أ. عبد الرحيم بيضون
أثناء تجوالي ب(الجوطية)، بالقرب من سوق الأحد، صادفت قارورة عطر عند (ولد عائشة)، وسط ألبسة داخلية، وهاتف
- تكمن في رمزيتها، وقد يتلاشى محتواها، وقد تتكسر القارورة، وتبقى الذكرى. وأتمنى أن يثيرك عطرها كما أثارني في الأول. وكما سحرت به، وجذب الآنسة اليه. انظري جيدا، إن هذه القارورة تحفة نادرة، وستشيع ليلتنا الساهرة نورا على نور.
- ساخرة: ولو كانت كذلك، فلما رموها ووجدتها عند الفراش؟ ولتصل اليك، وها هي بين يدي
- لا تتسرعي خذ، ورشي منها رشتين أو ثلاثة، ستعود بك الى الذكرى، الى عيد ميلادك الأول.
وبالفعل وقع العجب، لقد سحرت به، كما سحر، وأخذت أعبر لها عن العطر، الذي يحسسنا بنوع من التجدد والتفرد والرغبة، وأشياء أخرى لا نفهمها في حينها. نقال ذكي مكسر، وميكة سوداء بداخلها قطع من الدجاج المحمر، التي أخذ في التهامها، مرددا: من زمان وأنا لم آكل اللحمة مع (لفريت)
امتدت يدي لأخذها قبل أن ترتمي عليها يد الشابة الأنيقة المتهافتة. وكنت أظن أن أجدها فارغة، فاذا بها شبه مليئة عطرا، ومدهونة بالحلوى والشوكولاطة، وأخذت أنظفها بمنديلي الورقي، ثم سألته عن ثمن بيعها لي.
- بكم هذه القارورة، يا ولد عائشة؟
- أنا ولد المعيشة، وأشار بأصبعه الى عشرين درهما، وفمه مشغول بأكل الحلوى، ويده الأخرى قابضة سيجارة محشوة.
- سأعطيك خمسة عشرة درهما،
- قال لي مبحوح الصوت: أنت محظوظ هذا الصباح، و(زهرك) معطر، اعطيني عشرون، بلا نقصان، والقارورة مليئة عطرا، وأردتها لك، لأني أعرفك زبونا، منذ زمان.
لم يترك لي ما أقوله، والقارورة من النوع الرفيع، قلت له:
- خذ أنت تستهل كل خير، وقلت مع نفسي: صباح زين هذا، انها تحفة، وسأقدمها لأحلام، بمناسبة عيد ميلادها.
- مد يده قائلا: يا فتاح، يا رزاق، وأخذ الورقة النقدية وقبلها قبل أن يدخلها في جيبه.
والشابة الجميلة كانت تعاين كل ما دار بيني وبينه، وعيناها تكادان تنفلتان من مقلتيها، وتمعن النظر في القارورة، وهي في كامل تألقها بين يدي. وأخذت أشمها وأعيد شمها، لأسحر بعطرها. مرددا:
يا إلهي، ان للعطر فعل السحر، والقارورة تحفة نادرة، في شكلها ولونها ألأزرق. وعطرها خرافي، مثير بجاذبية غامضة، موحية برمزية التلاشي. والتفتت إلي الشابة مندهشة، قائلة:
- أتريد بيع القارورة لي؟
- آسف يا آنسة، أريد أن أحتفظ بها،
- مداعبة، أراك تشمها وتعيد شمها، هل هي مليئة؟
- بعفوية، نعم انها مليانة عطرا مميزا، يذكرني بعطر أحلام
- باندهاش، هل تسمح لي بشمها؟
- بطبيعة الحال، خذ.
وأمسكتها محتضنة إياها وفتحتها، ورشت منها فوق يديها، ووسط كفها، وعنقها. وحاولت
أخدها منها بكل سلاسة، قائلا:
- أنت ذواقة، وأنا عاشق عطر، ومن هواة جمع أنواع القارورات، كهذه. إنها تحفة.
- قالت بصوت ناعم: وبكم ستبيعها لي؟
- إن كنت مصرة، سأضطر الى اقتسامها معك، نصف/نصف، شريطة أن أحتفظ بالقارورة
- وبعد صمت، قالت: وبكم نصفها؟
- اعطيني مئتين درهما بدون نقصان، وأنت تعلمين ثمنها الحقيقي في (البوتيكات). وهذا العطر لا يليق الى بالآنسات الأنيقات مثلك.
وأخذت تسرد لي أنواع العطور المعروفة عالميا، والمبثوثة في المجلات النسائية. ونبهتها بالعطور العربية والمحلية، وتاريخها وفوائدها، سواء في مجال الصحة أو في مجال التزيين، وأثرت فيها شهيتها لإقتنائها.
- مغيرة من نبرتها: انها (همزة)، وبعد شرود. وبدلال، تابعت، كنت أعتقد أن هذا العطر سيبعث في الحيوية، وسيجدد نشاط دورتي الدموية، فإذا به يثير في قابلية افتراسك، إن لم تبعه لي.
- قلت مداعبا: ومادام يثير فيك شهية الإعتداء، فبإمكانك تغيره بعطر آخر، أكثر سلمية، ويثير فيك شهية أحلام زرقاء، معطرة بورود بلادي، المشهود لها بجودتها الرفيعة عالميا.
- للأسف، انه عطري المفضل، ويميزني عن الأخريات.
وفي حالة انتشائها، حاولت الإستمرار في إثارتها لأهمية العطر. وأنا محتاج لرائحة الخبز. ولم تتمالك نفساها وأخذت تحكي عن قصتها مع عشيقها البارحة، إذ وجدت نفسها مرمية خارج باب العمارة، في ساعة متأخرة من الليل، والملابس التي وجدها ولد المعيشة، فهي لها والعطر عطرها، الذي أهداه لها عشيقها قبل أن يعاقرها ويعنفها. ووجدت نفسي أواسيها. وانعت عشيقها بالبلادة، لأنه لم يقدر جمالها الراقي. لأعود الى الحديث عن العطر. الذي يناسب شخصيتها، وأحثها بأنها ستجد فيه راحتها النفسية. وتنهدت تنهيدة عميقة مغيرة مجرى الحديث، قائلة:
- لم أكن أظن أن ألتقي بالجوطية إنسانا له ثقافة عطرية أكثر من أصحاب البوتيكات بالمدينة الجديدة
- عفوا أنسة، هناك عشاق وعاشقات العطور كأحلام. لكن ليس بهذه الدرجة من اللهفة لعطر واحد ووحيد مثلك. وأحي فيك وفاؤك له.
فجأة رن هاتفها الثاني، وأخذت تتحدث مع عشيقها الذي أخذ يعتذر لها عما حدث البارحة، ويعدها بزيارتها هذا المساء، وسيعوضها ما ضاع. وردت عليه:
- الحمد لله أنك تعترف، وأنا متدمرة من سلوكك الوحشي. ولا تجعلني أنتقم منك كما تفعل الأخريات…وأقفلت الهاتف.
- وعقبت على قولها: قد يكون العنف مجددا للحب الذي يكنه لك.
- مثلي لا يحب، والمسألة مسألة مصلحة، وأنا لا أثق فيه. كما لا يثق في.
- وهل سيتلاشى عطرك وتبقى رائحة الخبز؟ وقد لا تعودي؟ ومن سيضمن لي ذلك؟
ثم أدخلت يدها بجيب سروالها الملتصق على جسدها، لتخرج منه خمسون درهما كعربون، وسلمتها لي قائلة: باي باي. الى الغد ان شاء الله.
- مع السلامة، يا حلوة.
وقبل دخولي الى المنزل، سبقني العطر الى أنف أحلام، لتنتشل به هي الأخرى، قائلة:
- من هي سيئة الحظ التي أمطرتك عطرا يوقظ الروح؟
- متجاهلا إجابتها، لأطرح عليها سؤالي: وبماذا تذكرك رائحة هذا العطر؟
- حسب علمي، انه يثير في إحساسا غريبا وحشي الأطوار. ولي رغبة في افتراسك وقتلها. قل لي من هي؟
- ما هذا الإنفعال؟ هل كرها لها، أم غيرة علي؟ تريثي قليلا، وتذكري عيد ميلادك الأول.
وعطرك المفضل، الأقوى من عطر( أفروديت)
- ما زلت مصرة، قل لي من هي؟
- لا تظني بي سوء يا أحلام. وأنا أبحث عن العلبة لأضع فيها القارورة، حاولت أن ألخص لها ما جرى لي مع الآنسة المتهافتة. أخيرا وجدتها ووضعت القارورة داخلها، لأقدمها لها بالمناسبة، قائلا:
- تفضلي يا أحلام بمناسبة عيد ميلادك.
- أشكرك على هذه الهدية، وإن أتيت بها من الجوطية.
أنت تستحقين أنفس منها، ولو قلت لك أنني اشتريتها من (بوتيك) العطور، بالمدينة الجديدة، أو من (مارينا) لغيرتي موقفك. مع ان الهدية
- ياه انه كالسحر.
- ألم أقول لك أنه أقوى من المحرم؟
- اتركنا من تداعياتك الزرقاء.
- وبعد دقائق معدودة، فعل العطر مفعوله، وأخذت تعبر بكل طلاقة عن احساسها الدفين.
- لم أصدق في الأول، صحيح فللعطر إحساس لا شعوري، ينعش الدماغ والذاكرة. ويمنحنا قوة مقرونة بالإرتياح والإثارة.
- الحمد لله الذي جعلك تحلمين وانت يقظة. وسيقوي شهيتك للسهر هذه الليلة، وستسافرين على أجنحة أحلام زرقاء.
وفي الغد عادت الأنسة بالقرب من ولد عائشة، تنتظرني بفارغ الصبر، رأيتها مبتسمة أحسن مما كانت عليه البارحة. بادرتني قائلة:
- صباح الخير.
- صباح النور والورد والياسمين، يا حلوة. ظننت أنك لن تأتي بعد أن تصالحت مع صديقك، الذي لا يعرف حق الجمال. الذي لا يعرف كيف يعاشر شابة مثلك.
- لم يعد مفترسا، صار حملا وديعا أحلب منه قوت يومي.
- الله أكون في عونك، أصعب شيء ان نقدم جسدنا الى من لا يستحقه، ويهينه، ويغتصبه
- أشكرك على تعاطفك معي. وهل أتيت بالعطر الذي وعدتني به؟
- الكلمة هي الرجولة. وعطرك مازالت رائحته تفوح منك. ولا أدري كيف استطاعت أحلام أن تغير عطرها – الإصطناعي- الى عطر ( بيو).
- هل كان العطر سببا في خصومتك معها، لا سامح الله؟
- ” ما هو فالك”، بل كانت ليلة البارحة من أجمل ليالي عمرنا. كانت حالمة أكثر مما كنا نتصور.
- وأين نصيبي من العطر؟
- لا تتسرعي يا حلوة، وما يجمعنا هذا العطر الذي يوحي بالتلاشي، مع أنه خالد الى أن يرث الله الأرض وما عليها. واخرجت قارورة عطر من العلبة، وحقنت نصفها بقارورتها المماثلة، ثم سلمتها لها بكل عناية. وشكرتني وهي مخطوفة بعشقها الخرافي لهذا العطر ألأزرق حد الجنون والتملك. ثم انطلقت مزهوة، مأخوذة بأسطورة عطرها الوهمية، التي سهر صناع العطر ومشاهيره ومجانينه تثبيتها في نفوسنا. ليبقى العطر عطرها، والسحر لأحلام، والقارورة لي.