ذ. منير الجابري كاتب تونسي
جلس منور في المقهى حتى يسترجع أنفاسه، و هو يتنهد بدت عليه علامات القلق و الحيرة.فقد أنهكه التعب جراء البحث عن والدته، التي غادرت المنزل منذ الساعة الثالثة زوالا. و لم تعد الى حدّ الآن .فخيوط الشمس أخذت تخبو و تنسحب رويدا رويدا. وضع منور هاتفه على الطاولة عسى يكلمه أحد الأقارب حتى يطمئنه على عودتها سالمة. أشعل سجارة وجذب الدخان ثم دفعه دفعا. فاليأس كاد يستولى عليه . تطلع الى الوجوه من حوله. قذفت به الذاكرة الى سنوات طفولته الأولى. التي عاشها وسط قرية عين الخروبة. انطلق منور في اغوار ذاكرته فهي لا تزال تحتفظ بكل تفاصيل حياته الماضية التي كان لأمه تأثيرا بالغا فيها .كانت امرأة طيبة، قصيرة القامة، وجهها مستدير شعرها مخضب بالحناء. تتميز بالذكاء و الفطنة رغم أنها لا تحسن القراءة و الكتابة. يغزل لسانها أروع الحكايات.
كانت أكواخ القرية متناثرة في فوضى تشبه بعضها .بجوارها حقول شاسعة، تتزين في كل موسم بلباس خاص. تفرش فيها أثناء الربيع زرابي خضراء تتوسطها الأزهار بألوانها المختلفة. أما الصيف ينثر لونه الذهبي خاصة عندما تنضج سنابل القمح و تتمايل أمام دغدغة النسيم كأنها أمواج البحر في أوج عطائها، أما فصل الخريف يشهد هبوب الرياح التي تنذر بقدوم العواصف. فتتجرد الأشجار من أوراقها لتتطاير في كل مكان بلونها الأصفر. و يستقبلونه الفلاحون منشرحي الصدور و يتسابقون الى حقوقهم. لحرث وزرع الأرض، حتى يستقبلوا موسم الثلوج اثناء فصل الشتاء.
ترسم حبات الثلج أروع مشهد، حينما تستقر على الحجارة الأثرية الى تقودنا الى أعماق التاريخ، فهي تقع في الجزء المنبسط من القرية. آية من آيات بصمة الحضارات التي مرت عليها رغم تراكم الأتربة و السنين لم يطرأ عليها منذ مئات السنين أي تغيير.ظلت تبوح بأسرارها التي تحكي عن الشعوب التي مرت عليها . فهي مهد التاريخ و منطلق الحضارات. الحجارة تحمل نقوشا و أشكال متنوعة شامخة لم يطرأ عليها أي تغيير منذ غابر العصور. تتوسطها عيون لا ينضب ماءها على مدار السنة. الماء يتدفق من بين الصخور، ينساب عبر جداول ليكوّن حقول ناضرة. كنا نعود في المساء من المدرسة خاصة أيام الشتاء. تكون السماء ملبدة بالسحب و البرق يومض لينذر بهطول المطر، فتحاصرنا السيول في تلك اللحظات العسيرة تعترضنا أمي , تمسكنا من أيدينا و تسرع بنا الخطى نحو البيت. نغير ملابسنا و نسرع الى الموقد و نجتمع حوله. به جمرات متأججة تزرع فينا الدفء و تغمر الكوخ بالحرارة و ما إن تنتهي منا. تتحول الى الانشغال بأبي العائد لتوه من الشغل. بعد العشاء نتحلق حول أمي لان موعد حكاياتها قد حل فهي عودتنا عليها منذ الصبى، و يكون لها طعم خاصة في ليالي الشتاء الطويلة. حكاياتها تختلف من مكان الى مكان و من زمان الى زمان تتميز بدقة الوصف و حبك الأحداث و بخيال شاسع و تكون في كل نهاية عبرة. من أبرز حكايتها التي لا زلت احتفظ بها في ذاكرتي. بيت الغول التي هاجمها البطل أثناء غيابه عنها و كيف ظهرت تلك المرأة الجميلة التي أخفت البطل و تحدت جبروت الغول. و قصة الأميرة المسحورة. والتاج المسروق الذي أعادته العصفورة الى ملك المدينة أو أسطورة علي ولد السلطان التي بقيت راسخة لدي – يحكي أنه في قديم الزمان كان في إحدى المماليك النائية يعيش رجلا ثريا مع زوجته و أبنائه .( بنت ولد). في رغد العيش لقد كانت لديه زوجه كريمة وجميلة و طيبة.لكن حدث ما عكر صفو الحياة في هذه العائلة. إذ أصيبت بمرض عضال أدى الى وفاتها رغم محاولات زوجها بجلب أمهر الأطباء لها لكن دون فائدة. و هو ما خلف حزنا كبيرا لفراقها لدى أبنائها وزوجها. مرت الأيام سريعا لم يقدر فيها الزوج على التوفيق بين رعاية أبنائه و أعمال الكثيرة فهو من كبار التجار مما يتطلب منه تنقلا و سفرا متواصلا. فكر في الزواج مرة ثانية للحفاظ على أبنائه أثناء غيابه .
تزوج فتاه من قبيلة مجاورة عرفت بطيبة القلب ورفعت الأخلاق. كانت خير معوض لحنان الأم المفقود لدى الطفلين لكنها لم تصمد طويلا. بمجرد إنجابها للأطفال كشفت عن وجهها الحقيقي و سلوكها المشين تجاه الطفلين. اعتنت بأطفالها و شردتهما. كان الطفلين يرعى بالأبقار و كانا يتغذيان من أحدها فهي ترضعهما حليب و عسل و ماء زلال.مما بعث الشك لديها لان صحتهما بخير. دفعها الحقد للبحث عن السرّ الكامن ورائهما حيث خرجا في الصباح، اقتفت أثرها حتى تكتشف الأمر. و بمجرد اطلاعها على مصدر غذاءهما. عادت مسرعة الى البيت و تمارضت طلبت من زوجها ذبح البقرة ذات اللون البني فيها شفاء لها، فقد نصحها بذلك ( سيدي الميزوني). عارضا الطفلين الأمر و ألح على والدهما بعدم ذبحها لكنه رضخ أمام إسرار زوجته. جمعا الطفلين عظام البقرة و ذهبا الى النهر لدفنها بجانبه في مكان منخفض أثمرت تلك العظام نخلة. كلما أحسا بالجوع جلسا تحتها فتحنى (عراجينها) و يأكلا ما طاب و لذ منها. لكن المرأة لم تحس أي تغيير على الطفلين، عاد إليها هويسها و حقدها الكامن تجاههما. عاشت في حيرة من أمرها الى أن وجدت حلاّ مناسبا و أرسلت ابنتها مع الطفلين و أوصتها بملازمتهما حتى تكتشف مصدر غذاءهما. مرّ اليوم الأول ثم الثاني لمّا يقدرا على تحمل الجوع، ذهبا الى النخلة و أوصى أختهما بعدم كشف السرّ لأمها. إلا أنها وضعت( نواة) في حذائها حتى يكون خير دليل لأمها. و ما إن وصلها الخبر استيقظت في اليوم الموالي باكرا كان الفجر يفتح عينيه ببطء في الأفق و الظلمة تتحول شيئا فشيئا الى النورحملت فأسا و ذهبت الى موقع النخلة واقتلعتها من جذورها.
بعد مدة كسدت تجارة زوجها و تدهورت لذلك قرر الرحيل أوصاها بالاستعداد لذلك في اليوم المقبل حينها قررت لتخلص من الطفلين و أرسلتهما الى النهر لغزل الصوف مرّ أول اليوم ثم أوسطه و سرعان ما أقبل الغروب و الطفلان منهمكين في بغزل الصوف. أطلّ عليهما غراب في أعلى شجرة التوت و قال لهما:
– ” لقد رحل النجع و تخلوا عنكم”. رفعت الطفلة رأسها تجاه الغراب ثم غادرت النهر مسرعة يتبعها أخوها. و صلا الى منزلهما لم يجدا أحدا. مكثا تلك الليلة هناك و في الغد رحلا و ظلا يتنقلان من مكان الى مكان. أتعبهما المشي و البحث عن مأوى مناسب لهما أحسا بالظمأ. و كانا كلما اقتربا من نهر للارتواء. إلا ونادي مناد لا تشربا انه وادي الأفاعي انه وادي الأسود انه وادي الحمير، و بمجرد أن يشرب كأس ماء إلا و يتحول الشخص الى حيوان. أمام هاته الأصوات المتكررة لم يستطع الطفل تحمل التعب و العطش معا. شرب من أقرب نهر له ، تحوّل مباشرة الى غزال و بقى ملازما لأخته في حلها وتر حالها إلا أنه لم يسلم من مطاردة الصيادون له. واصلا فرارهما حتى يتوارى عن الأنظار. و أثناء بحثهما المتواصل عن مكان آمن، تسللا الى بستان.تكثر فيه الجداول و هي تنساب في سحر يعج بالأشجار و الأزهار، و تسمع العصافير تغرد وتسرف في التغريد لتراود بعضها لانها في ذروة موسم التزاوج.
و تتمايل الأغصان رقصا أمام صوت خرير المياه و تتغزل بأشعة الشمس التي تسربت و زرعت فيها الدفء بعد سبات عميق. فهو بستان منعزل و بعيد عن طمع الصيادين. لان صاحبه على ولد السلطان لا يسمح لأحد الدخول إليه. تفشي خبر الغزال المرابط في البستان. و كثر حديث الناس عنه. الى أن وصل الخبر الى القصر، حمل الأمير سهمه و اتجه صوب بستانه. و سار متئد الخطي يتابع حركات الغزال فهولا يبتعد كثيرا عن شجرة التوت الوارفة الظلال، بقي يتابعه لسعات طويلة، شجرة ينبع منها جدول صغير يغمره الزهر و ينطلق منه مزيج عابق من روائح الورود. فقد فارقها الشتاء منذ قليل. بقي الأمير مندهشا أمام إصرار الغزال و تعلقه بشجرة التوت عاد الى القصر و جمع كل السحرة و روي لهم حكاية الغزال، طلب منه كبير السحرة إعطائه فرصة حتى يتمكن من كشف علاقة الغزال بشجرة التوت. تحوّل مسرعا الى البستان تم وضع مرآة تحت الشجرة اندهش أمام الصورة العاكسة لفتاة ذات جمال خلاب. لم يشهد له مثيلا من قبل يداعب النسيم شعرها الذي تغار منه ثمار التوت. بقي الأمير يتساءل – ترى ما الذي تخبئه شجرة التوت، هل سيرسينا الساحر الى كشف السرّ أم سنظل تائهين؟
غادر القصر نحو البستان أخبره بالسّر التي التحية على الفتاة و طلب منها النزول.لكنها فقدت الثقة في بني البشر، لذلك رفضت طلبه و قالت:
“- لقد كنت تائهة في رحلة ضياع و الضباب ظل يحاصرنا في الماضي و الحاضر”. نلوك أحزاننا من تصرفات زوجة أبي.
لكن الأمير وعدها بالعيش الكريم و ستشعر بالأمن معه. عرضت عليه شرطا وحيدا.
عدم تعرض أخوها الغزال الى سوء، قال لها “:
– لك ذلك سأوصى كبير الحرس أن يعتني به عناية خاصة.
نزلت الفتاة من أعلى الشجرة و ذهبت مع الأمير الى القصر، كان الزواج أسطوري، عزفت الموسيقى و أنشدت بألحانها العذبة- فمتعت الأسماع و أطربت أهل المملكة. و تنقلت من مكان الى مكان و أضيئت المشاعل التي جعلت من الليل نهارا. وصل صدي الحفل الى كل أصقاع الدنيا.و أصبح حديث الناس، واجتمع أعيان القوم و التجار لتقديم الهدايا، حينها اكتشف التاجر أن الفتاة التي تزوجها الأمير هي ابنته، لكنه كتم السرّ و أثناء عودته الى المنزل أخبر زوجته، استغربت و هي كانت تعتقد بأنهما توفيا لأنها سردتهما و في ساعة متأخرة من الليل سافرت الى المملكة حتى تشارك ابنتها فرحتها. مكثت في القصر لأكثر من شهر. ثم طلبت من الأمير السماح لزوجته بزيارة عائلتها. بعد أخذ و رد وافق الأمير على مضض. أثناء عودتها الى المنزل كان الطقس قاس جعل الناس تنكمش في بيوتها. بدأت تحكي لها عن والدها و اقتربت بها الى بئر مهجور ودفعتها داخله. و أسرعت الخطى نحو بيتها. و بدأت تجهز ابنتها، حتى تكون هي سيدة القصر و تنعم بذلك الترف و البذخ عادت البنت الى القصر، بدت عليها تصرفات غريبة. ممّا جلب انتباه الخدم فأثارت غضب الأمير و بقى يتابع حركاتها التي تبعث على الريبة. تمشي كالديك الرومي، مكفهرة الوجه تلاشى جمالها ورقتها أمام غطرستها.تنهر الجميع دون استثناء.تستيقظ في ساعة متأخرة من الليل و تتجه نحو حديقة القصر.تجلس تحت شجرة ضخمة في جهة منعزلة و تغني. شاهدها الأمير من شرفة القصر. فأدرك أنّ وراءها سّر. في صبيحة اليوم الموالي.نادي الأمير الى الجلاد حتى يجبرها على البوح بها تخفيه. و بمجرد حلها ، أعلمته بالحقيقة. أمر علي ولد السلطان بإلقائها في بحيرة التماسيح حتى تكون عبرة للناس. و أمر قائد الجيش بالبحث عن زوجته، بحثوا في كل الأماكن الغابات، لكنهم لم يجدوالها أثرا، مرّ على غياب زوجته أشهر، بينما كان الأمر منهمك في جلسة تخص تسيير شؤون الدولة . سمع صوتا ينادي، فأمر الحاجب بادخاله. رجل طاعن في السن ملابسه رثة. قال :”
– يا أمير البلاد لقد رأيت غزال يأبى مغادرة بئر مهجور، قرب وادي الأفاعي”. ترك الأمير مجلسه و خرج مسرعا الى البئر.حين وصل نادى بأعلى صوته على زوجته. سرعان ما رجع اليه الصدى . بجانب ثعبان ضخم و بحضني ابنك. غضب الأمير غضبا شديدا. و بقى في حيرة من أمره شاهده أحد شيوخ كان يرعى بالابل. اقترب منه و قال له لدي الحلّ أخرج الأمير سيفه من غمده و هدده و هدده – أسرع بالحل. لقد نفذ صبري ، قال الشيخ ــ ذبح معزاة سوداء اللون و تقديمها قربانا الى الثعبان، و بتلك الطريقة أنقذ زوجته و ىبنه.هاته القصة من أبرز الحكايات التي بقيت عالقة يذهني و لم تمح من ذاكرتي.الا أنها أصرت تلك الليلة أن تناورنا و تخرج عن عادتها. أمام عيوننا المتيقظة لها.
قالت :”- سأحكي لكم حكاية لم تألفوها من قبل”.
ردّ جميعنا بصوت واحد – نحن متلهفون لكل شيء يصدر عنك.
و عمق هذا في أنفسنا إحساسا هائلا لأنها تغذي و تشبع رغبتنا، و تدفعنا دفعا الى التلذذ بحكاياتها قالت سأحكي لكم عن الرجل الفاضل الذي غادرنا منذ أسبوع الى مثواه الأخير. رحل عنا و ترك لنا تاريخه الذي خطه بنضاله. فقد تجاوز عمره عتبة الثمانين، قد عانى المرض و الوحدة، و قلة ذات اليد. أصبح أيام الحرب، و بقيت بعض القطع المعدنيةّ صغيرة الحجم في جسده، عجز الأطباء على استخراجها من جسدة النحيف. ورغم ذلك كان دائما شغوفا بالحديث عن دوره صحبة زملائه الذين توفوا قبله. بالحديث عن دورهم في دحر المستعمر. كان يحكي عن تلك الحرب القذرة بكل فخر، فهو نفي و سجن و عاش أياما ظنكة داخل الزنزانة. كان يقيد بسلاسل مثبتة بالجدار، و سقف الزنزانة يرشح بالماء، في درجة حرارة منخفضة جدا. يتقاسم الأكل مع الجراذن، لكنه لم يستسلم ولم ينهار فهو حافظ على رباطة جأشه و لم ينحن يوما أمام جنود الاستعمار. كان يخطو خطوات سريعــــة وراء حرية وطنه الى أن حقــق هدفه و نالت البــــلاد الاستقلال و عاشى يتباهي بدوره طيلة حياته و لم يفكر يوما في جائزة أو تعويض، لا يرى واجب كل شخص تجاه وطنه العزيز، كان عم مكي رجل يعشق السينما، كنا نذهب معه، حين يقع عرض الأفلام على جدران المدرسة، نجلس بجانبه حتى يشرح لنا، مشاهد الفيلم فهو بارع في اللغة الفرنسية كان أهل يأتون جماعات و فرادي، حتى يشاهدوا الفيلم. و في كل مرّة نكتشف مشاهد جديدة. في تلك الليلة شاهدنا حصانا يطير براكبه في الهواء. فاشرأبت الأعناق نحوه و هم يتعجبون منه، لكن خالتي مباركة قالت و هي تتوسط الحاضرين هذه الحصان فعل مثل ديكي الذي طاردته ليلة البارحة، حين دنوت منه لامسكه رغم القائي العود عليه، فدعوت عليه بالذبح. فضحك الجميع أمام المقارنة التي قامت بها.
فجأة رن الهاتف و أعلموا منور بعودة أمه الى المنزل سالمة، فرح كثيرا، ورجع مسرعا الى البيت، فهي مريضة بالزهيمر.