر بحقبة زمنية غابرة، قال لي موظفٌ يرتدي جلبابا بزيويّاً1أبيضاً، ويضع على رأسه طربوشا أحمراً :”لقد سأل عنك الباشا” ،نظرتُ إليه مستغربا :
“سأل عني الباشا” !
تابع كلامه وكأنه يعرفني:
“قلتُ له: أنك في دورة المياه” .
رددتُ عليه وعلامات الاستغراب ما تزال بادية على وجهي: “وماذا يريد مني الباشا؟”
قال الموظف بنبرة حادة: “أنسيتَ التقرير الذي كلفك بإنجازه البارحة.. عن أحداث مدينة وادي زم2 الأخيرة .
تواصلت معالم الدهشة والاستغراب على سُحنتي، وقلت بصوت أجش :
-تقرير حول أحداث مدينة وادي زم ! وما شأني أنا بهذه الأحداث؟
-لا تتغابى.. لقد قُتل عشراتُ الفرنسيين على يد الأهالي ، وسلطاتُ الحماية مُحرجة أمام الرأي العام الفرنسي
قاطعته ضاحكا :
-لقد طرحت هذه القضية في الجمعية العامة للأمم المتحدة
نظر إلي بعينين تلمعان بالدهشة،وقال:
-ها أنت تعرف أكثر مني :
سايرت الرجل في تخريفه، وحملت ملفا ضخما وجدته على المكتب المفترض أنه لي، ثم خرجت قاصدا مكتب الباشا، سرت خطوات في الممر المزين بلوحات زيتية قديمة، إلى أن وجدت أمامي لافتة كبيرة، مثبتة إلى جانب باب ضخم من الأبنوس، كُتب عليها :”مكتب السيد الباشا” ،طرقت الباب، ثم ولجت ، وجدتني في فضاء فسيح، وشاسع ،اكتشفت زرابي رباطيه ،وطنافس فاسيه، وموائد بأشكال هندسية فريدة ، وفي العمق، كان هناك مكتب بنيُّ اللون من الموشارابي الرفيع، يجلس خلفه رجلا ملتحٍ، يرتدي جلبابا أبيضا، وبرنوسا من نفس اللون، ويضع على رأسه طربوشا تركيّاً ، ما أن لمحني حتى هتف بي :
-أين الملف.. أسي المهدي ؟؟أريد ملف مدينة وادي زم
قدمت له الملف، فتلقفه ، ومضى يفحص أوراقه، بتأن، وتدقيقٍ، وعندما لاحظ أنني مازلت واقفا ، قال لي بصوت مستفسرٍ:
-لماذا لا تجلس؟؟ هذه ليست عادتك.
جلست على الأريكة الجلدية، المحاذية للمكتب، تابع بصوت متوتر:
-أنت تعلم أن المقيم العام الجنرال جوان متعنّت ويريد نتائج واقعية أكثر على الأرض .
قاطعته مستغربا :
-الجنرال جوان !
-ما وقع في وادي زم خطير جدا ، لقد قَتل الأهالي عشرات المعمرين الأبرياء ، مات الأطفال والنساء.
قاطعته متسائلا:
-والأهالي! ،ألم يهلك منهم خلق كثير؟؟
تابع كلامه غير آبه لما قلت::
حتى المستشفى اِنتهكوا حرمته وقتلوا الطبيب والمرضى ، أما المراقب المدني الفرنسي كرايول فتمت تصفيته بكل بشاعة قرب “دار الضّوْ” إنها مذبحة رهيبة أسي المهدي .
علقت محرّكا رأسي :
-فعلا هي مذبحة ، دفع الأهالي ثمنها غاليا يا جناب الباشا
تجاهل تعليقي مرة أخرى، وقال بصوت متهدج :
لقد لقي الجنرال ديفال مصرعه ،بعد سقوط طائرته فوق منطقة خنيفرة، لو وصل إلى وادي زم لكان أمر بحذفها من الخريطة ..
-هذه حكمة ربانية ، فالطغاة مصيرهم الاندحار.
-جوان متشدد مع القواد والباشوات، نحن في خطر أسي الخليفة
إذن أنا خليفة ، في زمن لم أعِشه ، وفي عمق تاريخ أصبح للذكرى..
قلت للباشا المُفترض :
-إذا كنتُ خليفة.. فاعتبرني مستقيلا.. منذ اللحظة
ردّ عليّ بغضب::
-ماذا تقول؟؟ أُصمت من فضلك ، أتعلم أن الاستقالة تساوي الإعدام ..أتعلم أن همجية ثوار وادي زم دفع ثمنها الأهالي غاليا، لقد دمر العساكر المنازل وخربوا الدواوير..
قاطعته مستهجنا كلامه :
-الموت أهون من الذل. .
ثم هرولت مغادرا مكتبه .
قابلت الموظف صاحب الجلباب البزيوي، سألني مستفسرا::
-ماذا فعلت مع جناب الباشا؟؟
-قدمت استقالتي .
-أتمزح!.. إنك يده اليمنى.
هرولت مسرعا أغادر المكان ، تنفّست الصعداء عندما أصبحت بالشارع، وتحسست أطرافي لأتأكد من وجودي ، وكينونتي ، التفتُ حول نفسي، وحدّقْت في الفضاء الذي أوجد به، كان هناك بياض ،ورائحة دواءٍ ، يا إلهي أنا أوجد بالمستشفى!! .
كنت ممددا على السرير وبالقرب مني تجلس أمي ،وإخوتي ، ونظراتهم مسمرة عليّ.
هتفت بهم مندهشا::
-أين أنا؟؟
اقتربت مني أمي مبتسمة ثم قالت :
-الحمد لله، على سلامتك، أفقت أخيرا من غيبوبتك
!! -غيبوبتي
قاطعني أخي موضحا :
-لقد تعرضت منذ يومين لحادثة سيرٍ، وأنت عائدٌ من مدينة
وادي زم ، ثم دخلتَ في حالة غيبوبة.
1)نسبة الى مدينة بزو المغربية
2) مدينة مغربية وقفت في وجه الاستعمار الفرنسي الغاشم 2010 محمد محضار