إبراهيم الأعاجيبي / النجف
رجعنا من سفرةٍ قضيناها على مشارف أطراف المدينة, كُنا مجموعةً من الشُبانِ الذين يأنسون في الصخبِ ويمرحون في العبثِ وكثيراً ما تنتهي جلساتنا بعراكٍ بين اثنين أو أكثر حسب شدة المزاح وتجاوز اللياقة الأدبية في الحوارِ, كان الوقتُ عصراً حينما قررنا العودة إلى بيوتنا, ألححتُ عليهم أن تكون عودتنا بهذا الوقت لكي نتجنب الليل وما يخفيه, رجعنا على الطريق الزراعي, وبينما نحن في الطريق إذ هبط علينا الظلام وألقى الليلُ بثوبهِ علينا, لا يستطيع أن يرى أحدنا الأخر, فتح كلٌّ منا ضوء هاتفه, ومضت السيارة بسرعةٍ لتجتاز هذا الطريق الذي بدأ يثير قلقي وخوفي, أنا أخشى الظلام حتى وإن كنت مع ألفِ شخصٍ, المخاوف بدأت تتسلل إلى قلبي, لم أصارحهم بما أشعر إلا إني اكتفيتُ بالصمت والصمت الذي جعلني فريسة للوساوس أن تنال مني, طلبتُ من السائق أن يزيد سرعة السيارة أكثر, ولكن الطريق الترابي كان وعراً ومليئاً بالحفر مما جعلنا نتأرجح لأكثر من مرة , وكثيراً ما اهتزت أجسادنا, بدأ السكون يلفُ المكان ويطغى عليه, لم نعد نتكلم, لجأنا إلى الهمس, صرنا نخشى صوت الشهيق والزفير الذي يخرج من أحدنا, أصواتٌ نسمعها ولا نعرف كنهها, حركاتٌ تصدر ونكاد نلمحها إلا إننا لا نراها, كنا خمسة أفراد, اثنان في المقدمة, وثلاثة في الخلف, من سوء حظي أني كنتُ وحيداً في الكرسي الأمامي, التفتُ إلى الخلف فوجدتُ أن الثلاثة بدو متلاصقين كأنهم شخصٌ واحد, قررت أن أقفز إلى الخلف لأكون معهم حتى أحتمي بالتصاق جسدي بجسدهم, إلا إن السائق رفض وقال لا تتركني وحيداً وإلا سأضطر أن أوقف السيارة وأجلس معكم, وبينما السيارة مسرعة بسرعة جنونية, إذ نبصر في الطريق جذع نخلةٍ وضع على قارعة الطريق, فأراد أن يغير اتجاه المركبة فلم يسيطر على التحكم, حاول أن يغير اتجاه السيارة, إلا أنه لم يسيطر على القيادة حتى اصطدمنا بجدارٍ لغرفةٍ محاطة بالأشجار, أبصرت السائق فإذا بي أراه بلا حركة ولا سكنة, نظرت إلى أصدقائي في الخلف فوجدتهم قد فقدوا الوعي والدماء تسيل من رؤوسهم, الزجاج تهشم في وجهم, حاولت أن أحرك أحد منهم فلم أستطع, بقيتُ لوحدي لا أجرؤ على الخروج ولا أتمكن من البقاء وحيداً, كأنهم قد ماتوا, فلم أعد أشعر بشيء سوى إني أريد أن أهرب من هذا المكان الموحش, خرجت مسرعاً, أكاد أطوي الأرض طوياً, لا أعرف أين أذهب وإلى أي طريق يكون خروجي من هذا المكان, أخذت أدور حول نفسي في نفس المكان, أعياني الركض, سقطتُ بقرب نخلةٍ أحاول أن أدخل كمية من الأوكسجين إلى صدري, أخذت الهث وأنا أنظر ذات اليمين وذات اليسار ونظرة للأعلى وأخرى للأرض, السكون, الظلام, القلق, الموت, الأشباح, أصوات غير مميزة, ذعر, فجأة, دون أن أشعر وإذ بأحدهم يضع يده على متني, تحولتُ إلى صخرةٍ صماء, كانوا أربعة, يرتدون ملابس سوداء, لم أتبين ملامحهم جميعاً, إلا إني رأيت قائدهم, كان أسمر اللون ذو نظرات قاسية, شاربه طويل بلا لحية, أخبرني ماذا تفعل هنا بنبرةٍ عالية كدتُ أموت من شدةِ رعبها, أنا عبارة عن حجارة صغيرة بأيديهم, لا أتكلم ولا أكاد أبلع ريقي, أوعز لهم إن اقتلوه هناك, وأشار إليهم إلى ناحيةٍ , بينما يقود بي أحدهم افلتُ يدي منه وصرخت بأعلى صوتي وهربت, اخذوا ينادون ويركضون ورائي, لم ألمح من وجههم إلا أشباح أجسادهم, هم يركضون إثري وأنا أركض, لم أبتعد عنهم كثيراً, بينما أنا أركض فإذا بي أرجع إلى مكان السيارة, حالما رأيت منظر أصدقائي صحت صيحة رعب ووجل, عاودت الركض, أخذت أبتعد عنهم, ابتعدت حتى لم أعد أرى أشباحهم, وصلت إلى الشارع العام, كأن أجسادهم اختفت فجأة, بقيتُ جالساً في مكاني, لأني لم أعد أستطيع أن أركض أكثر, كتمت أنفاسي لئلاّ يعرفوا مكاني بل صرتُ أخشى من سماع أنفاسي حتى, بدأ الليل يزداد رعباً, أدخلتُ نفسي بمكانٍ هو مرمى للقاذورات وغطيت جسدي ببعض الأزبال حتى أختلط بها, وحشرتُ نفسي حشراً, من فرطِ خوفي وقلقي وجهدي لم أشعر بشيء بعدها, ساعة وأخرى ألفيت نفسي نائماً فكيف حصل النوم لا أعرف تفصيل هذا؟ فجأة, سمعتُ صوت صخب وحركة السيارات التي تغدو وتروح في هذا الطريق, نور الصباح الأول استطاع أن يبدد قليلاً من قلقي, أخذت أرى ما أمامي وما خلفي, وما زال القلق مسيطراً عليّ, أتسلل بخفة إلى الشارع الرئيس, رأيت شخصاً على دراجةٍ نارية, أشرت له بيدي أن يأخذني معه, وصعدت خلفه, بينما وصلنا إلى سيطرةٍ قريبة, وقفنا ننتظر السيارات التي أمامنا ليتم تفتيشها, فإذا بي أكاد ألمح أحدهم, أحدق به أكثر, نعم هو ذاته, بل بلحمه ودمهِ, لم أنسَ شكله, حفظته تماماً, إنه هو ذاته الشخص الذي أوعز لهم بقتلي البارحة, إنه اليوم بزيٍ عسكري ! فهو يعطي أوامر بكلا الأمرين سواءٌ بقتلي أو بمرور السيارات, ذُهلت وأصابتني رعدة قوية وصدمة كدتُ أجن من صدمتها, خشيت أن يعرفني فإذا بي أنزل من الدراجة لأهرب, أخذت أركض لكن سرعان ما انصدمت بجدارٍ قريب أسقطني أرضاً, فإذ بي أرى أهلي يُبللون وجهي بالماء لأفيق من هذا الكابوس الذي عبث بي طوال ليلتي التي نمتها بقربِ أربعة من أخوتي .