الكاتب عبدالرحيم بيضون
ما إن ولجت باب المقهى لتسأل عن صاحبها، قفز”السفناج” من مكانه، وكأنه
لسعته نحلة، متجها نحوها متعثرا قائلا:
- أش حب الخاطر أزين لمسرار؟
- أسأل عن صاحب المقهى الحاج “ما زار”.
- ممازحا: ومن قال لك أنه “ما زار”؟
- عفوا أظن أن اسمه العائلي.
- انه لقب، وأنت أجمل.
والشهادة لله فهي ذات جمال ملائكي، حضورها يخترق الحدود والأبعاد.
لها جاذبية مضاعفة. شعرها منسدل على كتفيها حتى خصرها “الافازي”.
نهودها متنافرة توقظ النفس من مرقدها. عيناها بهيجتين. ابتسامتها تغري بالتقبيل حد الثمالة. تشبه الممثلات اللواتي تعرضهن التلفزة التافهة.
- أعادت نفس السؤال. رد عليها الشفناج بعد سهو، بالسمع والطاعة، مشيرا لها في اتجاه الحاج ما زار، الجالس مع النادل” سيدهم” لتعاطي العشبة-الكيف-وشرب الشاي و(هريد الناب). قصدته بخطى واثقة من نفسها، فاستوى في جلسته وكأن شعاعها أعمى بصره وبصيرته. وبعد أن سمع ما همست به، وكانت تبدو راقية في طريقة حديثها، ولطف كلامها، لب حاجتها في حينها، وقبلها نادلة جديدة لمساعدة “سيدهم” في العمل واستقبال الزبائن. ومن يومها سيتكلف “سيدهم” بإعداد الحريرة و”البيصرة” والشاي. وهي ستتكلف بإعداد الطواجين وعصير الليمون ونظافة المطبخ المتسخ قبل خروجها.
والشهادة لله. فكل من نظر اليها، يرغب في رأيتها مرة وثانية وثالثة، لإن لها جاذبية خارقة، تنضح أنوثة صارخة، جذابة ومرحة. وإن كانت تخفي حزنا غائرا يطفو على ملامحها ان كانت لوحدها. وهي في عز شبابها ورونقها. وتعرف كيف تخفيه عن انظار من في المقهى: كالحاج ما زار وسيدهم والشفناج و”خانزأبنين”، باستثناء سرحان، الزبون المعتاد على ارتداد المقهى.
وبعد ذلك أخذوا يتقربون اليها، ويداعبونها، كل واحد بطريقته الخاصة، وهي تتملص منهم بطريقة ذكية. وكل واحد منهم يعدها بإيجاد عمل لها، أحسن من هذا. وهي المصدقة والمكذبة في آن.
التقت عينا سرحان بعينيها الواسعتين اللامعتين، لحظة جلوسها قبالته في
انتظار مكالمة من صديقتها. نظر اليها نظرة اشتهاء، ونظرت اليه نظرة
إغراء. فثمة مس كهربائي بينهما. وساقه فضوله الى إثارة انتباهها الموزع بين المكالمات المداعبة مع صديقتها ” كعب لغزال”. وما أن انتهت من اتصالاتها المتكررة اقترب منها هامسا – منتهزا انشغال الحاج ما زار-:
- كيف لهذا الجمال الصارخ أن يجلس وحيدا؟ هل تسمحين لي بالتحدث معك يا حلوة؟ وكانت إجابتها مقتضبة، وهي تنظر جهة الاخرين، وخاصة سيدهم. وبدلال ردت عليه:
- يظهر عليك أنك عشاق “أملال”، مثل أيها الرجال.
- أجابها بكل لباقة: لست مثل هؤلاء. ولا أدعي أني فارس أحلامك ولا أرغب في غزوك. أو أسرك داخل قصر من الأوهام. وباختصار، أنا من طينة الرجال المسالمين، سواء في الحرب أو في الحب. فمن أي طينة أنت يا حلوة؟
بخفة دم ردت عليه:
- من طينة الحلويات. أموت في الشوكولاطة، وخاصة الإيطالية.
- أنت من طينة الياقوت والمرجان.
واسترسلت: وان لم تكن فارسا ولا غازيا، فلا محالة ستكون خدعة، أي
صاحب نزوة أو لعنة. ورغم ذلك لا أدري كيف ارتحت إليك، فلربما نشترك في وحدتنا.
- رد عليها: في وحدتنا وفي حزننا النبيل. وأنا الآخر ارتحت اليك لأنك مرحة. ومستعد لمصاحبتك في الطريق بعد الإتمام من عملك. وابتسمت له عن رضى وقبول الدعوة. وقبل خروجها تلفنت لها صديقتها للخروج معها، وهي في انتظارها في “رأس الشارع”. واعتذرت له قبل انصرافها.
وبعد زوال الغد، على الساعة الرابعة، دخل سرحان قاصدا مكانه المعتاد.
وما إن التقت عيناه بعينيها، فرحت ملامحها وانشرح قلبه. وبادرها:
- مساء الشوكولاطة. ما عندي ما نقول. مكان نظيف ومعطر.
- مساء الخير ممزوج بالقهوة والحليب. ومعذرة عن عدم خروجنا البارحة. وتابعت
حملة النظافة.
- أول مرة أحس بنقاوة هذا المكان المتسخ، المثير للاشمئزاز والقرف.
- واليوم ستأكل من يدي كل ما تشتهي يا سرحان، لقد أعددت أكلة “ستأكل أصابعك منها”.
- وماذا أعددت يا حلوة؟ مع أن المسألة ليست في المأكولات، بل في ” البنٌة “، في يديك وفي ذوقك.
- شكرا على هذا الإطراء.
- إنك مرحة. وعرفت كيف ترسمين الابتسامة في وجوه الزوار، وخاصة
المداومون على هذا المقهى الشعبي.
- سأذهب لأعد لك الشاي، على “حقو وطريقو”.
- أعد الشوكولاطة بالحليب قبل الأكل.
- أريد أن أسألك: لماذا تجلس لوحدك؟ قابعا في ركن، تنظر إليهم بدون أن يروك.
- سؤال بديهي، كي لا أضيع وقتي في” هريد الناب”. أخصص وقتا للجريدة
المليئة بالسخافات، والجرائم والميوعة. ووقتا للقراءة ووقتا للكتابة. ووقتا
إليهم، وإليك. وإن كان المقهى ضيقا بعض الشيء، فهو على الأقل يلبي
متطلباتي الضرورية؛ كالشفنج والحريرة وعصير الليمون، ثم الإصغاء للموسيقى الشرقية مع أم كلثوم الخالدة. وبعض المقاطع من الملحون، وخاصة الحسين التولالي في روائعه ك ” فاطمة ” أو” سير يا ناكر لحسان”، وإن ينقصه ” الويفي”، لكن موبايلي الذكي يقرصنه من المقهى المجاور.
- اسمح لي ان تطفلت عليك وسألتك عن عملك؟
- ألم تعرفينه من خلال سيدهم أو المجموعة؟
- أريد أن أتأكد مما يقولون. وليطمئن قلبي.
- أستعد لمناقشة الماستر. وما زلت أعزب. أبيع الكتب والمواد المستعملة في الجوطية بسوق الاحد.
- ما شاء الله. وما دمت مثقفا، فبإمكانك كتابة قصة.
- قولي: كتابة رسالة غرامية أو إدارية أو رسالة تهنئة أو تعزية…
- لا، أعني كتابة قصة، أو بالتحديد قصتي.
- هكذا بكل بساطة يا توتو؟ إنها مهمة صعبة للغاية. وليس كل مثقف، أو
أستاذ بإمكانه أن يكتب قصة، لأنها تتطلب الموهبة والمراس والوقت
والجهد، بالإضافة إلى طقوس الكتابة. وأشياء أخرى لا داعي لذكرها هنا.
ولست مستعدا لكتابة قصة غرامية.
- ليست بالضرورة غرامية.
- في هذه الحالة ستورطينني يا حلوة لولوج مغامرة الكتابة، ورب صدفة خير من ألف ميعاد، كما يقال.
وفي غياب الحاج، ينتهز سرحان و(توتو) فرصة البوح عنها، وكانت
راغبة في الاصغاء إليها، لتفضفض عليه قلبها المليء جروح وقروح.
“عشت مدللة الأسرة. كنت الأنثى الوحيدة بين ثلاثة إخوة. أنعم الله علي
أن ألج المدرسة حتى التاسعة إعدادي، خلاف إخوتي، ولعنتي أن العين كانت تترصدني أينما سرت، وتتربص بي أينما حللت، وتقتفي آثاري أينما ذهبت. فخاف أبي علي ومنعني من إتمام دراستي، وأجهض حلمي. وبقيت حبيسة الدار. وبعد عام، أي في سن السادسة عشرة من عمري، زوجني أبي من رجل متزوج وميسور، كان يعرفه ولم يكن يحبني وأنا كذلك. نجبت منه الطفلة اسمها هجر. لتبدأ الصراعات العائلية بيننا وبين أمه وزوجته الاولى، التي ترغب في التحكم في حياتنا الحميمية. أوصلتنا الى مدارج المحكمة، ثم الطلاق. وعدت الى الدار، وبعد شهر أحسست أني أصغر في عيونهم. وأصبت بالملل القاتل، فملئت وقتي في تعلم الطبخ وكيفية إعداد الحلويات والأطعمة.
وأثناء إجراءات الطلاق، صادفت رجلا، في الخمسة والثلاثون من عمره ساعدني على الإجراءات الإدارية، وبعد الطلاق احتضنني لمدة شهر، ليعرض علي الزواج منه، وبعد مدة علمت أنه متزوج هو الآخر، ورغم ذلك أحببته واستمرت علاقتنا عامين؛ في العام الأول، عشت أجمل اللحظات في حياتي، عشنا قصة رومانسية. لكن حين علمت زوجته بميله لي أكثر، قامت القيامة، وحاربتني بكل ما أتيت من دهاء ومكر وسحر وشعوذة للتفريق بيننا. ونجحت في ذلك. وتطلقنا عن مضض. ثم عدت الى الدار، فعاد نفس الإحساس ينتابني، أجمله في كلمة واحدة هي: الحكرة من أعز الناس إلي. وفكرت في المكوث عند صديقة إلى حين إيجاد عمل. كما فكرت في الهجرة الى مدينة أخرى، بعد أن تركت هجر عند أمي بمضض لا يغتفر…”
في هذا الأثناء دخل الحاج ما زار، وستتوقف شعرية البوح. الى فرصة أخرى. إنها لعنة المتزوجين. هل هذا قضاء وقدر أم هناك أشياء لا نعلمها تلعب في مصائرنا؟
سمع سيدهم ما دار بينهما، فالتفت الى سرحان قائلا:
- حديثكما شيق ولا يمل. ليت الشباب يعود.” مشات الصحة وبقى لفانت”.
لكن إذا سمعه الحاج مازار، سيصطدم معك يا سرحان.
- أنا مستعد لمواجهته من أجل توتو. وأنت الى أي فريق ستنظم؟
- أنا معه ومعها ومعك ومعي. أنا مجرد خادمكم وكفى.
- هناك حل آخر، سننتهز فرصة غيابه وقيلولة الشفناج، وسأكلف توتو بإعداد طاجين سمك “الشرغو” بالزبيب والبصل. ووقتها سنتحدث على راحتنا، ماذا قلت؟
- ” حتى هذا نظر، على مولانا”. والتفت الى توتو طالبا منها القيام بإعداد الطاجين. وحركت رأسها بالإيجاب. لينفرد بها سرحان في المطبخ. وكان هناك “حديث ومغزل”، ومجمل ما دار بينهما يصب في توثيق علاقتهما، ما داما يشتركان في أشياء عديدة، وحددا الخطة التي سيتبعان. وتقاربا وكأنهما يتعارفان منذ زمان.
ومنذ ذلك الحين صار سيدهم يعطف عليها أكثر مما يعطف عليه الحاج. الذي يساعده لشراء العشبة، ومن أجل لاستمتاع بأقواله المأثورة مثل:
( جنٌها إخدٌمها) و(مول الكيف).
وحين يدخن “سيدهم” يكون في كامل تألقه، إذ يأخذ في تجميل بؤسه
بمعسول كلامه. وكل امرأة مرت أمامه، فله نصيب من نظرة زانية إليها. سواء كانت كبيرة أم صغيرة. أما بنات اليوم، فهو يتحرش بهن، لكنهن لا تبالين
به، فهو معروف عندهن بمجاملاته السافرة. ورغم ذلك فهو محبوب لدى الجميع.
وصار يساعد توتو في غسل الأواني والكؤوس المفرومة. وفي طهي الغداء للمجموعة. فهو يقتات من حوالة هزيلة كل دبر شهر من صديقة ألمانية تعرفت على العائلة الصغيرة، وبقي تحت رحمة أخته التي تأويه عن مضض، لاشتراكه هذه البلية مع زوجها العليل.
وحين يدخن سيدهم، يردد جملة (جنها إخدمها). وتأتيه الشجية، ويأخذ
في التغزل بها، مصدرا ضحكاته كصهيل الفرس، وجل تفكهه مجنس.
وبسرعة فائقة يحول بؤسه الى فرح ومرح عجيبين. و”توتو” تضحك، وتضحك لترتسم نقطة الزين بخديها. ومن حين لآخر يردد سرحان وسيدهم
بعض مقطوعات أم كلثوم لينهيا هذا “دووطو” بقصيدة ( سير يا ناكر لحسان).
وفي صحوه يعترف سيدهم بميله نحو “توتو”، الذي صار حبا جما كلا، ويفعل
المستحيل لإرضاها كي ترضى به كزوج ( ديال بصح)، ويمنيها بالعمل
معه بالمقهى الجديد الذي سيفتحه الحاج مازار عما قريب بحي السلام. مسكين
سيدهم يعيش على حلم مستحيل الذي سيتحول الى وهم مستطير. ومن بين موال سيدهم، اقتطف باقة من سنابل” العشبة، بعنوان (مول الكيف):
” عمر وكمي ومد لي حداك
أليمي، مول الكيف نشايوي بالرشاقة
واخ نفسو عليه كلافة
أليمي، مول الكيف سلطان احكم بلا شرعية
محروق حريق اجري وجاري وين اصيبو
الى إن إلقى صاحب نشوتو، اتفاجى ضيمو
أبعد تقلابو، ترجع ليه كانتو
أبين إديه سبيلات مكمحات كتاميات
نزاهة في تقساسها، وتليها بطويبة بلقياس
ولجلسة تحلى، مع عشير رقايقي، عارف بحق لعطفة
ولجلسة تحلى، مع كسان أتاي إرد لمجاج برزتو ناصعة
ولجلسة تحلى، مع “توتو النشوة تطلع شجية مساوية “.
أما بالنسبة لتوتو، فالشجية غير مساوية، كثرة العمل وبأجر زهيد
وفطور فقير من الفيتامنات والبروتينات لتكتفي بدقيق القمح كطفل رضيع.
وقبل رواحها كان “خانزأبنين” المحادي للمقهى يمنحها (كسكروط)، ليس في
سبيل الله، بل لشيء في نفسه، إذ كان جمالها يأسره حد الرغبة في اغتصابها، ويتركه مخطوف العقل، وعيناه زائغتين، ممنيا نفسه هو الاخر أن يذوق طعمها يوما، وتأخذ توتو ما قدمه لها كعشاء لقطة الجيران.
نهضت توتو من الطاولة القريبة من “الكنتوار”، قاصدة زبونا جديدا،
فالتفت الحاج الى سيدهم وسرحان قائلا لهما:
- سأنتزع منها رقم هاتفها بالحيلة، وسأعرف عنها كل شيء. وفي النهاية
سأضعها كمزهرية فوق الكونطوار بالمقهى الجديد يا سيدهم.
الذي بدأ يضحك ويسعل سعالا قبيحا. أما سرحان فأجابه بكل برودة:
- توتو مختلفة تماما عما تعتقد. ولا أخاف عليها أو أخاف منها، مثلك ومثلهم.
- تعرف ولا تعرف ما برأس توتو، وما برأسهم، مشيرا الى المجموعة. والى
كل من في المقهى.
- المهم أنها تعرف كيف تتعامل مع الزبائن، وتعرف كيف تعد المأكولات.
- وعلى ما يبدو، لها عقل كبير، وإن بدت صغيرة
- صغيرة وكبرت. ثم قال في نفسه: إنها لعنة المتزوجين. واقترب منه الحاج
- قائلا: عيبنا واحد يا سرحان. كل من رآها يرغب فيها، يشتهيها، يخاف منها، يخاف عليها، إنها حمامة مقصوصة الجناحين، محتاجة من كل شيء، فهي سهلة الانقياد الى شقتي المخملية بالعمارة في حي السلام. إنها (قوقة) حلوة…
- ارجع لله يا حاج. لو قالها الشفناج أو خانز أبنين أو سيدهم، لاعتذرت لهم،
لأنهم ضعاف النفوس. ولكن أنت المتزوج وحاج بيت الله. إنها لعنة المتزوجين.
- لابد لي أن أبرمج لها يوم السبت القادم. ولو عنادا مع الشفناج وخانز ابنين
الذي يسيل لعابه حين يتحدث معها. أما الشفناج لعروبي فمحروق حريق عليها. أريد أن أكسبها كحمامة في شقتي، بعيدا عنكم. وكما تقول أم كلثوم” بعيد عنك”.
- انها حمامة مهاجرة أي حرة. ولا تستطيع أن تكسبها بهذه السهولة. وإن هي مكسورة الجناحين، وستتقوى وستطير من هذا المقهى المتسخ يوما ما، وربما عما قريب.
- سأعزمها قبل أن تطير، وستمكث عندي كم أيام في شقتي النظيفة. وسأوفر لها كل ما ترغب
- محاولة فاشلة من أولها يا حاج ما زار.
- سأحاول، وإن أردت إفشالي، ولدي كل ما تشتهيه أي امرأة. ولدي المال، المال يا سرحان، وقودها. وسأرفع من سعرها. وسأدفع لها في حينها(كاش).
- هذا عيب يا حاج. فهي (ملح الطعام) في هذا المقهى. ولا ولن تحل الجلسة
بدونها، والا سيموت حوت “الشفناج” في المقلات ليلا. وسيغرق “خانز أبنين” في
عصير الأسماك العفنة. وأنا سأجن إن لم أتمم القصة التي ورطتني فيها.
- أي قصة؟
- مراوغا: قصة فيلم البارحة.
وأثناء تقديم “توتو” زلافة من البيصرة وبيضة مع الزيت العود والكامون لسرحان، التفت اليه الحاج وهو ينظر الى عجيزتها بعيون زانية
- كيف جاتك؟
- الله إعطيها الصحة
- توتو أم البيصرة؟
- هما معا. الله احفظها من عين ذياب المقهى. انها عاملة مجدة وكلها خفة
ورشاقة.
- انها (تقيوتة)
- انها ياقوتة زرقاء لهاوي يقدر قيمتها
- تصلح ان تكون كمزهرية لتزيين المقهى الذي سأشغله في حي السلام
- الله اسخر، ومتى ستشغله؟
وبدون ان يجيبه التفت الى توتو وأذن لها بالجلوس معهم في نفس الطاولة ليداعبها ويعدها بالعمل بالمقهى الجديد بمعية سيدهم واخوه (زويزو). ثم اخرج الموبايل واتصل بالمكلف بكراء الشقق الجاهزة بالعمارة واوصاه ان احتاج الى عاملة نظافة من الدرجة الأولى للزوار الجدد، وبعد ذلك طلب منها رقم هاتفها كما طلب منها نسخة من البطاقة الوطنية. وبعد برهة من التردد اعطته إياها وهي تنظر اليه والى سرحان
باستغراب وتنظر الى سيدهم بريبة وتنظر الى الشفناج بحيطة ثم انصرفت
الى عملها بخطى وئيدة. ومن ورائها قال الحاج:
- سأجرب حظي معها، وخاصة إذا طردت الحارس الليلي الذي أخذ يتهاون
في سخرته مع الزبائن الجدد. وسأضع مكانه سيدهم ليخل لي المقام وتبقى
توتو قريبة مني في جميع الحالات.
وفي صبيحة يوم الإثنين، دخل الشفناج الى المقهى مزهوا كالطاووس
وانزوى بسيدهم ليحدثه عن قصارته ليلة السبت، وكالعادة سيشيع سيدهم الخبر الذي يحتمل الصدق او الكذب.
” كانت ليلة (هبيلة). “دايزها لكلام”، ومن اليوم اتخذت”توتو” عشيرة. واتركها لحالها فهي لي. واحرص على ان لا يتحدث معها سرحان ويحرضها علينا بأفكاره الجهنمية. وانا سأحرص على هذه الحمامة”. ليجيبه سيدهم:
- فهي لك، ولا تفرط فيها. وهي ليست من صنف (ضرب وهرب)، وليست
( فكتيم) كما قال “خانزأبنين”. الذي يلهث ورائها مثل كلب مسعور.
- ورغم أني عروبي،انتهزت الفرصة. و” تبورضت عليها” كي بغات لخاطر”.
والخبر الثاني يقول: ” يوم السبت الماضي استمر العمل الى آخر الليل وبعد ان تفرق الجميع استدرجها السفناج الى بيته المشترك مع الجيران، وطلب منها ان تعد له عشاء فاخرا بمناسبة مجيء صديق له من إيطاليا، وصدقته بكل عفوية واثناء اعدادها للعشاء، استغفلها واغلق عليها باب بيته، ولم يعد حتى الساعة الواحدة وهو ثملا، مما اضطرت ان تسهر معه مرغمة، واخذ يعنفها لقضاء مأربه، ولكنها قاومته واخذت تصرخ صراخ النجدة وتضرب الباب المقفول بقوة ايقظ الجيران، واخذوا يلومونه مرة ويستعطفون مرة وهو كوحش مسعور وبقيا في صراع مرير حتى الصباح”
والخبر يحتمل الصدق والكذب فتذكرسرحان قصة قميص يوسف عليه
السلام مع زليخة، فان صدقت في قولها فهو( فوتيف) وان كذبت فالسفناج
الجلف هو المنتصر وهو البطل. ثم التفت الى الشفناج قائلا:
- وكيف تعتبر اغتصابك لهاانتصارا؟ أنت حيوان او اضل لأنك خنت
ثقتها فيك وقمت بملعوبك وعنفتها وكانت بذرة عصية وزهرة برية ولم تنل
منها كما تدعي. وهناك شهود عيان.
- ولماذا تدافع عنها؟ إذن أنت ترغب فيها؟ وأنا لا أربي (الكبدة) على أي امرأة، كلهن متشابهات، كلهن مسقيات بمغرفة واحدة،
- بربك وأنت تغتصبها، هل ما زالت لديك شهية مضاجعتها؟ والمثل يقول:
- (المحلوبة حليب والمعصورة دم).
- فان لم اعنفها فلن تقول انني فحل
- وتتباهى بعنتريتك ولكنها لم ترضخ لوحشيتك دفاعا عن كرامتها
- وماذا تقول في طمع سيدهم واعجابك بها وهيام الحاج وحمق خانزابنين؟
- الم تعلم انها ارادت ان تقدم شكوى ضدك حول محاولة اغتصابها وهناك
شهود عيان؟ الم تقدر ما مدى ملعوبك، وحاولت إنا وسيدهم منعها ووعدناها
ان نكلمك في الأمر وان تتركها لحالها ووافقت عن مضض.
- انكما اعطيتموها أكثر مما تستحق، والمرأة “ديما ضلعة عوجاء” وقوتها
في اغوائنا فقط.
- عيناك زائغتين وتربيتك هشة…
- انا عشاق أملال أما باغي نحب، أما باغي نتمحن
- اذن اتركها لحالها وخذ ليك العشبة مع الشاي واترك الهم “لمواليه”، لي قادرين
- عليه، لي قادرين به.
- ومد له سيدهم “السبسي ولمطوي” ليملأ راسه الفارغ قبل بداية عجن الطحين، واستعدادا لقليه قبل صلاة العصر
- ومن سخرية المواقف أنك تظن أنك عارف، وأنت ما “فاهم والو، أدافع كبير”
- وأضاف سيدهم: وأنت يا شفناج: “بوكرن”.
- وأنت يا سرحان، اكتفي بهمك واترك هموم الناس، والله قادر بها وقادر عليها. وما هذه الإنسانية إلا ومن ورائها” إن”….
- الله اعطيك عقل، وسيصلك خبرها مع الحاج ما زار يا بوكرن.
“بعد خروجي على الساعة التاسعة ليلا اتصل بي الحاج ما زار عبر هاتفه الذكي وان كان هو بليدا وعزمني على مأدبة عشاء فاخرة بفندق خمسة نجوم بالمدينة الجديدة قبالة البحر وبعد ذلك سنتمم السهرة بشقته بحي السلام ما دامت فارغة هذه الليلة. وألح علي أن لا أخبرك وأخبرتك كما أخبرت سيدهم، كي يعلم أنني لست من ذلك النوع الذي… ورفضت الدعوة وتعللت له بإن إمي مريضة ومن واجبي ان ارعاها واقف بجانبها ومنيته للقاء به في فرصة أخرى وأقفلت الموبايل وتركت للعلبة الصوتية تجيبه مكاني طوال الليل.
وفي صباح الغد سألني الحاج مع من كنت البارحة وأجبته بهدوء وببرودة:
- مع من يريد قلبي وارتاح أليه.
وأراد أن يستدرجني الى المطبخ، والقيل والقال. وامتنعت من تصرفاته
الصبيانية وان بدى ذو هبة ووقار، فانه ذئب مسعورو جهول بأمور الحياة، و بمشاعر المرأة. إني متدمرة يا سرحان منه ومن غيره، ولم اعد اطيق العمل في هذا المقهى مع أميٌ وتحرشاته الصبيانية، وانت تصبرني وتشجعني على المقاومة الى ان يحين الوقت.
وبعد سماع سرحان لتدمرها قال لها:
– بصراحة لست متحمسا لعملك بالمقهى المنتظر أو المفتعل، وأتمنى ان لا يأتي ذلك اليوم.
- اتركنا من اوجاعهم وأين وصلت القصة؟
- ورطتني يا توتو والقصة لم تعد قصتك لوحدك، بل صارت قصتين؛
قصة قبل دخولك الى هذا المقهى الى خروجك منه. وكنت فيها الماضي والذكرى والذاكرة.
وقصة وانت مع المجموعة ومعي وكنت فيها الحاضر
والمستقبل، وكنت فيها الألم والأمل، ١والقاسم المشترك بينهما هو لعنة
المتزوجين مع قليل من ملح الطعام
- هل هذا قضاء وقدر؟ الا تستحق قصتي ان تضم في دفتي كتاب؟
- هذا مجال آخر، المهم ان تضم في كتاب والأهم أن يكون لها عمق وجودي
وقضية إنسانية ندافع عنها بطريقة جمالية ومثيرة للجدل والمناقشة، وهناك
أشياء أخرى كطريقة عرضها للأحداث والوقائع والوضعيات واختلاف الآراء وانسيابية اسلوبها وتخريجاتها الاستعارية، بالإضافة الى طقوس الكتابة، وما دمت تحبين الحياة وتؤمنين بإنسانية الإنسان وتعرفين دورك في هذه الحياة وتقاومين من اجل كرامتك رغم قساوة ظروفك. لهذا فانت جديرة بالكتابة عن لعنة المتزوجين، وخاصة في تجربتك الثالثة:
” كنت في حفلة زفاف صديقتي كعب لغزال وتعرفت على رجل محترم في الأربعين، عملي وبشوش ودمه خفيف، تواصلنا وتعارفنا عن قرب، كان يعمل في منصب محترم، له طفل وطفلة. وكانت زوجته-حسب ما قال، والخبر يحتمل الصدق والكذب-عديمة الذوق، ولم يجد فيها رقة الانوثة. ووجدني أعوضه ما يفتقده بكل إتقان، وكان يساعدني على تسديد فاتورة الضوء والماء، كما تكلف بالواجبات المدرسية لابنتي هجر، وكنت له خير جليس وانيس، وكنت بالنسبة له أجمل من زوجته الرجولية السلطوية الجلفة. وأفضل من النساء اللواتي صادفهن في حياته، وكنت في عز شبابي وجمالي الذي ورطني لعنة المتزوجين كما ترى، واستمرت علاقتنا أربع سنين بدون ان يعلم أي شخص بعلاقتنا، ولن أنساه ما دمت حية، لأنه ساعدني على توفير البطاقة الوطنية، كما ساعدني على الحصول على كناش الحالة المدنية وتسجيل هجر بروض الشمس”.
وفي نهاية الأسبوع اقترح سرحان على توتو وسيدهم قضاء يوم السبت بشاطئ أكادير للاستجمام ما دام الفصل صيفا. ومن المفاجآت السارة ان سرحان اخذ لهم صورا فردية وجماعية وهم فوق الرمل او في وسط البحر او فوق الصخور، ومن بين الصور التي اثارته واشتهاها مثل اشتهاءه في النظرة الأولى، تلك التي اخذها لها مرتدية “بيكيني” ازرق مفتوح وقدميها تداعبان أمواج البحر الهادئة. بابتسامة عريضة نابعة من اعماقها.
وفي غياب سيدهم او في ابتعادهما عن عيونه الوقحة، كان هناك
اشتهاء متبادل وهما جالسين فوق الصخور المحادية للمركب التجاري
الضخم (مارينا) وامواج البحر تنكسر تحت اقدامهما مسترجعة ماضيها
الجريح ومستبقة عمرها المنفلت وما بينهما لحظات مشتعلة وضحكات
ذكية وهما يسخران من هذه المفارقات العجيبة، انها لعنة المتزوجين
معطرة بملح الطعام الذي زادهما تقربا كما زادت حلاوة لسانها حضورا
قويا لخلق جو من الفرح ومن الحزن الغائر عبر السنين.
وسيدهم المسكين يوهم نفسه بأنه قادر على الزواج بها. و”خانزأبنين” ما زال يطاردها ككلب مسعور والشفناج ما زال يتصابى معها والحاج صار ذو وجهين كثعلب محمد زفزاف في روايته ” الثعلب الذي يظهر ويختفي” لهذا من الصعب أن تعيش وسط هذا النفاق الساري في مجتمعنا، وأنت تصبرني بقولك:
- عما قريب ستتخلصين من هذا المستنقع
- من فمك لله يا رب
- ورطتني يا توتو ولم أعد أدر هل ابوح بعلاقتنا في القصة الأولى أم فيهما معا.
وأرى أنه من الأفضل أن لا أحكي عن علاقتنا في الثانية، فالستر أحسن وهذا ليس خوفا منهم، بل تحديا لهم جميعا، لأنهم ضعاف القلوب والنفوس وصغار العقول. واظن ان
القصة مستمرة والمعطيات هزيلة ومتقاطعة كتقاطع الأزواج الثلاثة
- الى متى؟
- لا أدري متى وكيف؟ ما دامت لكل بداية نهاية، ولكل نهاية بداية لمرحلة
أخرى وهكذا انها استمرارية عبر حلقات من سلسلة تاريخ حياتك. وان القصة قصتين:
الأولى قد نسميها لعنة المتزوجين، والثانية قد نسميها “ملح الطعام”. الأولى مركزها أنت التي تبوحين عن بعض محطات حياتك، الى ان وصلت الى هذا المقهى المتسخ وكانت هناك لحظات ضعف وفشل، وكانت هناك لحظات عمل وامل وها انت الآن مناضلة متحدية اكراهات الواقع المريرة، انها لعنة المتزوجين.
والثانية تبدأ بدخولك الى المقهى الى اخر يوم خروجك راصدة علاقاتك مع الحاج وسيدهم والشفناج و”خانزأبنين”، ثم علاقتك بي وصراعاتنا مع “بوكرن”. والقصة الثانية هي الأخرى لعنة مع قليل من ملح الطعام
أما التداخل الموجود بين القصتين، هو أنك في الأولى ذكرى انسان، وفي الثانية حقيقة من لحم ودم وروح وعقل وذوق وحزن. تعانين من وطأة احساسين مختلفين: إحساس بالفقد، واحساس بالأمل في غدأفضل وأجمل.
وفي صبيحة الإثنين، أخبر سيدهم المجموعة بخروج توتو مع سرحان الى المدينة الجديدة وعزومه لها بمقهى الجوهرة الزرقاء بشاطئ اكادير. وما ان دخل سرحان الى مقهى الحي أستفهمه الحاج ما زار بمكر مداعبا لحيته:
- كيف كانت “قصارة” البارحة؟
- كانت رائعة و”عشاقة” لا تمل
- أخيرا اكتشفت إنك “رأس الحربة”، وأنك كنت تحرضها علينا وجعلتها ترفض
الجلوس معنا وغير راضية بنا. وقالها الشفناج قبل ولم أهتم بذلك، والآن
وضحت الصورة جلية للعيان، فهي إذن (خوينزة)، ما دامت تذهب مع كل من
دب وهب.
- إنها لا تذهب مع كل من دب وهب، ولا تذهب مع أي كان، وهذا سر قوتها،
وليس لديها الوقت لتتصابى معكم. فكلكم تتآمرون لإيقاعها في شراككم
الواهية كخيوط العنكبوت. وهي كالزئبق الحراري تنفلت من بين مخالبكم
الدامية.
ثم نظر الحاج الى سرحان بوقاحته المعهودة متسائلا:
- كيف لعبت بك وتركتك بدون عقل وانت مثقف يا حسرة؟
ونظر سرحان الى الحاج مليا وكأنه يقرأ أفكاره قبل أن يجيبه، وإن عرف ما يرمي الية ثم استرسل:
- أولا انها لم تلعب بي، ولم العب بها. ثانيا تعاملت معها كإنسانة ولم أكذب عليها ولم تكن لدي سوء نية في إيقاعها من أجل رغبة حيوانية زائلة
- انها جنية لعبت بك كما لعبت بنا
- هي لم تلعب بكم أو عليكم، أو معك، بل كانت تقاومكم وتتحدى رغباتكم، وسر صداقتنا في
تفهم بعضنا البعض، وفي تضامننا ضد هذا الاستغلال الذي تعانيه منكم.
- وأنت جعلتني قنطرة لبلوغ قلبها يا عفريت، أخيرا ظهرت على حقيقتك، ولكن
لا يهم اعرف كيف أصل اليها وستأتي إلى حبوا، ألست الحاج ما زار، ومن لا يعرفني، فليسأل عني بمقهى “عشاقة” بالقرب من سوق الأحد المقابل
لمحطة البنزين، ولماذا كل هذا الاهتمام ب توتو؟
- اسئل روحك
- لم أعرف أنك ساذج الى هذا الحد يا مثقف.
- وهي تعترف أمامكم أنها فتحت عينيها على نفاقكم، واعتبرتها طائرا حرا، وحين يحين الوقت ستطير بدل هذا (التكرفيص) الذي تعيش فيه.
- انا لا أربي (الكبدة) على توتو وعلى غيرها، لهذا يجب علي أن أكون حربيا معهن وإلا صرت خاتما في أصابعهن أو حمار الطاحونة
- ياه على تفكير، مثل الشفناج وخانز أبنين وسيدهم، تحسبون أنفسهم أبطالا وأنتم أنصاف رجال
- فق من (الكلبة)، و”كل أخلي الناس تأكل” ولا تجعل نفسك بطلا
- البطلة -في القصة-هي ثورية
- انا صاحب المقهى، انا البطل، أبلغ ما أريده بالمال، مشيرا الى توتو المتدمرة
- أنت غالط والحياة لا تتحدد بالمال لوحده، صحيح المال هو وقودها ومقودها
ورقتها وهمومها وابتلائها، لكنه ليس هو كل شيء، والحياة تتحدد في كيفية عيشك لها، وثورية تعرف مع من تتعامل وهذه شهادة الجميع
- كلام فارغ نجده في الكتب المدرسية او في أفلام الأطفال الصغار، توتو جنية في صفة ضحية، “ومنها عداد”.
- وعيناك فيها جلالة، وقلبك ما فيه رحمة، وهذا يعود الى نقص في التربية، وهذه الهشاشة الفكرية تلحفتكم كلكم يا حسرة
- كل واحد “إشوف مصلحته”، وأنت (فشي شكل)؟
- أنا (فشي شكل أفشي نحو)، وها انت بدأت تفهم أننا مختلفان ومتعايشان، لكن المسالة وما فيها، انكم تحبون البطولة والفروسية وتدعون العنترية، وأنتم أجساد نخرة.
- لن أسامحك يا سرحان، فأنت السبب في استعداد الحمامة للهروب
- من المفروض أن تطير من هذا المكان المتسخ، والحمام من طبعه الطيران، ومن طبعة نظافة المكان والبدن والقلب والروح، وليس نظافة الواجهة فقط. يقول المثل: “اتبع لكذاب حتى لباب الدار”. وحين ذهبت ثورية معك وسيدهم الى العمارة قصد تنظيفها اصطدمت بملعوبكما، فأنت تريدها
أن تلعب كوسيطة بين الزبناء الأنيقين وكبنات الليل من الدرجة الاولى. والمكلف بالشقة يريدها كحارسة ليل وكمنظفة وكعشيقة، مما جعل سيدهم يقترح عليك ان يقوم بمهمة الحراسة الليلية، ودخلتم في جدال عقيم وهرج ومرج انتهى بالسب والقدف وأخذ المكلف وهو في حالة سكر وغضب قصوى يعري عن أوراقك وسجلاتك السابقة مع أخت سيدهم. اذ اتضح من اقواله أنك تشترك مع أمورا جد خاصة، وفي حضور زوجها العليل.
وما اثار سرحان ان المكلف كان صريحا عكس الحاج وسيدهم اللذان عرفا كيف يداهنان الموقف ليجلسا معا في جلسة حميمية مع العشبة والعطفة والتغني بالسلام.
يا سلام على أهل السلام.
يا سلام سلّم
يا اهل السلام
لسنا في سلام
كل شيء تبخر مع دخان الكيف ولم تعد هناك نشوة على الرشاقة، وصار كل واحد منهم على نقشة واحدة بدون “كانة”، بدون نزاهة. ولم تعد الجلسة تحلو مع عشير رقايقي.
فجمع سرحان الوقفة وخرج لأخذ نفس وللتحدث مع ثورية عن إجراءات الخروج
من المقهى. وقالت له:
- انها لعنة المتزوجين
- لماذا المتزوجون؟
لأنهم مسالمون ورومانسيون ومتدمرون وحريصون على حياتهم الخاصة.
- انت مناضلة يا ثورية، والنضال هنا ليس بالضرورة مرتبطا بالحرب والقتال في ساحة المعركة، بل هو نضال من أجل الكرامة في حروب في جميع الجهات المعيشة، ويبدأ النضال من نظافة المكان والقلب والنفس، والعمل عبادة وهو من يعطي قيمة لهذه الحياة.
- سأهجر هذا المقهى بعد ان كنت معصورة عصير في عيون الشفناج وخانز ابنين ومتضايقة من أوهام سيدهم، ومتخومة من وعود الحاج (لونور).
سأخرج منه بدون رجعة، لأنهم كلهم (طنازة). سأتركهم يعضون ألسنتهم
ويعصرون همومهم ويقلون سمومهم في زيوتهم ويشوون قلوبهم فوق جمارهم.
أخيرا سأذهب الى محل الحلويات الذي أرشدتني اليه. وسأبدأ عملي به غدا، بعيدا عن أوساخ وأوجاع المقهى المتسخ صاحبه. أخيرا سأعد “مسمنات” بالزيت العود وب”أملوا” بالعسل، تأكل عليهم أصابع يديك يا سرحان.
- والحمد لله أنك اجتزت الامتحان بتفوق، ونجوت من مكائدهم كالشعرة من عجين الشفناج، وكهذه القصة التي انسلت من تلابيب شخصياتها المتلاشية كالدخان.
- انها لعنة المتزوجين
- وإنها كذلك ملح الطعام، الذي شركناه وخاصة في تلك الحوارات الطويلة التي كنا ندافع فيها عن كرامة الإنسان، كيفما كان وفي أي مكان في العالم. وسيبقى ملح الطعام هو الذوق هو(البنة) التي تضيفها أصابعك الرقيقة في كل ما تعدينه. انت مذاق الطعام يا ثورية، نورت مساءات البوح بدفئك الناعم، وستبقين إحساسا مشعا وفريدا بين هذه الصفحات. وستبقين ذاكرة إنسانية. ياقوتة زرقاء بحرية صادفها هاوي وأودعها في قلبه قبل ان يكتبها بين دفتي كتاب.
عبد الرحيم بيضون