بقلم : محمد محضار
نظرت حولها في نشوة …الشاطئ يكاد يكون خاليا، نزعت صندلها، وضعته في حقيبتها، رفعت طرف ثوبها وتقدمت نحو البحر، أحست بلذة غريبة عندما لمس رذاذ الموج وجهها وغسلت المياه قدميها الصغيرتين. وتنشقت زناخة البحر اللذيذة، كانت الشمس توشك على أن ترحل، وقد بدت قرصا أرجوانيا يغوص في أحضان السماء، تاركا حمرة شفقية ساحرة..
مشت طويلا وفرحة جديدة تسكن نفسها الكئيبة، مضى زمن ولم تحصل على مثل هذه المتعة فتنفرد بنفسها وتتاح لها مثل هذه الخلوة الرائعة، تفاهات الحياة الكثيرة تسرق كل لحظاتها، وتقتل كل رغبة لديها في الإحساس بالوجود وتذوّق بعض لذاذات الطبيعة, لقد أنساها الإسمنت المسلح والجدران الشاحبة, وعراك الحافلات كل شيء، وجعلتها المشاكل تستسلم لليأس القاتل..
“أين أنا؟ ماذا وقع لي يا إلهي؟ هل حقّا أصبحت في الأربعين من عمري؟… عشرون عاما من الدعارة…من يصدق؟ عشرون عاما من الضياع والتسكع بين شقق العزاب، وحانات المدينة، الأيام تستهلكنا دون أن ننتبه إلى ذلك، ونظل غارقين في التفاهات والمتاهات.. يا إلهي جسمي بدأ يفقد بريقه والمساحيق لم تعد قادرة على إخفاء تجاعيد وجهي والعشاق يطلبون الصبا والجمال، وأنا لم يعد لي شيء من ذلك، صديقي عواد الذي اعتدت زيارته منذ عشر سنوات بشقته نبهني إلى هذا، قال لي: (الزمن يقتل، انظري قبل مدة فقط ,كنا شابين والآن ها نحن نطل على الكهولة) اِبني الآن صار شابا، كلما ذهبت لزيارته ألمح في عينيه بوادر رفض كامل لأمومتي..
خلال زيارتي الأخيرة له قال لي أن والده أمره بأن يتجنبني، ولأنه يحب والده ولا يريد أن يعصاه فهو يرفض لقائي مرة أخرى، قلت له: أن لي عليه حق، وأنني أمه، فرد علي بصوت جاف: (ولكن سُمعتك سيئة وأنا لا أريد أن أراك بعد اليوم).هكذا إذن الزمن يتنكر لي، وابني يرفضني ،وجسمي يخونني!!
اِستلقت فجأة على الرمل، بعضُ العشاق الشباب، كانوا يتباوسون ويتضاحكون ، وعيونهم تنطق بالنشوة، تطلعت إليهم بيأس، اِثنان كانا قريبين منها، سنّهما لا يتعدى العشرين، الفتاة مُمدَّدة على الرّمل، والشابُّ يدْفن رأسه في صَدرِها ، كانت تبتسم ، وتَشدُّه من وَسطه بكلتا يديها ، وتدفع جدعها نحوهُ، وهي سعيدة ، والظلام يستر حبّهما !!
يا إلهي كم أنا تعيسة وشقيّة.. كم رأساً دُفن بين نهدي وكم وسَطا حلّ بين فخدِيَّ، كلهم يلهثون، ويهمسون بكلامهم الكاذب ثم يسترخون، وأنا أنوء تحت ثقل أجسامهم، أتحطم أذبل… أتلقى قُمامتهم القذرة، لا أحد يحترم إنسانيتي كلهم ساديون، حقيرون، يخدشون جسمي ويمزقون لحمي… بعضهم يَجلدُني أو يُطفئ أعقاب السجائر في ظهري.
الليل أرسى قلاعه واحتضن الشاطئ،امتزجت النغمات الموسيقية المنبعثة من المراقص المجاورة بهدير الأمواج المتلاطمة فأحدثت ما يشبه الخِدْرَ في نفسها . .
العشاق ما زالوا حولها غارقين في نشوتهم، وهي تسترق إليهم النظر بخجل تارة، وتنظر إلى البحر تارة أخرى، وأحيانا ترفع رأسها إلى أعلى لتحتضن بعينيها القمر الذي كان في ليلة اكتماله..
تحس بالحزن والفرح يندمجان في حميمية ويسكنان ذاتها..
“يا رب السماء ما أروع الليل والقمر، ما أجمل البحر، وما أعذب هذا النسيم الرقيق… إنها هِبات قدسيّة منك، تطفح بالجمال نَحمدُك عليها، لكن يا رب .
هذا القبح الذي نصطدم به يوميا، والنّتانَة والعَفن اللذان يُحيطان بنا في كل مكان، من يَهبهما لنا بغير حساب؟؟.. لَست أنت على كل حال، فأنت جميل وتحبّ الجمال، ولكنني أنا خَليقتك لم أعد جميلة فهل يا ترى ما زلت تحبني؟؟ يقولون أنك لعنت الزّانية والزاني..أنا إذن ملعونة، محرومة من عطفك، ولكنني رغم ذلك لن أيأس من رحمتك فأنا ما زَنيت إلا لآكل.. لو لم أفعل ذلك لمتُّ جوعا، زوجي طلقني دون سبب… تركت له طفلي الوحيد منه، لأجنّبه حياة الرذيلة التي أحيَا، وها هو إبني اليوم يرفضني، من حقه ذلك فلا أحد يرضى أن تكون أمه مومساً.
قامت من مكانها، الرمل ناعم وتشوبه رطوبة عذبة.. أحسّت بذلك وهي تتجه نحو المرقص الذي كانت تتلألأ أنواره وتصدح جنباته بالموسيقى ،وعندما أصبحت على مشارفه مسحت حبّات الرمل العالقة بقدميها ثم ارتدت صندلها، ودخلت ضمن الداخلين، صدمتها رائحة الخمر والدخان وكأنها لم تعتدها، جلست إلى إحدى المناضد، طلبت على غير عادتها مشروبا عاديا، وضعت ساقا على ساق وحملقت حولها.. ثم انتهتْ بناظرها إلى حبله الرقص حيث كانت الأجساد تمارس جُنونها، الأرداف، والنهود ترتج، والثغور تَسرق القبلات، والأيادي تعبث
لا معنى لكل هذا أمام قسوة الحياة.. إنه مجرد لعبة زمنية مؤقتة من أجل النسيان.. نسيان الغد المبهم والمعاناة الآتية.. اُرقصُوا أيها المجانين، فكم رقصت قبلكم، كم عرّيتُ سيقاني، وأبرزت نهديّ ، وها هو الزّمن المقيت لم يذر مني إلا جِسما ذابلا وروحا حائرة، وعواطف مشتتة ، اُرقصوا فلكل دَوره، والدّور عليكم غدا .
وعلى غير وعي منها قامت من مكانها، دفعت ثمن المشروب ثم خرجت.. لفحت وجهها نسمات الهواء الرقيقة، وانتابتها رعشة لذيذة طردت ذلك السأم القاتل .
الّذي شعرتْ به داخل المرقص.. ليس مُهِمّا الآن أين ستذهب.؟ فقد اِرتاحت.. ومن يدري فقد تًجود عليها الظّروف بزبون طيّب يُنسِيها بعضَ مَتاعِبها