الأستاذ: محمد محضار/ المغرب
مقدمة
ماذا خلف السراب؟
هل يمكن أن تكون الحقيقة متسترة خلف مظاهر الحياة؟
هل يمكن أن تكون الحياة كحقيقة متسترة خلف الكتابة؟
هل يمكن أن تكون الحقيقة والحياة والكتابة مجرد سراب؟
يُمكن أن تكون حياة كل واحد منا، على اختلاف الدروب التي تعبرها، ليست سوى حلمٍ وقع في مكان وزمان مختلفين، حلم متكرر، يقوم على حبكة واحدة، المتغير الوحيد الممثلون وليست الأدوار. ذلك ما يجعلها سرابا لا حقيقة خلفها، وينبغي على المرء إقناع نفسه بأنها؛ الحياة، كذلك مجرد سراب، نلهث خلفه بدون جدوى.
من الصعب الاعتراف بهذه الحقيقة، أن ما يعيشه الإنسان كحقيقة مادية، وكفعل يومي، ليس في النهاية غير ظلال مرسومة على جدران الكهف، والكهف مظلمٌ، يأتيه بصيص نور من مكان قصي، وإنسان الكهف أعشى، لا يرى الضوء، لا يرغب في رؤية النور، يفضل متابعة الظلال والأشباح.
في “قصص” الكاتب محمد محضار يتجلى الوعي في الكتابة وبها، أي أن الكاتب يرى الحياة والحقيقة سرابا، ولا يمكنهما التحقق فعليا إلا في مداد الكتابة وعبره، ففي الكتابة يتمكن الكاتب من الانفلات من القيود الموضوعة أمام انطلاق الفرد نحو ذاته؛ قيود المجتمع العرفية التي تفصل بين الإنسان والإنسان بمعايير غير إنسانية، كأن تفصل بين “سامية” التي وُهبت الجمال والذكاء والمال، وبين “عبد الحق” الذي سلب منه العمل والمال، والقيود القانونية والسياسية التي تفصل بين الإنسان والإنسان اعتمادا على اختلاف في الموقف، فتجعل الظالم مستلذا مستمتعا بنعيم الحياة (السراب) وتقذف بالمظلوم في جحيم العتمات وبرد المشافي والمنافي… يقول:” فالغلبة دائما للقوي. الضعفاء يسقطون دونما انقطاع، والأقوياء يمشون على نواصيهم. الوجود يتحول إلى أكذوبة لا معنى لها، والقطيع يواصل مسيرته خلف السراب.”
ألا يمكن التفكير في “القوة/ الأقوياء” من زاوية جديدة، غير الزاوية المتعارف عليها، الزاوية التي تصورهم كائنات خارقة ولدت بهذه الصفة؟ ألا يمكن تغيير زاوية النظر والميل بعدسة آلة التصوير قليلا لنرى أن الأقوياء لم يأتوا إلى هذه الحياة أقوياء، بل جاؤوها كما يجيئها غيرهم، غيرهم ممن أصبحوا لاحقا قطيعا ورصيفا تطأه أقدام الذين صاروا لاحقا أقوياء؟ ألم يئن للإنسان المعاصر أن يفكر بعيدا عن الميثولوجيا، عن الذين يولودون “آلهة” في جبل الأولمب، والمختارون من “أنصاف الآلهة”، ثم طبقة الثيران التي تجر المحاريث، أولئك الذين يولدون “عبيدا”؟
ولكنْ، بالكتابة تتحقق العدالة، وفي الكتابة تستوي المعادلة.
يقول الكاتب على لسان شخصية من شخصياته القصصية:” أهرع إلى مكتبي.. أصب حبر قلمي على القرطاس، أكتشف أنني أتحول إلى ألفاظ ناطقة تشع بالكآبة، كم أمقت الكآبة، لكنها تفرض نفسها ضيفة ثقيلة على كل ما أكتب.”
في هذا المجتزأ كشف لحقيقة مؤلمة يعيشها أي كاتب صادقٍ مع نفسه وواقعه ومع الكتابة ووظائفها، إنها حقيقة كتابة ما ينبغي كتابته، كتابة الواقع المر دون حاجة إلى “تجميله”، فالمأساة مهما جملتها زادها ذلك عتمة، لكن جمالها يكمن في وصفها كما هي، لا يمكن للكاتب اليوم أن يُجَمِّلَ حياة- مأساة الطالب الجامعي، الذي سلب منه شبابه في التحصيل، وحرم من حقه في العمل وبناء حياة كريمة، وسلب منه حق المواطنة والمساواة بينه وبين أقرانه الذين فتحت أمامهم بوابات الحياة على مصراعيها. حتى المتع الجسدية التي فاز بها “عبد الحق” لم تقو على طمس الشعور بالنقصان والخسران في نفسه، بل هي متع ظرفية تعمق لديه الشعور بأنه منذور فقط للأشياء الطارئة. إن ما يحتاجه الإنسان في هذه الحياة، وهو ما ترومه قصص هذا الكتاب، أن يعامل على أنه إنسان، وليس مجرد شيء فائض عن حاجة المجتمع، وأنه عالة عليه وعلى غيره.
لذلك تأتي الكتابة مخلصة لمدادها، تشع كآبة، وبفعل الكتابة وبقوة الواقع تصبح الكتابة مشعة ومنيرة، أي أن الكآبة التي سقط ويسقط فيها المجتمع لم تعد مستورة، بل جلتها الكتابة ونزعت عنها حجاب السراب.
لقد رويت قصص محمد محضار بطريقة سلسة، خالية من كل تكلف أسلوبي أو حتى تصنُّعٍ سردي وادعاء تجريبي، لا تقول بأنها تنتمي إلى تيار محدد، وتؤكد على أنها الصيغة السردية المناسبة للوقائع والمقاصد المزمع توصيلها إلى قراء محددين، يبحثون عن غاية القص: المتعة والفائدة
محمد معتصم ناقد مغربي.
خلف السراب/ الفصل الأول
استيقظتُ هذا الصباح متأخّـرا. أزحتُ اللحاف عن جسدي بعد جهد جهيد، وقمتُ متجها نحو الحمّام. فتحتُ صنبور الماء، وأحنيتُ رأسي تحته. أصابتني برودة الماء برعشة لذيذة، فشهقت. غسلتُ بعد ذلك أطرافي ،وحلقتُ ذقني، ثم عدتُ إلى غرفتي. ارتديتُ ثيابي بتثاقل، ثم نزلتُ إلى الطابق السفلي من بيتنا. كانت أمي تقتعد أريكة في الردهة وقد مدّتْ قدميها إلى الأمام. طبعتُ على خدها قبلة. قالت، وهي تنظر إليّ بحنان:
-اجلس، سأقوم لأهيّئ لك طعام الفطور.
جلستُ على الأريكة المقابلة لتلك التي كانت تجلس عليها. وضعتُ ساقا على ساق؛ غمرتُ وجهي براحتي وأنا أنحني إلى الأمام. وغاب عقلي بين متاهات السنين، يجترّ المراحل… لمعتْ في ذهني ومضاتُ ذكريات آبقة.. تذكرتُ أيام الطفولة وسحرها، وسنوات الدراسة وإشراقها؛ لا شيء، أبدا، أجمل من الطفولة! هذا ما أحس به دائما وأصرح به للجميع.
جلّ لحظات طفولتي مرّت في هذا البيت. هنا، في هذه الردهة حيث أجلس الآن، لعبتُ كثيرا، أنا وأختي وأخي وسليمة، ابنة عمي، التي لم يكن بيتنا يخلو من إشراقة محياها الجميل. هنا، في هذا البيت، ذقتُ مرارة المعاناة والألم؛ فمنذ سنوات عمري الأولى كُتب عليّ أن أكون عليل الصحة، ضعيف الجسم. كان الطبيب كثيرا ما يزورنا ليعُودَني؛ وقد كلّف هذا والدي مبالغ طائلة.. كانت أمي المسكينة تسهر معي طوال الليل عندما يداهمني الألم وتشتد عليّ النوبات. كنتُ ألمح الدموع تنهمر من حدقتيها رغما عنها، وهي تغمرني بنظراتها الدافئة، وشفتاها تتحركان بالدعاء لي.
توقفتْ بي خواطري فجأة، وأنا أسمع طقطقة صينية القهوة توضع على المنضدة. صبّت أمي فنجان قهوة، وقدّمت لي قطعة خبز مطلية بالزبدة والمربى. ابتسمتْ، ثم قالت:
-هيا، كل يا صغيري..
هي تعاملني دائما هكذا، تدللني باستمرار وتخصّني بحبها أكثر من أخويّ.
تناولت طعام إفطاري بنهم شديد، قالت أمي:
-هل تعلم أن الحاجة زينب سألت عنك؟
-ومن تكون الحاجة زينب؟
-زوجة الحاج حكيم، المقاول.. لقد زارتنا مرة في البيت. إنني ألتقي بها مرارا في الحمّام؛ لها ابنتان، سامية وحليمة، وتريدك أن تراجع معهما وتعطيهما دروسَ تقوية.. على الأقل، تشغل وقتك وتحصل على بعض المال.. خذ، هذا هو العنوان.
أمسكتُ بالورقة التي قدّمت لي أمي، ألقيتُ نظرة على مضمونها، ثم قلتُ:
-كما تريدين يا سيدتي، سأذهب إليهم.
غادرتُ البيت. سرت على إفريز الشّارع بخطى متخاذلة. لا أدري ماذا يحدث داخلي هذه الأيام.. كل يوم أحس بانفصام كبير بيني وبين واقعي. لم أعد قادرا على مواصلة الرحلة تحت رحمة هذه الظروف القاسية. بالأمس، كانت الدراسة هي كل همّي. كانت حياتي ووجودي؛ لكن اليوم الأمور انعكست بعد أن حصلت على الشهادة وأصبحت مجازا معطلا، أتسكع بين الأزقة وأنفق وقتي بين البيت والمقاهي. ولعل ما يزيد الطين بلة أنني العاطل الوحيد في البيت وأنني اليد السفلى الوحيدة؛ فأخي الأصغر سليمان اشتغل بالباكلوريا في أحد البنوك، وأختي نادية حذت حذوه وأصبحت معلمة، هي الأخرى، بالباكلوريا. أما أنا، بكر الأسرة، فقد أمسكتُ بمشعل البطالة منذ اللحظة الأولى التي سعدتُ فيها بتسلم شهادة الإجازة من يد عميد الكلية. وأصبح كل همّي أن أجد عملا، أيَّ عمل يشغل وقتي ويكفيني شر مد اليد لأبي وأخوَيّ لتسلم مصروفي اليومي.
كنتُ قد بلغتُ شارع علال الفاسي، حين أمسكت عن التفكير. نظرتُ حولي.. كان أطفال يلعبون على الرصيف والمحلات التجارية فاتحة أبوابها، وبعض المارة يسيرون هنا وهناك. واصلتُ المسير على امتداد الشارع حتى شارفتُ على البناءات الجديدة، التي كان أكثرها عبارة عن فيلات أنيقة، يتجلى عبر واجهتها “الذوق الرفيع” لأصحابها ويُسْر الحال الذي ينعمون به. ألقيتُ نظرة على الورقة التي أعطتني أمي، ثم استدرتُ وسرتُ في زقاق فرعي، وشرعتُ أقرأ أرقام الفيلات الممتدة على جانبيه. وأخيرا، وجدتُ بغيتي. كانت فيلا فاخمة، ذات واجهة متميزة. مددتُ يدي النحيفة أضغط على جرس الباب؛ ومرّتْ هنيهة قبل أن أسمع خشخشة وألمح من بين انفراجات الباب الخشبي فتاة ضامرة العود، فتحت لي، واستنتجتُ من خلال الميداعة الزرقاء التي ترتدي أنها الخادمة؛ قالت:
-هل من خدمة أقدّمها لك، يا سيدي؟
ابتسمتُ وقلتُ:
-أريد أن أرى الحاجة زينب، قولي لها عبد الحق، ابن السي العربي، مفتش الشرطة ولالّة صفية، صديقتك.
-تفضّل بالدخول، يا سيدي.. سأخبر لالّة بمَقدمك.
سرتُ خلفها، مجتازا ممرا انتشرت على جانبيه أحواض طافحة بالزهور واصطفت شجيرات صغيرة بدأت أغصانها تمتد إلى أعلى، قبل أن نصعد بضع درجات، ثم نجتاز بابا أفضى بنا إلى دهليز، ينفتح على ردهة واسعة غطت بلاطها سجادة تركية ثمينة انتظمت فوقها أرائك جلدية فاخرة، تتوسطها منضدة من الأبنوس. على بُعد خطوات من الأرائك، إلى اليمين، انتصب صوان ضخم بزجاج كاشف نُضدت على رفوفه أوانٍ فضيةٌ لماعة وقِطع مختلفة الأحجام من الودع. على الحائط المقابل لباب الدهليز، علقت لوحة زيتية ضمّت أفراد الأسرة. قالت الخادمة:
-تفضّل، اجلس.. سأذهب لأخبر لالّة.
جلستُ مضطربا، وأنا زائغ النظرات، أحملق حولي.. فجأة، أطلّت من الباب الثاني للردهة امرأة ممتلئة الجسم، ناضجة الأنوثة، في حدود الأربعين من عمرها، تمشي بخطى منتظمة. قمتُ من مكاني، وأنا مطرق رأسي وتقدمتُ نحوها بخجل، مدّت إليّ يدها اللدنة، قائلة:
-أنت ابن لالة صفية.. مرحبا بك في بيتك، تفضّل، اجلس.
جلستُ وجلستْ قبالتي، واضعة ساقا على ساق. كانت ترتدي فستانا كشف عن ساعديها الأبيضين وجيدها العاجي. كان شعاع ساحر يطل من عينيها، بالرغم من أنها ناهزت الأربعين، ووجهها ينبض بالحياة، مثل شابة في العشرين.
قالت:
-أمس، عندما حدّثتني أمك عنك، قلت لن أجد أحسن من عبد الحق لإعطاء دروس التقوية لسامية وحليمة.
-أنا رهن إشارتك، يا سيدتي.
-بالمناسبة، في أيّ شعبة أخذت الإجازة.
-شعبة الأدب العربي، يا سيدتي.
-ولم تشتغل بعد؟..
-لا، يا سيدتي، لم أشتغل بعد.. ومؤخرا، توصلتُ بورقة الإعفاء من الخدمة المدنية، وأنا أفكّر هذه السنة في اجتياز مباريات الالتحاق بمراكز التكوين التابعة لوزارة التربية الوطنية علّني أنجح في إحداها.
-أتمنى لك ذلك من كل قلبي.
ألقتْ نظرة على ساعتها اليدوية، ثم صفّقت بيدها؛ فأقبلت الخادمة، ذات الميداعة الزرقاء، مهرولة. قالت الحاجة، مركزة نظراتها عليّ:
-ماذا تشرب، قهوة، شايا، أم عصيرا؟
-قهوة، إذا أمكن.
-لم يبق إلا قليل من الوقت وتحضر سامية وحليمة.
ثم تابعت:
-ابني عبد الحميد تخرّج هذه السنة من معهد التجارة.. ففضّل زوجي أن يسند إليه إدارة مقاولته على أن يتركه يشتغل.. على الأقل، يريحه قليلا ويحمل عنه بعض العبء.
-والله خيرا فعل، يا سيدتي.
بعد لحظات، جاءت الخادمة بالقهوة؛ صبّت لي فنجانا وصبّت لسيدتها واحدا. ثم جاءت سامية وحليمة؛ قدّمتهما لي أمهما. كانت الأولى في حدود الثامنة عشرة، سامقة القامة، ممشوقة القوام، رقيقة الخصر، يتهدل شعرها الأشقر في لِين على كتفيها الجميلتين وتحوم حول وجهها الساجي هالة من السحر. كانت ترتدي “صالوبّيت” زرقاء اللون، وتنتعل حذاء من اللون نفسه. أما الثانية، فكانت طفلة ممتلئة بالحيوية، تتمتع بجاذبية كبيرة.
قالت الأم، موجّهة حديثها إليّ:
-سامية ستجتاز هذه السنة امتحان الباكلوريا، أما حليمة فهي مقبلة على اجتياز امتحان الشهادة الابتدائية.. وهما تلميذتاك من الآن.
قالت سامية، وعلى شفتيها تشرق ابتسامة عذبة:
-أنت أستاذنا منذ اللحظة، فهل أنت مستعد؟
رددتُ، وأنا أبتلع ريقي:
-طبعا، مستعد.. وإلا لماذا أنا هنا؟
وخضت مع الفتاتين في حديث طويل. كانت كلتاهما شعلة من الذكاء، تناقشان بمنطق مدهش، خاصة سامية، التي مضت تتحدث بطلاقة قلّ نظيرها عن الفلسفة الوجودية وأقطابها، أمثال كامي وسارتر ودي بوفوار. أدركتُ، للتو، سعة اطلاعها ورحابة أفكارها. قلت بيني وبين نفسي “أبناء هذا الوسط هم الذين يتعلمون ويحققون طموحاتهم.. فلا مشاكل تشغلهم ولا هموم تشوش بالهم”.
في الواحدة، جاء “الحاجّ” وابنه، واجتمعنا حول مائدة الأكل، الذي كان شهيا ومتعدد الأشكال والألوان. قال لي الحاجّ:
-كلْ يا ابني ولا تخجل، تصرّفْ كأنك في بيتكم.
ردّدت:
-الله يكثر خيركم، يا سيدي.
بعد الغداء، شربنا الشاي في الصالون، ودردشنا بما فيه الكفاية. اتفقتُ مع سامية وحليمة على الحضور ثلاث مرات في الأسبوع، بعد السادسة مساء، ثم قمتُ لأغادر. شيّعتني سامية حتى باب الفيلا، وشدّت على يدي مودعة، أحسست بليونة كفها ودفئها.. انتابتني نشوة غريبة، وتحركت مشاعري ورحتُ أحملق في وجهها الأبيض الطري، ودغدغ شذى عطرها أنفاسي، وأصابني الذهول. لم أفق من شرودي إلا على صوتها العذب وهي تقول:
-إلى اللقاء.. ولا تنسَ أن تحضر لي معك الكتاب الذي وعدتني به.
-آه.. طبعا.. طبعا، سأحضره، إلى اللقاء.
ودارت على عقبيها عائدة إلى داخل البيت، وسرتُ أنا بخطى متعثرة. كانت شمس الربيع تنثر أشعتها الدافئة ورياح شمالية تهبّ منعشة. مضيتُ أجرّ قدمَيّ في تخاذل. انتابني شعورٌ غريبٌ بتفاهة الحياة وعبثها وغموضها. بدا لي أن أدنى بصيص نور يكشف أمامي طريق الخلاص ويهديني سواءَ السبيل عديمُ الوجود. انتابتني رغبةٌ عارمةٌ في الإبحار نحو عالم الحقيقة، هذا العالم الذي لا أكاد أحس بأنني بدأت أستشرفه حتى تضطرب أمامي الصورة ويضيع كل شيء ولا يبقى لي إلا العدم. وتواردتْ عليّ الأفكار والخواطر؛ أحسست بدماغي يكاد ينفجر. “أعترف بأنني لم أعد قادرا على مسايرة هذه الرتابة. صار الوجود بالنسبة إليّ شيئا غامضا تعذّبني ألغازه وطلاسيمه، والليل يطول عليّ ويتحول إلى أتون محرق تغلي عليه مراجل نفسي؛ والنهار يستحيل إلى ضياع ضارب في الغور، تتبدّد عند قدميه كل الأحلام وتذبل الورود. الزهور يضيع رحيقها، واللحن الجميل يشوبه النشاز، وأغنية الحب تعتورها الركاكة، ولا أدري من أين وإلى أين أسير.. حياتي خريف أزليّ يطفح بالكآبة.. أريد وأريد، لكنْ كيف؟!”..
هذا السؤال العسير يشجّ رأسي باستمرار، ويرمي بي إلى صقيع الأوهام. يلفعني ببرد قارس، يُحول أوقاتي إلى حلقات متصلة من الحيرة، ويزرع الوجل في نفسي، يحجب عني الرؤية، ويصبح كل شيء أمامي سرابا يتراقص عند الأفق.
توقفت دقيقة أمام “مقهى مرحبا”، أسترجع أنفاسي. ثم انحدرتُ عبر شارع مراكش وتوقفت، من جديد، قرب قصر البلدية. جلتُ بنظراتي في المكان، ولما أبصرتُ بائع السجائر بالتقسيط ناديتُ عليه وابتعتُ منه واحدة، أشعلتُها بارتباك. جلستُ على أحد مقاعد الحديقة المجاورة لقصر البلدية وأخذتُ أدخن بانتشاء، غارقا في تأمل دوائر الدخان المتصاعد في الفضاء. تهادى إلى سمعي، فجأة، زعيقٌ غريبٌ. التفتّ لا شعوريا نحو مصدره، فإذا بي أرى معتوها نصفَ عار يفتح حنفية الماء الخاصة بالحديقة وهو يمارس طقوسا مثيرة. كان يجلس وركبتاه إلى الأرض -وكأنه يصلي- ويداه تخلطان التراب بماء الحنفية المنساب حتى يصبح وحلا، ثم يلطخ به صدره المزغب ووجهه الأسمر الرقيق، وهو يصرخ.. رحتُ أحدق به. فكرتُ: لا يوجد في هذه الدنيا إلا ما يذهب بعقل الإنسان؛ تناقضاتها فوق التحمل.
قمتُ من مكاني، بعدما انتهيتُ من التدخين، وظل الأحمق يمارس طقوسه. تابعتُ السير والإرهاق يطبق عليّ. عندما وصلتُ إلى المنزل، كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة، دلفتُ إلى الداخل. كانت أمّي تجلس في الردهة منهمكة في حياكة “تريكو”. طبعتُ على خدها قبلة، ثم صعدتُ إلى غرفتي دون أن أمنحها الفرصة لتسألني عن زيارتي لدار الحاج حكيم. خلعتُ حذائي وجوربَيّ، ثم بعدهما باقي ملابسي. ارتديتُ “الفوقية” واستلقيتُ على السرير، وسرعان ما غبتُ في إغفاءة لذيذة.
عندما فتحتُ عيني، كانت الشمس قد تدرجتُ نحو الأفق، غارقة في حمرة باهتة وانعكست أشعتها الأرجوانية عبر زجاج النافذة لتسقط على جدار الغرفة. انسللتُ من مرقدي قائما. دخلتُ الحمام، اغتسلتُ، ثم عدتُ إلى غرفتي. ارتديتُ ثيابي، اقتربتُ من المرآة. لاح لي طيفي منعكسا على أديمها. ما زلتُ، على كل حال، أحتفظ بوسامتي، بالرغم من أن شعر رأسي قد بدأ يخف من الأمام. تركتُ المرآة، ثم نزلتُ إلى الطابق السفلي. كان كل أفراد الأسرة يجلسون في الردهة، مجتمعين حول صينية الشاي. ألقيتُ عليهم التحية وجلستُ. سألني أبي عن الزيارة. حدّثهم عنها باقتضاب، قالت أمي:
-لالة زينب امرأة ونصف.
قلتُ:
-طبعا، امرأة ونصف، ما دامت شكارة زوجها تلد ذهبا.
ضحك أبي، وقال أخي سليمان:
-للحاج حكيم رصيد ضخم عندنا في البنك ويملك عقارات عديدة في المدينة.
قلتُ بلهجة تطفح بالمرارة:
-المشكلة، على كل حال، مشكلةُ أمثالي الذين يعيشون عالة على الآخرين.. قاطعتني أمّي:
-غدا تتوظف وتصبح سيد الرجال!
ألقيتُ نظرة على ساعتي. كانت عقاربها تشير إلى السابعة وخمس دقائق. تركتُهم وخرجتُ. التجوال في المساء يعجبني كثيرا. وجدتني بين السابلة المتدفقتين في مختلف الاتجاهات، غارقا مرة أخرى في بحر شرودي. كانت جيوش الظلام قد طردت آخر خيوط الضوء، وسطع القمر بدرا كاملا، ينثر أشعته الطرية ملء الربوع. ابتعتُ سيجارة وأشعلتها، وشرعتُ أنفث دخانها وأنا أواصل سيري على غير هدى. “الهواجس العملاقة تركض في شراييني، تبطش بكريات الأمل في دمي. النظرات المجهرية تُعرّيني وتكشف حقيقة ما يدور في خلدي.
كم هي قاسية الظروف، كم هو مُغال في سطوته القدَر؛ يأبيان إلا أن يدخلا مثل اللحمة بين السداة، ويفرّقا بين الإنسان وروحه، ويعصفا بثمرات عمره، ويسلطا عليه شرر الزمان يحرق جماليته. أحسست بأنفاسي تختنق في صدري، وبالدموع تترقرق في عيني، وبقدمَيّ تتخاذلان.. واقع الهزيمة المرة يُقرأ، بوضوح، على سحنتي.
ولجتُ مقهى باريس. اخترتُ طاولة منعزلة في ركن قصيّ. طلبتُ كوب عصير، ومضيتُ أرتشف جرعاته في هدوء. وفي التاسعة ليلا، عدت إلى البيت.
نص جميل ، الأستاذ محمد معتصم ناقد متميز ، وهو هنا يقدم لقصة رائعة بحق