بقلم الشاعر والناقد أ عبد الله علي الشبلي/كلميم المغرب.
أنا لا يهمني ما تقولون عنه ، ولا يعنيني في شيء مطلقاً ، إن ما دفعني للارتباط بهذا الشخص هو أنني أحبه وكفى. ”
هكذا صاحت في وجه أخيها الأكبر ، لا زالت تذكر ذلك اليوم… بتفاصيله ، لقد تركت من أجله كل شيء ، ضحت بكل شيء ، زهدت في كل الأشياء الثمينة .
تركت الأم والأب أيضا ، من أجل أن تنضم إليه وتلتحم معه ، أو ليستحوذ عليها ، تنكرت للإخوة والأخوات كذلك ، لكي تقنع نفسها بأنها تحبه.
” لا تكثروا اللغط ، ولا تزايدوا علي في حبكم لي أكثر من نفسي ، إنها أسطوانة قديمة ، وأنا مللت سماعها حقاً ، وكرهتها أيضا ”
” أنا أفهمه جيدا ، وقراري بيدي ، أنا لست صغيرة حتى تحجروا علي ”
هذا أمر يخصني وحدي ، إنه قرار سيادي ونهائي ”
هنا انتهى الحديث يومها ، سار كل في طريقه ، الفرق أنها سلكت الطريق وحدها ، بينما سلكت عائلتها مجتمعة الطريق المخالف. على الرغم من ذلك كانت تعيش في نشوة لا تماثلها نشوة ، لأنها اتخذت قرارها لوحدها ،دون ضغوط من أحد ، ودون توجيه من أحد كما كانت تؤمن بسيادتها على جسدها ، وعلى روحها وقراراتها قبل ذلك.
“هكذا هي الحياة دوما تشعرك في بعض الأحيان أنك امتلكت كل شيء بخطوة بسيطة جداً ، بقرار فردي بدا لك سياديا لا دخل لأحد فيه ، لكنها سرعان ما تنقلب عليك ، لتثبت لك أنك كنت فاشلاً وغبيا ، بل كنت تافها ، والأخطر من ذلك ، وما يزيدك حنقا وغيضا ، أنك ترى بأم عينيك وأنت على قيد الحياة ، وقيد المعاناة أيضا ، أن الأقدار واقفة تنظر إليك نظرة احتقار وازدراء ، ترقبك من أعلى وأنت تغرق في رمال متحركة ، وتعبث بك نكاية وكيدا. ”
كانت كثيرا ما تقول هذا متنهدة ، وهي تخاطب نفسها ، في لحظات يأس ونكد طويلة تخالطها ، تخالط ولا تكاد تفارق. كلما جلست وحيدة مطمورة في البيت ، وهي تنتظر عودة المعتوه في ظلام دامس ، متكومة على نفسها بجانب السرير ، وهي تترقب دخوله المدمر ، لتنال حظها اليومي من الرفس والضرب والكلام النابي في سادية غريبة وغير مفهومة.
فما الذي استفادته هذه الفاتنة الشقراء المتعلمة ، عندما قررت الزواج بهذا المعتوه المستهتر! ؟
ذاك الذي كانت تراه وسيما أنيقا ، محبا للحياة.
” آه ، آه ، يا لحماقتي هكذا كنت أقول. وسيما أنيقا محبا للحياة! ”
” من وجهة نظري الخاصة ، إني أراه أنسب رجل لي ، إنه أمير أحلامي الذي سيحملني بعيدا ”
هكذا كانت تقول ، وهي تغمض عينيها ، وتسافر بعيداً ، عندما يعاتبها أخوها البكر.
بعد توالي الأيام والشهور ، استفاقت على الواقع المر ، صارت تعيش النكبات ، بعد أن كانت تسمعها أو تشاهدها ممثلة في المسلسلات ، نكبة تقودها إلى نكبة ، عاشتها وحدها كما قررت وحدها. فلا شاهد ولا رقيب إلا الله وحده.
لقد لقنتها الأقدار دروساً كثيرة ، أكثر بكثير من سنها ومن كتبها التي التهمتها ذات أيام بنهم ، كل كدمة من الكدمات المنتشرة في تفاصيل جسدها زادتها خبرة ، زادتها درسا وتعلما.
كانت الفتاة كلما استنجدت بأحد أفراد الأسرة باكية ، وهي تتألم في غصة حارقة ” أرجوكم انقدوني من هذه الورطة ، إني أموت كل يوم عشرات المرات ، أ ليس في قلوبكم رحمة ؟ ”
إلا وجاءها الصوت من الجهة المقابلة باردًا وجافا لا حرارة فيه ، غير حرارة الهاتف ” إنه قرارك السيادي ، أ فقدت الذاكرة إلى هذا الحد ؟ فلتخلصي نفسك من مخالب رفيقك السكير ، أ لست ناضجة وعاقلة ؟ ”
فينقطع الخط من جديد ، وكأنهم يردون لها الصاع بما لا يعد ولا يحصى ، وكلما انقطع الخط إلا وانقطع معه خيط الأمل الواهي أصلا . لكنها ، بعد ذلك ،تعلمت كيف تصنع من هذه اللحظات التي تكررت في حياتها حاملا فولاذيا ، يدعم بقاءها واقفة ، لقد تعلمت أن كل تجربة يمر منها الإنسان ، إنمت تطعمه طعام الصبر والاستمرارية.
بعدما كانت فتيحة هائمة في أحلام المسلسلات ، وجدت نفسها غارقة حتى اذنيها في حماقات هذا المعتوه النرجسي ، الذي لا يحب إلا نفسه. … سكر وعربدة حتى الصباح ، ثم يأتي يتمايل مترنحا ، وقد لعبت الخمر برأسه ، فمنعته من الوقوف على قدميه مثل أقرانه ، ” آه كم كرهتك يا محسن ، بقدر حبي القديم لك ، وبقدر ذوباني فيك ، بذاك القدر تماما صرت أمقتك ”
” وجهك الأبيض الجميل ، الذي كان يسكنني في كل أوقاتي صار سوادا يغلف تفاصيل جسمي كلها ، عضواً عضواً ، منطقة منطقة. ”
” كم مرة ومرة ، علي أن أحصي ضربي ولكمي وسحلي ؟ عددت وعددت ، وصفت وضحت حتى سئمت وضجرت ، فتناهيت واختفيت ”
فتيحة الآن تحصي خسائرها ، كالخارج من الحرب ، يجر ذيول النكبة والهزيمة والخيبة النفسية ، وتلك أمر على القلب وأشد وطأة ” أنا الآن أحصي خسائري ، كيف أعدها وأحدها ؟ سنوات من عمري ضاعت في سباب وخصام وشجار ، تعلمت ما لا يعد ولا يحصى من أنواع الرفس والضرب ، تلقيت صنوفا وألوانا من العذاب ، حتى شككت أياماً أنني كنت سجينة أعاني عذابات سجان ، هكذا الحب الآن يبدو لي ”
” لقد لقنت عشرات الكلمات النابية التي لم أسمعها قط ، ولم أعرف معناها إلا عندما تزوجت بمن أحببت ” .
كيف يستطيع شخص أن يقنع هذه المرأة أن الزواج حلم يراود كل فتاة ، وأنه أنشودة تترنم بها العازبات ، وهن يطفن الشوارع مسدلات شعورا مغرية ، يتمايلن في غنج ، تغازل عطورهن أنوف الرجال ، قبل أن تغازلهم عيونهن الجميلة ؟
هي أيضاً هكذا كانت فتيحة. كانت مثلهن قبل أن يظهر هذا اللعين في خياتها ، فتنقلب كل الموازين ، ويجعلها تكفر بالعيش والعشير ، تتتكر لكل قريب قبل أن تتنكر للبعيد ، بل تتخلص من المبادئ كلية ، وترميها وراء ظهرها على قارعة طريق ، عند أول مسلك سلكته وقد حملت ورقة الطلاق بيدها مدموغة بدمها ، قبل أن تدمغ بطابع المحكمة .
صادفت رجلا في الطريق ، غازلها بكلمات مبسترة ومعتادة يلوكها كل غاو عابر ، توقفت عن المسير وقد ابتسمت ابتسامة بلاهة صفراء وهي ترافقه إلى البيت ، أخذت ورقة مائة درهم ، دستها في حقيبتها الجلدية وغادرت شقته.
خرجت من باب العمارة مساء يتيمة مهزومة متعرقة ، مجموعة من الشبان كانوا يتضاحكون في عبث ، وهم في سكر طافح أمام الباب الحديدي للعمارة ، يدخنون لفافات الحشيش.
” انظروا انها مومس ، لقد باعت نفسها لذلك الحقير ، ذاك المعلم الذي اعتاد أن يدخل كل أسبوع فتاة جديدة تنسيه طعم القديمة ، آه من المعلمين وآه من النساء ، لا ثقة فيهما أبدا ”
فتيحة ساعتها مغيبة تماماً ، لم تسمع ما يقال ، ولم تهتم أبداً لأمرهم ، ولم تلتفت حتى لترى وجوههم التي كان يغلفها ضباب الأدخنة المنبعثة من أفواههم.
قطعت الطريق متثاقلة ، تجر أرجلها المتكاسلة والمتعبة ، توقفت عند أول مطعم صادفته أمامها ، جلست على الكرسي شاردة تلوك الهواء تفكر في الفراغ ، طلبت أكلا ، كانت مرتها الأولى التي تتذوق فيها طعاما مملحا بعرق الذل والشقاء ، غير أنها مع ذلك كانت موقنة أنها لن تكون مرتها الأخيرة….