بقلم: زهرة أمهو
تكاد يامنة تلفظ أنفاسها الأخيرة. تخطت الموت عدة مرات. غير أن خوف الأم من الفضيحة كلفها جهدا جبارا لكي لا تخرج الأمور عن سيطرتها.. فكثافة الخيط الأحمر العنيد، الذي لم يغير مجراه ارتعاش الفخذ الضامر، لا تبشر بخير؛ ولم تترك لا نبتة عشبية ولا مشروبا مقويا إلا وأفرغته غصبا في حنجرة الصبية عّلها تسيطر على ارتعاشات الجسد النحيل، ويامنة تأبى التخلص من خرقة كانت تشد عليها نواجذها، مصدرة صريرا يشبه عواء جرو جريح، فقد تكالب العرق والحمى ليزيدا محنتها، وظهرها شحذت سكاكين لعينة لتقطعه إربا، وجاثوم صخرة يرزح على صدرها، تتقطع أنفاسها، تشهق، تلفظ الخرقة، تصطك أسنانها، تغمض عينيها، تستسلم…
– هيا ادفعي، يامنة، أكاد ألمسه بيدي، لا…لا…إياك أن تلميها…افتحي…افتحي… دفعة واحدة أخرى، هيا…
تجحظ عيناها، تغمضهما، تطلق صرخة مدوية…
وأخيرا برز الرأس الصغير.
وفيما يشبه جذبة طائر مذبوح، وضعت يامنة مولودها البكر.
وبطرف عود قصب[i]، قطعت للا رقية الحبل السري، وأفرغت الماء الساخن في إناء حديدي كبير. وشرعت تنظف النفساء، مُمَرِّرة سائلا برتقالي اللون على كافة الجسد المرتجف وهنا. ثم حملت الصغير الصارخ وردِمته بمسحوق أخضر، ثم لفَّته في قطعة قماش قدّتها للتو من ثوب ستارة قديمة. وأخيرا، قذفته في حضن يامنة:
– أرضِعيه! قبل أن يفضحنا صراخه.. عندها، لن تكف الدّيَكة عن الصياح بحكايتنا.
صرخت فيها بصوت مخنوق، زادت من حدة نبرته ما أن لاحظت أنها تتلكأ في الامتثال:
– أسرعي، هيا! وإلا خنقته بيدي..
– ما نعرف يا يمّا…!
وبعينين جاحظتين خوفا، وألم المخاض ينشر رحمها نشرا، جالت ببصرها تتأمل قطعة اللحم الصارخة، أطرافها الصغيرة المتحركة بعصبية تدغدغ حضنها، ولا تعرف كيف تحملها نحو صدرها دون أن تُفلتِها أو تخنقها بين ثنايا الأقمشة الكثيرة التي لفّتها حولها أمها منذ برهة علها تُدفئها.
-إفَتْحي قشابك! … أو..لا.. انتظري…! يا بسم الله!
ودون أن يكف لسانها عن البسملة، دنت منها، وأدخلت يدها اليمنى عبر الياقة الضيقة للقفطان وأخرجت بصعوبة ثديا، على صغر حجمه بدا ممتلأ. ثم حضَن كفّها الأيسر رأس المولود ذي الفم المفتوح كمنقار فرخ جائع. وعلى مهل، دفعته وألصقت المنقار بالصدر الضامر. فنّدت عنها حركة مصعوق، وعضّت شفتها السفلى تكتم صرخة ألم:
– هدئي من روعك! ليس سهلا أن تكوني أُمّا .. انتهى زمن اللعب بعرائسك القصب ..!
وبقيت نظرات يامنة معلّقة بتلك التي كانت تقف فوق رأسها وقفة ملك الموت، عيناها الواسعتان تشيان بالكثير.. شلاّل من الغضب علق في شَرَكِ شفاهها، واستعصت الكلمات عن ترجمة سؤال: ” والآن، من سيلعب دَوْرَ الأم لعرائسي القصب..؟.”
كما الخوف أخرس لسانها، الثدي كتم صراخ الرضيع. فشرع يحرك شفتيه الدقيقتين، يشحذ لسانه الصغير ليمص بنهم حَلَمة ثديها الغير مكتمل النمو. فأحست دغدغة لذيذة أنستها المعاول التي كانت تفتك بأحشائها. ومستمتعة، تعتري محياها الممتقع مسحة رضا، خفضت نظرها، واستغرقت طويلا في تأملها لذاك المخلوق المتشبث بصدرها كما يتشبث الغريق بقشة. وغرقت في تأملها مسُحوبة في بحر من التيه، أفقدها الاحساس بذاك الكائن الوردي الضئيل المستمر في مص صدرها.. أفكارها وروحها.. وكأن الزمن قد توقف في لحظة معينة.
فقبل أشهر خلت، درءا لعار الفضيحة، حبست للا رقية يامنة بغرفة مظلمة بالسطح، بمنأى عن العيون المتلصصة. إذ، ما أن برزت البطن واستدارت بما يكفي لتستثير فضول الألسنة، كفّ الأب عن زيارة غرفتها حيث كان يشاركها اللعب بعرائسها القصب.
[i] إشارة إلى عادة قطع السرة بواسطة عود القصب في بعض المناطق المغربية