الدكتور: محمد محضار / المغرب
موجة برد حادة تغشى دوار السبت هذا الصباح ، و المدرسة بلونها الكالح تبدو غارقة في الكآبة كالعادة ، كانت قطرات ندى الصباح تبلل وجهي وأنا أستحث الخطى نحو بنايتها التي تعبق بأريج الماضي المحيل على فترة الاستعمار الفرنسي فقد كانت هذه البناية مقرا إداريا للمستعمر، عندما ولجت بوابة المدرسة أسرع نحوي “با ميلود” مبتسما
وهو يقول:
-دعني أحمل عنك هذه القفة الثقيلة ..سي عبد السلام ينتظرك
نظرت إليه بامتعاض وسلمته القفة ، ثم اتجهت نحو مكتب المدير، استقبلني ضاحكا ، وعيناه الثعلبيتان تشعان ببريق ماكر ،طلب مني الجلوس بأدب مصطنع ثم قال :
-سي بشار شكرا لك على دعمك ، ستمر الأمور بخير والمفتش سيكون سعيدا خلال زيارته لنا.
لم أعلق ، اكتفيت بالنظر إليه ، وأنا ابتسم ،وتابع :
-حادةوطامو سَتُحضران معهما لوازم الطبخ ،وستهيئان وجبة شهية تنال الرضى
بدا لي المدير أشبه بشخصية خرافية ،في مسرحية عبثية ،يؤدي دوره بحرفية كبيرة ،دون أدنى هفوة ،جاء الزملاء ،وقام المدير من مكانه محييًا وهتف بصوت جهوري:
-مرحبا بكم أتمنى أن نكون في مستوى الحدث،صديقنا بشار كان موفقا في شراء ما يلزم..
وتدخلت حادة بصوتها ذي الرنة الأمازيغية قائلة :
-سيمر كل شيء على أحسن ما يرام وسنربح الرهان
وقال المدير معلقا :
-هذا ما فيه شك ، يمكنك الآن أنتِ وطاموالذهاب لإعداد وجبة الغذاء ببيتي ، زوجة الحارس وابنته ستقومان بمساعدتكما ، أما أنا وميلود فسنقوم بحراسة تلاميذكما. .
على هذا انفض الجمع ،وقمنا نحن بادخال المتعلمين إلى قاعات الدرس ، وانصرفت حادة وطامو إلى مهمتهما وهما سعيدتان، كان التلاميذ بحسهم الطفولي يستشعرون الحالة الغير العادية التي كانت تعيشها المدرسة ،لهذا لم تتردد إحدى التلميذات في توجيه السؤِال إلي وأنا ألج القسم :.
-هل سيحضر المفتش اليوم ياأستاذ؟
رددت عليها وأنا أبتسم :
-نعم ولكن هذا أمر عادي وسنتابع حصصنا الدراسية كالمعتاد وقال تلميذ يجلس بالخلف:
-أستاذ هل المفتش رجل مثلك ؟
ضحك التلاميذ وقلت أنا:
-نعم إنه رجل وليس غولا
في الساعة العاشرة والنصف توقفت بباب المدرسة سيارة من نوع فياط 124،ورأيت الحارس “با ميلود” يهرول نحو السيارة ، يتبعه المدير ، ترجل من السيارة رجل متوسط القامة يميل لون بشرته إلى السمرة يحمل محفظة جلدية سوداء اللون تبادل التحية مع المدير ثم اتجها نحو الإدارة ، مكثا لحظة ،- وكان هذا الوقت كافيا لتمر حادة وطامو إلى قسميهما ، وتتكفل زوجة الحارس وابنته ، باتمام إعداد وجبة الغداء-
ثم غادرا الإدارة ، رأيتهما يتجهان صوب قسمي ،بعد حين وجدتهما ، أمام باب القسم ، تقدمت نحوهما مبتسما ، قال المدير :
-سي الحسين مفتش المقاطعة لمادة اللغة العريبة، السيد بشار مدرس القسم الأول
مد المفتش يده مصافحا إياي ،ثم دخل إلى حجرة الدرس ،قام التلاميذ ،رددوا بصوت واحد :” مرحبا بالزائر الكريم ”
أشار إليهم بالجلوس ، ثم اتجه نحو المكتب المهترئ ، جرّ الكرسي وجلس ، قدمت له المذكرة اليومية ، وسجل الحضور والغياب ، ثم أشرت إلى الإطار الخشبي المعلق بالجدار ، وقلت:
-باقي الوثائق معلقة هناك أستاذ ، التوزيع السنوي ، التوزيع الشهري ، جدول الدراسة ، تعاونية القسم ..
قاطعني مبتسما :
-نعم سأطلع عليها ، أين تحاضير اليوم ، دفعت أمامه ملفا أخضر اللون
وقلت :
_هاهي أستاذ ، أما تحاضير الأسبوع فموجودة أيضا بالخزانة
فتح محفظته ، وأخرج مجموعة أوراق ، وضعها على المكتب ، أخد قلما ، ثم فتح المذكرة اليومية ،وقال وهو يشير إلى صفحة المعلومات :
– هل هذه المعلومات محينة .
-نعم أستاذ
نقل المعلمومات ، ثم نظر إلى جدول الحصص ،وسألني :
-ماهي الحصة المقبلة؟
رددت وأنا أفتح ملف التحاضير :
-الحصة الموالية هي حصة القرآن الكريم،وبعدها حصة الفنون التشكيلية
رفع رأسه نحوي ثم أشار لي بيده وقال:
-تفضل بإلقاء الدرس
فتحت السبورة ،على سورة الإخلاص ، نظرت إلى المتعلمين ، ثم بدأت بقراءة آيات السورة بصوت خاشع ، أحسست ببعض الاضطراب ، لكنني تابعت القراءة حتى آخِر آية ،اقتربت من أحد التلاميذ وأشرت له بالمسطرة التي كنت أحمل في يدي حتى ينتقل إلى السبورة ليقرأ الآيات المقررة ، لكنه قام بحركة مفاجئة ورفع يديه إلى أعلى كملاكم يريد أن يحميَ وجهه ،أسقطت في يدي ،وأصابني شبه غثيان ،لكنني تماسكت ، وأشرت إلى تلميذ أخر حتى يقوم بالقراءة ، لكن المفتش كان قد قام من مكانه وهرول نحو الإدارة تحت أنظاري ، رميت المسطرة جانبا ولعنت الشيطان والتعليم والقسم والتلاميذ وقلت لنفسي بصوت مسموع ” إنه زمن الإهانات فتحمّل يا بشار واكتم في نفسك الجريحة ، ذهب الامتياز أدراج الريح ، لكن لا يهم ، الخير فيما اختاره الله” .
عاد المفتش صحبة المدير ، وقفا أمام الباب ، قال المدير موجها كلامه إليّ :
-لحظة من فضلك سيد بشار نريد أن نتحدث إليك
غادرت القسم ملتحقا بهما قال المفتش بصوت غاضب :
-التلاميذ مقموعون ، يسيطر عليهم الخوف والرعب ، الظاهر أنك تعاملهم بقسوة زائدة ، وهذا ستكون له نتائج وخيمة على نفسيتهم ،وكذلك نتائجهم الدراسية
تدخل المدير وهو ينظر إليّ مبتسما :
-أتعلم أن أحسن معلم عندنا في المدرسة سيدي المفتش هو السيد بشار قاطعه المفتش متهكما وتقاطيع وجهه تشي بتجهم واضح:
-يبدو أنك تسخر مني ،سيدي المدير
ورد المدير بصوت جازم ، وهو يشير إليّ بيده حتى أبقى صامتا:
-حاشا سيدي المفتش أن أسخر منك ، فعلا السيد بشار يستحق هذه الصفة فلديه ثلاثة تلاميذ متخلفون ذهنيا ، وتلميذان مصابان بالتأتأة ويجدان صعوبة في النطق ، أما التلميذ الذي رفع يديه مغطيا وجهه ، فهو مصاب بمرض التوحد ، فهل هناك معلم يقبل بهذا الوضع ولا يستحق الشكر
كان كلام المدير يحمل الكثير من الصدق ، فرغم اختلافي معه في بعض التوجهات والرؤى فقد أنصفني .
نظر إلي المفتش وقد انفرجت أساريره ثم مد يده لي مصافحا وهو يقول:
-تستحق الامتياز إذن .
محمد محضار دجنبر 2016