بقلم الأديبة التونسية إبتسام عبد الرحمن الخميري
نسمات الماضي..
اشتدّ القصف و الرّعد… لم تكفّ الأمطار عن النّزول لحظة واحدة… كانت الرّيح تصفّر صفيرا مخيفا ينبئ بقدوم أمر ما..
فجأةً، لاح في الأفق بعض الصّحو.
تململتْ في فراشها ثمّ غادرته أخيرا.. في هذا اليوم لم تُضع الكثير من الوقت و هي ترتدي ملابسها و توضّب مظهرها، ألقت ببصرها إلى السّاعة الحائطيّة…
كانت السّاعة الحادية عشرة صباحا، فهمست:
-إنّه الوقت المناسب حتما سأجده في المكتب.
سارت ” ضحى” في الطّرقات و الأنهج تحت وقع حبّات المطر، و بالها مشدود هناك: أين … تحيطه الكتب و المجلاّت… عرّجت على هاتف عموميّ قبل بلوغ المكان لتتأكّد من وجوده بالمكتب: فجاءها صوته ممزوجا ببعض التّعب و بعض الاشتياق و الحنين إليها و الحال أنّهما التقيا منذ أيّام قليلة:
-عزيزتي… أنا أنتظركِ… فهيّا إليّ.
ابتسمت ابتسامتها المتأتّية من الأعماق و سارت إليه… كان ” يوسف ” منهك القوى.. مبعثرَ الأفكار.. تحمل نظراته حزنا عميقا و حاجةً لا مثيل لها: إنّه يحتاجها؟؟
فحين رؤيتها أمامه بالباب جذبها إليه و احتضنها بقوّة كما لم يفعل ذلك من قبل… ثمّ ببراءة و براعة أجلسها على الكرسيّ المتحرّك و راح يداعب شعرها و يبعثر خصلاته المتلألئة…
تارة بحنان و رفق و تارة أخرى بعنف و قوّة… ثمّ صرخ قائلا:
-لماذا تأخّرتِ كلّ هذه الفترة؟؟ أظنّكِ تعرّفت إلى شخص آخر… آسف.
بغتةً، صمت. كفّ عن الكلام و شرع يتأمّلها كأنّه يُسائل عينيها الصّدق و الحقيقة… كأنّه يناشد الطّمأنينة و الرّاحة… بدا متعبا، أضنته الأيّام… جثّة متداعية و مترامية…
مبعثرة هنا و هناك… سمعت صراخا منبعثا من أعماقه:
-دثّريني بطيبكِ.. لملمي شتاتي الضّائع…
لم تقوَ على الاحتمال، نهضت من مكانها و دون أن تنبس بكلمة عانقته… عساها تلبسه رداء يُذهب عنه صقيع المشاعر… عانقته حتّى أنّها نسيت الزّمن و المطر و الرّيح…
إنّ ما يربط “ضحى” ب” يوسف” لم تكن علاقة عشق و هيام… كلّا.. إنّهما باتا شخصا واحدا… و حلما واحدا بالرّغم من المسافات الفاصلة بين تواجدهما… فقربهما قد محا كلّ المسالك…
لا أخالكَ تشتاقني بقدر اشتياقي لكَ؟؟
تساءلت ثمّ عادت إلى الكرسيّ المتحرّك لتجلس، بينما شرع هو في بعثرة الأوراق المتواجدة على مكتبه و إعادة ترتيبها على غير هدى…
كان كأس الشّاي أمامه منذ عدّة ساعات… لقد اكتسحه اضطراب مفزع.. انسلّ إلى صدرها غيظ: أَ تُراه لا يبرأُ بوجودي؟؟
أحسّته يتململ، ينازع الحيرة. يودّ أن ينثرها أمامها، هو يريد الكلام و التّحدّث في أمر ما. لم تسأله. فقط راحت تمعن النّظر في هذا المكتب الّذي لم يكتب له يوما التّنظيم…
و هذه الكتب المرصّفة بمختلف الأحجام و تلك المجلّدات و المقالات… هي بئر عميقة يصعب الاقتراب منها سواه. لمحته يسرق النّظر إليها من حين لآخر… كان شوقها ممضّا. يكاد يصرعها… أ تصرخ في وجهه: “ما الأمر؟” بيد أنّ رباطة جأشها جعلها تسأله في هدوء و سكينة لا نظير لهما:
-أ لم تر الأمطار في الشّوارع و الأنهج؟ رفع رأسه و يداه تعبثان بالأوراق أمامه… حدجها ثمّ قال:
-هل قرأتِ آخر مقال كتبته منذ يومين؟؟
لم تنطق بحرف، لكنّها رفعت جبينها مستغربة سذاجته، و الحال أنّه متأكّد من متابعتها كلّ ما يكتب..
ران بعض الصّمت ثمّ بدأ ينزف أمامها:
هل تعلمين أنّ المرأة هي الوحيدة القادرة على تشكيل الرّجل؟؟
نعم، هي قادرة على صنعه كيفما أرادت لربّما لا تدري ذلك. فأنا مثلا لأختي الكبرى عليّ فضل و جميل لن أنساه. لولاها لما انبجست مشاعري الفيّاضة تجاه الأدب و الفنون…
إنّ طريقة معاملتها صيّرتني أشعر و أحسّ بعدّة مسائل قد لا ينتبه إليها بقيّة الرّجال و قد لا يعرفونها…
صمت لحظةً، فنهضتْ و وقفتْ وراءه تماما و بدأتْ تداعب شعره و تقبّله على جبينه من حين لآخر كأنّه طفلها… هي متيقّنة تمام اليقين أنّه يحتاج دفئها، فلازمت الصّمت.
” لقد كنّا أربعة إخوة و كنت أصغرهم، بعد وفاة والديّ، تكفّلت أختي الكبرى بتربيتنا و رعايتنا… أكبرنا أخ يدرس بالجامعة شعبة علوم. كان نادرا ما يقبع في البيت… فأخواتي البنات يخفنه كثيرا.. و يعرنه اهتماما كبيرا: ” إنّه سيّد البيت” يسكت الجميع إذا دخل هو، نادرا ما يتكلّم… أمّا معي، فأخواتي يتصرّفن بكامل حريّة و دون اهتمام. رأيتهنّ يتهامسن، يضحكن، سمعتهنّ يروِين قصص عشقهنّ دون خجل. حقّا. لقد صاحبتهنّ إلى كلّ الأماكن الّتي ذهبْن إليها: السّوق، الحمّام…
نعم، لطالما دخلت معهنّ الحمّام مع النّسوة، كنت أتأمّل هذه، و أستغرب شكل تلك… و أجلب ماء لأخرى… كنت طفلا في عيونهنّ و كانت ذاكرتي تدسّ…
منذ سنة تقريبا، رحت إلى قاعة السّينما وددت مشاهدة فيلم ” عصفور سطح” حينها سبح فكري… دغدغ أمسي، نبش الماضي فأيقنت أنّه يسكنني حاضرا… هو لم يمّحَ…
فأحسست أنّني ” العصفور” ينطّ من سطح لآخر…
رويدا رويدا مال صوته إلى الحزن، أحسّته ” ضحى” يحمل بعض الآلام و الشّجن. إنّه يختنق من الوريد. فقاطعته:
-لكنّ أختك قد اعتنت بكَ. هي قد حرصت عليك.. لذلك اصطحبتك إلى كلّ الأمكنة. أَ تلومها الآن؟؟
واصل ببعض المرارة:
-طبعا لا. لكنّ كلّ تلك الظّروف جعلت منّي مرهف الحسّ و الشّعور، لربّما انتابني شعور بالألم لرؤية مشاهد و مناظر قد لا تؤثّر في معشر الرّجال…
قالت: هذا أمر رائع، حتما. الآن أجدكَ تمتاز عنهم.
-كالعادة ” ضحى” تجعلين منّي بطلا أسمو عن الجميع.
-كفّ عن تعذيبي… إنّي أريدكَ همسا…
راحت تتحسّسه بطرفي أصابعها. ثمّ همست في أذنيه و هي ترفع إليه كأس الشّاي:
-كان مقالك رائعا و مميّزا دون سواه… و الحقيقة هذه المرّة نبشتَ عدّة جراح. أما آن لهمسنا أن يتحوّل أنغاما تُطربُ من حولنا؟؟
بقي صامتا… فواصلت بعزم شديد:
-علمت بمرض أختك و بزيارتك لها… و أيضا بأنّك قد بكيت عندما آلمك منظرها و هي تلج الفراش تئنّ… نعم، ليس عيبا أن نُظهر مشاعرنا تجاه المحيطين بنا…
لكنّي لم أعهدكَ ليّنا لهذا الحدّ؟؟
بدت عيناه تبحثان عنها… طوّقته بذراعيها بكلّ حنوّ. ثمّ وشوشت:
-ما رأيك لو نسير تحت حبّات المطر؟
خرج الصّديقان ملتحمين متّحدين، و قطرات المطر تُذهب عنهما كدمات الماضي، و فرحة الحاضر و حيرة المستقبل. لقد أحسّ يوسف ببعض الرّاحة، و أيقن أنّ أخته ستشفى…
و أنّ حلمه سوف يكبر و يعظم، فقط لأنّه امتلك روحا تسانده دوما… و تبعث الانتعاش في أوردته كلّما اقترب من رحلة الماضي… أحسّته ” ضحى” قد ناشد سكينة فكره…
فأمسكت بيده معلنة في أعماقها:
-لطالما صنعتك همسي الأوحد، لطالما رويتك صدق مشاعري و نبض فؤادي، إنّي أزّفك حفيف وجداني و ارتجالاته… الآن، أعلم جيّدا أنّنا نمضي جنبا إلى جنب و سنظلّ…
و كان القدر ينشد:
مطر… سارا تحت أريجه مرّة
مطر… قد نزل
قطرة منه ارتواء
قطرة منه احتواء
و قطرة منه ربّما… بعض الرّجاء
سارا
محمّلين بالشّوق الدّفين
و الرّيح تلفح الذّكريات
فهناك… رسوم و خطوط و اشتهاء..
المطر قد نزل
كانا تحته
شهوة الصّمت المكبّل… و القدر
كانا… أنغام طير في الأعالي
و المحن…
ثمّ و ببعض الأمان
صارا… صخرة نحتها القدر
صخرة هما..
فانتشرا في أرجاء المعابد… و المقابر
هي… ها هنا
أرواحهم و بعض السّلام..
هي… ها هنا
آثرهم و الدّماء…
و على قمّة الاشتهاء
كتبت لوحة:
” إنسان مرّ يوما من هنا”.