الكاتبة والشاعرة العراقية ليلى عبدالواحد المرّاني/الدانمارك
تسمّرت عينايَ عليها، وشهقةٌ مخنوقةٌ انفلتت من حنجرتي، بجهدٍ حاولت أن أسيطر عليها؛ فلم أفلح… عرفتها من إطارها، وقبل أن تمتدّ يدي لالتقاطها، متحشرجاً، واهياً، شبه معتذر؛ همهم صوت أخي..
أردت أن أضعها بإطارٍ جديد يليق بها، وأعلّقها في صدر الصالة..
رفعتها، سقط ضلعٌ أو ضلعان من الإطار المهترئ، تعرّت أطراف الصورة المتآكلة قِدماً وغبارٌ كثيف تراكم عليها، فأخفى معالم وجه أبي. ملقاةً كانت بين عشرات قطعٍ من كراكيب قديمة، نُفيت إلى المخزن الخارجي للبيت الجديد. بيدٍ مرتعشةٍ غيظاً وانفعالاً، مسحتها، وفِي عيني والدي نظرت باعتذارٍ وأسى… في الصورةِ، يبدو والدي في عنفوان شبابه، رشيقةٌ قامته، وبدلةٌ بنيّةٌ، أنيقةٌ يرتديها مع قميصٍ أبيض وربطة عنقٍ رفيعةٍ، بنيّة، أضافت له استمالة سدارةٍ سوداء يساراً،هيبةً، ووقاراً مميّزين . جبهته عريضةٌ، تنطقُ نبلاً، وطيبةٌ تشرقُ على ملامح وجهه، أحببتها، يزيده بهاءً دقّةُ وتناغم تقاطيع وجهه، ” تشبهين والدكِ “، يقولون، فأزداد اعتزازاً به وبنفسي. دفءٌ لذيذٌ يغمرني حين أنظر إلى عينيه، فأشعر بالاطمئنان والزهو، متفاخرةً بين صديقاتي بأبي الوسيم. قصصٌ من وحي خيالٍ متعطّشٍ لأبٍ يحتويني، أنسجها حوله.. وأصدّقها !
مزيجٌ متناقضٌ من طيبةٍ وسطوةٍ في عينيهِ، يحيّرني، يتناقضُ بما هو عليه حين عاد أخيراً إلى العراق، واستقرّ بيننا. في زهوة ربيع العمرأصبحنا، وفِي خريفه تضاءل أبي. عينان منهكتان خلف نظّارةٍ سميكة، تتدلّى فوق أرنبة أنفهِ، مربوطةٌ بقيطانٍ أسود، يلتفّ حول مؤخّرةِ رأسه، ثمّ حول أذنيه يستقرّ. شفتان ممصوصتان، أصابهما الجفاف، تغوران داخل فمٍ فرّت منه جميع أسنانه، وبإصرارٍ عجيب، قرّر ألاّ تحلّ محلّها أسنانٌ اصطناعية. أنظر إلى بقايا خصلٍ بيضاء خفيفة، متطايرة، وأتألّم، مصرّةً على الإحتفاظ بصورة والدي، أنيقاً ووسيماً، كما أراه في صورته بمصر، رافضةً ذلك الكيان الهزيل، والظهر الذي تقوّس، وتلك العروق، زرقاء، نافرةً كأفاعٍ صغار من جلدةِ يديه .
سأعطيكم صوري قبل أن أموت …
فاجأنا يوماً في جلسةٍ عائليّة، وكأنه يوزّع علينا ميراثاً يخشى أن يُسرق من أولاده الستّة، لم يكن لديه غير هذا الميراث، وفرمانٌ أصدره غير قابلٍ للنقاش، الصورة في صدر الصالة لابنه البكر. إعتراضٌ وُئد بنظرةٍ مؤنّبة، ما أن تعثّر سؤالي على شفتيّ،
ولكنّك لا تزال بيننا، يا أبي، وصورتك مكانها هنا في صدرِ دارنا…
زيارتي وخطيبي لبيت أخي الجديد، متأخّرةً جاءت، وبعد وفاة والدي بشهور. طاف راداري اللعين في كلّ ركن، باحثاً عن صورةِ والدي. كلّ شيءٍ أنيقٌ، ومنتقى بعناية، حتى الفراشاتِ المجففة، تزهو بألوانها، محتلّةً جزءً من حائطٍ نظيف، تقابلها صورةٌ كبيرة لسيقان أشجارِ غابةٍ كثيفة… واعتذرت الجدران الأخرى، ساخرةً من تساؤلي المكتوم، أين موقع أبي وصورته العتيقة، المعتمة وسط هذا البهاء السخي؟
أصواتهم اختلطت وضجّت بصخب، مزيجٌ عجيب أصبح صوت زوجة أخي، رفيعاً حادّاً مع صوت خطيبي يقرع كطبول حرب. صفيرٌ وهدير، أحسسته يخترق غشاء الأذن، صاعداً إلى رأسي، عابثاً بكلِّ خلايا مخّي، حدَّ الغثيان ..
لماذا يسافر أبي كثيراً؟ … سؤالٌ أردّده، فلا يجد صدىً غير
ليوفّر لنا لقمة العيش … تقول أمّي، متحاشيةً النظر في وجهي الذي يستجدي إجابةً مقنعة من عينيه، تفاهمٌ صامتٌ بيننا… ويضيع السؤال حائراً؛ فأتعذّب.
نظراتٌ تنصبّ عليّ، تحدثُ ثقوباً في وجهي… في رأسي… في يديّ، وحتى في حذائي، وغارقةٌ أنا في دوّامةٍ معتمة، يتلاطمُ فيها صخبُ ذكرياتي.
لا تقلقي، سأعلّق الصورة في مكانها اللاّئق، أجدِّد إطارها و..” سحقته نظرةٌ ناريّةُ من زوجته، وللمرّة الألف، وددتُ أن أصدّقه، ذلك الأخ الذي يأسرني بطيبةٍ ورثها عن أبي، وضعفٍ مقيتٍ تستّر خلفه من سطوة زوجته.
جفّ الكلام وهرب من فمي طوال طريق عودتنا، شريط الأحداث في بيت أخي الجديد يلاحقني، وظلالُ أفكاري وتداعياتها لم تفارقني وأنا أطوف معهم في أرجاء البيت الواسع.. حديقةٌ منسّقة… حماماتٌ ورديّة… صالةٌ كبيرة، وأثاثٌ أنيق… صورٌ تنطق جمالاً تزيّن جدراناً تلهثُ بياضاً… أين موقع صورة والدي البائسة، المهترئة قدماً…
ألصقت وجهي بزجاج النافذة في طريق عودتنا الذي بدا وكأنه لن ينتهي، سوطٌ ناريّ جلدني سؤال خطيبي المفاجئ..
ألم تلاحظي أنّهم لم يفتحوا هديّتنا؟ ”
ابتلعت غصّتي وانهمرت دموعي ساخنةً تحرق وجهي….