بقلم ذة.مينة المغاري
نظرت إلى الساعة… تساءلت كم من مرة نظرت إلى الساعة؟ للمرة العاشرة؟ العشرين… السادسة والنصف.. أغمضت عيني قليلا؛ يجب أن أنهض من فراشي، امسكت هاتفي الذكي، شاشته توقفت عند مذكرتي اليومية. اطلعت على البرنامج إلهي يوم حافل ينتظرني … اجتماعان اثنان، ومحاضرة، ولقاء علمي، ودرس توجيهي لطلبة الدكتوراة …ويجب ألا أنسى حصة السباحة. اشتقت كثيرا إلى النادي وإلى صديقاتي.. شعرت بقدمي تحطان على الأرض فتوكأت بيدي على الحوض الكبير الواسع. الماء الدافئ الذي يملأ المسبح المغطى يهدئني. إنها الساعة التي أمنحها لنفسي، سويعة أخطفها بين الفينة والأخرى. أجوب المسبح ذهابا وإيابا، أتوقف أحيانا لأتبادل الحديث مع صديقاتي ثريا وفنيدا وزكية… نتحدث عن سفر لطيفة إلى مونتريال، نشتاق إلى صالون لطيفة و”ملتقيات صديقات أجمل العمر”. نتبادل الحديث عن الحياة اليومية. نتوق إلى طعم الحياة الهادئة …أمسكت برأسي بقوة حتى يسكن الصداع الذي ألم بي ثم قصدت مهرولة الحمام مددت يدي إلى المرآة، مسحت الزجاج من بخار الماء، بدت لي ملامح والدتي على وجهي. تساءلت هل هي تقف خلفي؟ خيال أمي لا يفارقني هذه الأيام. لماذا أصبح وجهي متعبا؟ لماذا تجتاح شحوب وجهي باندفاق، لم أعد ارتاح بما فيه الكفاية … رفعت خصلات شعري وقد شعرت بأنني بدلت مجهوداً كبيراً حتى أرفعها. بدت بعض التجاعيد تحوط بنيقة عنقي تحت ذقني. شعور خوف رهيب يتملكني ولا أستطيع السيطرة عليه. رفعت يدي إلى جبيني أفركه بعصبية وكأنني بتلك الحركة سأنزع عني التعب الشديد الذي كنت أشعر به. لقد عانيت من أرق طويل ليلة أمس والليلة الماضية، لم أعد استحمل البقاء في البيت ولا سماع أخبار المذياع التي لا تكف عن الحديث عن الوباء وعواقبه، وعدد الوفيات، وعدد الإصابات واستحالة الكشف عن دواء يقضي على الجائحة…
لمست وجهي مرة أخرى، أحسست ببرد، برد الصباح ينعشني، هيا يجب أن ألبس ملابسي الخارجية … كم هو جميل طرح ثوب الليل وارتداء ثوب مختلف، زي يبعث على حياة جديدة… يجب أن أهتم بهندامي، ألا ينتظرني يوم حافل؟ … ألبس فستاني الأزرق وحذائي ذي الكعب العالي …أضع عقد اللؤلؤ على صدري، أسمع صوت والدتي يهمس بداخلي:
“اللؤلؤ يلبس منفردا، فهو من المعادن الثمينة، وهو دليل الخير والرزق، ويساعد على تحقيق الأمنيات إذا أمسكت به أو رأيته في المنام …”
أتلمس حبات العقد، أسترجع الذكريات …كانت والدتي قد اقتنت الحبات الملساء العاجية من مكة قبل أن تغلق الكعبة بسبب كورونا. كم كانت فرحتها كبيرة وهي تنظم صفوف العقد في خيوط من حرير أخضر.
صوت والدتي يؤكد لي:
“أفضل أنواع اللآلئ تكون بيضاء اللون، وفي بعض الأحيان تكون بلمسة عاجية، أو وردية خفيفة
وقد تشوبها لمسة من اللون البراق أو التألق الفريد. ”
اشتقت إلى أيامي الماضية… فجأة غشي ذلك البخار الضبابي مرآتي. كان الدوار يخف مرة ويعود في أخرى … نظرت إلى المرآة الضخمة، التي كانت أمامي فالتقت عيناي بخيال أمي …
أحسست أني اشتقت إلى فنجان قهوة … أحب أن تغمر رائحة القهوة المنزل تدريجيا … أراقِب خطوط البخار المتصاعد من إبريق القهوة، وأتلذذ الرائحة.
القهوة مفتاحُ النهار. أسمع صوت محمود درويش يتعالى في ركه مسرح محمد الخامس، وهو يردد:
والقهوة، لمن يعرفها مثلي
هي أن تصنعها بيديك
والقهوة الأولى يفسدها الكلام الأول لأنها عذراء الصباح الصامت.
رائحة القهوة عودة وإعادة إلى الشيء الأول، لأنها تنحدر من سلالة المكان الأول، هي رحلة بدأت من آلاف السنين.
شعرت بأن الدوار قد خف، كما لو أن ذلك الغشاء الضبابي، الذي كان يحجب عن عيني الرؤية بوضوح، بدأ بالتلاشي هو الآخر..
وجدت نفسي أفتح باب المنزل… نبعت من أعماقي شهقة قوية.
انتابني إحساس غريب، أحسستُ نفسي مثل فراشة، جميلة وخفيفة. الفرحة التي غمرتني في اللحظة التي فتحت فيها الباب، كأنني أستحوذ على الفضاء بأكمله، دون منازع، للتلذذ بالحرية المطلقة.
صوت محمود درويش يتابع، كأنه ينبع من المذياع بجانبي:
وأنا أعرف القهوة من بعيد:
تسير في خط مستقيم، في البداية،
ثم تتعرج وتتلوى وتتأوّد وتتأوّه وتلتفّ على سفوح ومنحدرات،
وجدتني أسوق سيارتي صوب الرباط، كم أعشق أن أعبر القنطرة التي تربط ضفتي أبي رقراق، أحب الاستمتاع بالمناظر الطبيعية على السفوح والمنحدرات، التي تشرف عليها صومعة حسان بكل شموخها.
أسمع صوت أمي وهي تفسر:
“لكل ربة بيت حساؤها (حريرتها). الحريرة تختلف من منزل إلى آخر، برغم أنها تعد بالمواد ذاتها: (كلها وحريرته.) لأن الفرق يوجد في المقادير، والمقادير في الطبخ المغربي تفسر عادة ب (عينك ميزانك :
حفينة دلحمص وقبيصة دلملحة ، وشوي دلبزار وقبيطة دالقزبور، وكميشة دلعدس، ونسيمة دالسمن، والدقيق على حساب …) ”
يحضر درويش مرة أخرى:
ولكل بيت قهوته، ولكل يد قهوتها،
القهوة لا تُشرَب على عجل. القهوة أُختُ الوقت. تُحتَسى على مهل …
القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة.
القهوة تأمّل وتغلغل في النفس وفي الذكريات.
رائحة القهوة تسربت من المطبخ، حجبت رائحة الحريرة … أسمع صوت ابنتي يوقظني:
-“ماما تحضرين القهوة؟ أويلي آذان المغرب مازال ليه ساعة.”