أ. عبد الرحيم بيضون
ما زلت أتذكر ليلة عيد ميلادي الخامس عشر، حلمت أحلاما مزدوجة، فرحة ومرعبة، إذ التقيت بجارتنا التي تصغرني بعامين، تدعوني لمصاحبتها الى الحديقة المجاورة لحينا بالقرب من منزل منعزل مهجور خلفه عشب كثيف وأشجار باسقة بواد دي زرع يابس في ليلة مقمرة يعمها صمت رهيب لا يسمع فيها الا أصوات الخفافيش البرية
وحين وصلنا جلسنا فوق صخرة نتحدث في همس عن اهتماماتنا الصغيرة وعن أحلامنا الكبيرة، وكغير عادتها خلعت معطفها لتبقى بلباسها الداخلي الشفاف وأخذت تقبلني قبلات محمومة، واخذت بدوري أبوسها ورغم حلكة الليل، سألتني ما سبب إصابتي فوق حاجبي الأيسر فاضطررت أن أكذب عليها قائلا:
- لا باس إنها مجرد ضربة خفيفة إثر عراك مع جارها بسببها.
وفي لقاءنا الحميمي جبنا أفاق أحلام الدنيا، أنستني موعدي مع امي، ولما استفقنا من سفرنا عبر الزمن ونحن نجوب العالم، عدت متأخرا الى الدار. فوجدت أمي تنتظرني منفوخة غيضا وحنقا قالت:
- ما هذا التأخير؟ ماذا اصابك؟ كدت أفقد صوابي؟ ماذا وقع لك أجبني؟
- قلت لها: كنت مع سميرة، أخت صديقي، الذي يدرس معي في نفس القسم.
- أين؟
- بمنزلهما.
- ومن ضربك؟
– لا تقلقي علي يا أمي لقد أصبحت رجلا، وانا عائد إلى الدار مررنا بالقرب من الحديقة المجاورة، وكان شاب-لص، قوي البنية اراد أن يتحرش بيها فواجهته ودافعت عن نفسي بكل قواي، فغفلني وضربني بلكمة على وجهي التي سرعان ما انتفخت واتخذت لونا أزرق فوق جبيني الأيمن وفي هذا الأثناء تدخلت سميرة لمساعدتي من هذا المريض قائلة له:
– أني ابن الحي-الجديد-فلا داعي لمضايقتنا مرة اخرى.
فذهب عند أخوك لإفشاء سر لقاءاتنا، لكنه لم يعر لكلامه أي اهتمام ما دام يعرفه انه يغار منها وله سوابق سيئة مع بنات الحي
وفي الحلمة الثانية، حين التقيت بسميرة بعيدا شيئا ما عن الحديقة وعن الحي، اخذت تداعبني وتقبلني كما نرى في الأفلام التركية، وكانت تصدر صوتا محموما أيقض بداخلي مشاعر دفينة لم أحسها في حياتي إلا معها، وستبقى منقوشة في الذاكرة، ولأول مرة أكتشف نهديها المتنافرة وحرارة قبلها، وحلاوة ريقها. وما راقها في أني لم اتعامل معها على انها مجرد من إنسانيتها و بالمناسبة قدمت لها لؤلؤة زرقاء -سرقتها من ذخيرة امي-، لتبقى كتذكار لعلاقتنا الاولى ووضعتها في عنقها، وفجأة رمتها بعنف، فاندهشت لتصرفها وقلت:
– لماذا رميتها يا سميرة وهي نفيسة؟
– فقالت –منفعلة-: لأن أمك قالت انها تبطن ارواحا شريرة،
– قلت ساخرا: انها مجرد خزعبلات لا اساس لها من الصحة وكيف علمت بذلك؟
فحركت كتفيها ورأسها بدون ان ترد ببنت شفة، وتطايرت منها وتغيرت نظراتها بعد ان كانت ودودة في تعاملها مبتسمة في ضحكاتها حيوية في حركاتها رشيقة في حديثها
أدخلت يدي في جيبي واخرجت خمسة دراهم وطلبت منها شراء كيس حليب للقطة نمرة قبل ولوجها الى منزلها، لرد هذه الأرواح الشريرة. والححت عليها أن تحتفظ بها كعربون محبة وكذكرى عيد ميلادي وميلاد صداقتنا البريئة
ونحن في عز سعادتنا أخذت تنظر بل تتأمل بل تحدق الى السماء الحالكة كأن شيئا غريبا يهبط على راسها على شكل طيور سوداء بأجنحة كبيرة وفمها يتطاير شرارة وعيونها البلورية تعمي الابصار تتساقط عليها فحولتها الى مخلوق غريب تنهش كل من اعترض طريقها، وأخذت تصدر صوتا مزعجا، حاولت ضمها الى صدري لتهدئتها لكن عبثا حاولت، وبدون وعي منها ارادت ان تنشب أظافرها في وجهي فابتعد عنها بدون أن اتخلى عنها وهي في حالة ذعر شديد حاولت الابتعاد عنها خوفا من ايذائي كما تصادمت مع الشاب الذي اعترض طريقها في الحلم الأول فضربته واردته صريعا فاضطررنا انا وأخوها ان نقتفي اثارها كي لا تفعل في نفسها أكثر مما حصل، لكنها اخذت تعض كل من صادفته او اعترض طريقها وهكذا صارت سميرة تلك الوديعة جارحة استدعت إخبار رجال الأمن ورجال الوقاية المدنية لنجدتها من نفسها ولإنقادنا من ارواحها الشريرة –حسب قولها- فواجهتهم وحاربتهم بكل قواها الخارقة فاستطاعت الهرب منهم وأنا واخوها نلهث وراءها ثم قصدت منزلنا لتجد أمي في انتظاري وحاولت أن تنشب اظافرها في جسمها وتعضها عضا مبرحا صارخة في وجهها:
— أنت السبب فيما جرى لي، وأنت من أعطيته الماسة الزرقاء لكي يمتلكني، لكي يسحرني، لكي يشنقني بها، فاندهشت أمي بما سمعت وبما رأت ولم تدري ما تفعل لتهدئتها وبقيت منبهرة أمامها لا تعرف ما تقدم وما تأخر
في تلك الأثناء حاولت مع أخيها منعها لكن كانت اقوى منا واخذت تنهش ثياب أمي الى ان مزقتها مزقا، وهي تصيح في وجهها: أنت السبب فيما جرى، كما فشل رجال الأمن والوقاية المدنية في ردعها اذ حطمت قضبان سيارة الإسعاف وهي تصرخ مجلجلة:
– اريد أن امتطي البراق لأجمع الحبات البلورية الزرقاء لأبعاد الأرواح الشريرة من علاقتنا، اريد أن أحلق في السماء العلاء، لم أعد أطيق الأرض وما فيها، وما عليها، فهيا يا مسك الليل-هكذا تلقبني-نحلق كطيور الجنة بدل هذا العالم المليء شرورا.
لينتهي سعرها بين يدي طبيب نفساني الذي غرز فيها حقنة مسكنة. والكل حسبها أنها مسحورة، إلا أنا أعلم أن حبنا زلزال غير من يقينياتها كما غير من رؤيتي لها. وبعد هذه النازلة الفرحة والحزينة في نفس الوقت، عدت وأخوها الى منزلنا لنجد أمي تندب حظها، وابي يداريها، ويقرأ سورا من القرآن الكريم لتهدئتها ويوقظني للذهاب الى الاعدادية
وحين استفقت من حلمي المزعج وجدت نفسي تعبا من جراء الجري ورائها وهو يطمئنني قائلا:
– أن هذا الكابوس ما هو الا هواجس أحلام من شدة الاكل الدسم الذي تناولته البارحة بمناسبة عيد ميلادك، انهض لقد تأخرت
قلت: وكيف تفسر لي سر الجوهرة الزرقاء التي كادت أن تخنقها؟ كيف نفسر مساندتها لي في صراعي مع الشاب الذي أراد أخذها مني بالعنف؟ وعدم عضها لي؟ واعتراض كل من صادفها؟ وتمزيق ملابس أمي؟ وقوتها الخارقة؟
– قال: الأحلام يا بني، من طبيعتها التداخل بين الأحداث، والالتباس بين مكوناتها، كما قد تكون لها أبعاد تفوق الواقع، كما لها ترسبات في الذاكرة وخاصة فترة الطفولة، وأنت الآن في مرحلة المراهقة، حيث يغلب عليها الجانب التخيلي أكثر من الجانب الواقعي. أما بالنسبة الى سميرة، فمن الطبيعي أن تعيش صراعا مع أمك لتنزعك منها، ولتعيش أنت بين شعورين متناقضين، بين حبك لأمك وبين ميلك لها، وهذا شيء طبيعي في هذه المرحلة. والسؤال المطروح:
- هل لديك الاستعداد لملاقاتها بعد كل هذا؟
- نعم، لأنها رغم كل ما حصل لم تأذيني، وأدخلتني الى عوالمها اللامحدود -التي قيل عنها انها محرمة-، والى قلبها الحنون الأجمل من التلفزة وما تقدمه من تفاهة
- أما أنا يا ولدي فأتمنى ألا تصاب مرة أخرى بحمى الحب المحموم كما اصبتما وكما أصيب كاتبها. وقد يصاب قارئها.