الكاتب محمد أسليم/ المغرب
استحوَذَ عليَّ الهلع، قلبي يدقّ بضربات مسموعة، كما في الأفلام، في اللقطات التي تنبئ بوقوع كارثة، أو في شَريط Enigma الموسيقي، في ذلكَ المقطع بالضبط الذي ينسحبُ فيه صوتُ المغنية لتعوضه ترنحات نشوَة الإنزال مَشفوعة بدقات القلب المسموعة، وهِجرة بُذور الحياة وسَط خَرير عيون السرِّ الأنثوي الجارية… وفي غَمرة ذلك الهلع والصمت الموقَّع بنبض قلبي، في غمرة تلكَ الوَحدة القاتلة التي لم يكن يُرافقها سوى الجثة العَارية، اجتاحتني رَغبة لا تقاوم: لفَّت اللحمَ العاري مُسحة سحر وجمال أكبر مِن أن تقاوم، اشتعَل سرِّي رغبة وتوهَّجا. ساقتني قدَماي، من غير استئذان، إلى الجسد العاري الممدَّد، دنوت من عَتبة الضَّريح، صدَّني صوتٌ بداخلي:
قال: أتستمني؟!
قلتُ: كيفَ؟
قال: ستضاجِع أنثى مَيتة، ومضاجعة الموتى استمناءٌ مَادام لا يستفيد من الجماع – خلال هذا الضرب من المواقعة – سوى فرد واحد، هو الحيّ. لا يمكن أن تتمَّ هذه المضاجعة إلا من قبل فرد مغبون. والعَملية أسمى تعبير عَن الغبن الذي يلحقه المجتمع بالفرْد المضاجِع. جثة الميت هي – بمعنى ما – فتاتٌ يلقيه المجتمع فوق المائدة ما دامت تنبَذ بعد الموت، وحينما يجامِع رجلٌ حيّ امرأة ميتة، فإن الأمرَ يتم كما لو أنه يقنع بذلك الفتات، يخضع لقوَّة المجتمَع القاهرة، في لحظة يتعرَّى فيها الكائنُ.
قلتُ: بالفعل، مَن يضاجع امرأة ميتة لا يَفعل شيئا آخر عدا أكل فتات مَائدة انصرف أصحابها وألقوا بفضلات الأكل إلى المزبلة. أي شَيء نفعله بالموتى غير أننا نلقي بهم في مقبرة، نبعدهم عن أحياء الأحياء، ننقلهُم إلى خَارج مدارات الأحياء؟! يا له من سلوكٍ غبي! يخصِّص الأحياء للأموات «إقامات» على هامش إقاماتهم [=الأحياء]، هي المقابر التي تقع دائما خارج المدينة (مع ملاحظة أنه بتقدم الزَّمن واتسَاع المدينة يَصير مكان المقبرة يقع وسَط أحياء الأحياء، وآنذاك، يكتَبُ الأحياء في باب المقبرة عبَارة: «ممنوع الدفن هنا»). وباستحضار حقيقة أنَّ الإنسان «الأوَّل» كان يَعيش وسط الغاب، بينَ الحيوانات، يمكن القوْل إنه كان حيوانا، كان عضوا في مجتمع واحد يتألفُ من الحيوانَات وبني الإنسان. ولكن حدَث أن خرَج الإنسانُ من الغَاب، وحصَّنَ نفسه داخل مُدُن، تاركا الحيوانات تعيشُ في الغابة. هَذا الخروج يمكن اعتباره إقامَة على هامش الإقامة / المجتمَع الأصلي، يمكن اعتباره إقامَة في مقبرة، وبالتالي فالمدُن لا تعدو مجرد مَقابر للغَاب، وبنو الإنسَان بداخلها بمثابة أموات دَاخل مَقابر.
قال: فليكن، لكن إن تضاجعْها لنْ تتمَّ هذه المضاجَعة إلا داخل فضاء / إحساس مسروق، مشوب بالفزَع، لأن للمجتمع عينا لا تنام كعيُون ثلاث: عينُ الله وعين الصبي وعين الفنان:
عينُ الله لا تقتضي شرحا نظرا للطابع البذيهي لحقيقتها.
أمَّا الثانية، فمتى وقفنا عَلى حقيقتها انتابتنا دَهشة لا تقاوَم من هؤلاء الكبار المقيمين بيننا، الذين نستصغرهُم (وهم الأطفال). فالطفل يمرّ أمامه مشهدٌ ما، فنخالُ أنه لم يفهمه وبالتالي نسيَه، أو أنسَينَاه إياه أو فوَّتنا عليه فهمَه، من خلال تزْويدنا إياه تفسيرا خاطئا للمشهَد المعني، مَا لم نلجأ إلى قمعه بإحدَى الطرُق التي نراها ملائمة. نخال أنه قد نسيَه…، لكنه ما أن يكبر، ما أن تفصل مَسافة زمنية بيننا والطفلَ والحدَثَ حتى يعيد إلينا صبيّ الأمسِ الحديثََ بكل تفاصيله. والمظهر الأكثر قابلية للاستشهاد، في هَذا الصَّدَد، ما يَكتبه الأدباء عن طفولتهم، إذ يَكشفون عن أشياء تهمّ آبَاءهم ووسطهم الطفولي لم يخطرْ لوالديهم عَلى الإطلاق أنَّ أبناءهم سيتذكرونها في يومٍ من الأيام. بهذَا الصَّدد يمكن المضي بعيدا وافتراض أنَّ للطفل ذاكرة يمكن نعتها بأنهَا غريزية، بواسطتها يتذكر – لا شُعوريا – أشياء تعود إلى طوره الجنيني، كَأن يكون أحبّ المأكولات إليه فاكهة مَّا، ثم نقف فيما بعد على أنَّ الفاكهة نفسها كانت أحبّ الأشياء إلى أمه أيَّام كانت حُبلى به.
أما عَن عيون الكتاب، فيمكن افتراض أنَّ هؤلاء أنفسَهم إنما هم عيونٌ مُستصغرة داخل المجتمع. ووضعهم الاعتباري، من هذه الزَّاوية، يشبه إلى حدّ بعيد وَضع أطفالنا بيننا، إن لم يَكن نسخة أخرى منه. وجْه الشبه يكمن في أنَّ أناسا (حكاما، سَاسة، أو مجرَّد أفراد عَاديين، أو الأصناف الثلاثة بكاملها) يتصرفون كمَا يحلُو لهم، معتقدين أنَّ كلَّ شَيءٍ يطويه النسيان، ولن يُتذكَّرَ فيما بعد. لكن مَا أن يمضي ردحٌ من الزَّمَن حتى يطلع علينا أدِيبٌ برواية أو قصوصة تعيد سرد المشهد / الحدث / التصرّف… بكل تفاصيله. أكثر من ذلكَ، تعيدُه مُغلفا بطابعٍ وجداني، يحمِّل المشهدَ سُخرية أو نقدا أو إشادة…
قلتُ: كيف يمكنُ النظر إلى ما يفعَله المؤرخ بالمقارنة مع ما يفعله الكاتب؟
قالت: المؤرِّخُ يُعيد وصف المشهدَ أو الحدث، في أغلب الأحيان، ليحفظه للأجيال القادمة. يدخله في صلة مع الزَّمن، يحاول أن يضفي عليه طَابع الديمومَة. كأنه يقوم في ذلك بردِّ فعلٍ تجاهَ الموت / النسيان. كأنه يقولُ: «مررنا من هنا، وفعلنا كذا وكذا، والشاهدُ عليه كذا (مصنف التاريخ أو المعالم التاريخية. بهذا الصدد، فإن كلمة «معالم»، بمعنى «repères» لا «آثار = monuments»، نفسَها تظل محمَّلة بدلالة، ومع ذلك يظل من المفيد البحث في المعنى الاشتقاقي للكلمة اللاتينية الثانية نفسها عسَاه يصبّ في هذا الاتجاه). كأنَّ الحياة والفضاءَ والزمنَ صحراءٌ من شأن الإنسان أن يتيه فيها. ولكي لا يتيه، فإن المؤرِّخَ يَضع أمامه معالم. وبالنظر إلى أنَّ البعد الزمني يغيب في المعنى الحقيقي لكلمة «معالم»، إذ تقتصر في الدلالة على المكان، فإنه يمكنُ اعتبار الكتابة التاريخية محطات للإقامة. كَأن البشرية في رحلة داخل صَحراء، وما يوقفها للاستراحة أو الإقامة إلا مَعالم التاريخ. من هذه الزاوية، يمكنُ إعادة قراءة الأحداث التاريخية انطلاقا من السّؤال: ماذا تمثل الحقبة كذا من تاريخ الشَّعب كذا (أو البشرية) بالقياس إلى ما سَبقها من أحداث ووقائع؟ هَل هي استراحة أم إقامة؟ نعرفُ أن شعبا مَّا هو (أو كان) في حالة استراحة عندما نقيسُ ما سَيفعله في ما سيأتي من الزَّمن، داخل المعلَم الذي يحطّ فيه؛ عندما نقارنُه به. فإن حققَّ قفزاتٍ، تجديدات، ابتكارات، إضافات نوعية لما جاءَ به سابقوه من بني شعبه أو من بني البشَر قاطبة. ونعرفُ أنَّ شعبا ما هو (أو كان) في حالة إقامة عندما نقيسُ ما سيفعله في ما سيأتي من الزمن، داخل المعلَم الذي يحطّّ فيه؛ عندما نقارنه به، فنتوصَّل إلى أنه لم يأت بجديد يُذكَر. جَميع شعوب الأرض تهتدي إلى مَعالم، فتقيم فيها لحظة تطُول أو تقصر، تسكن فيها، ثم تغادرها إلى مَعَالم أخرى جديدة…
كنتُ أقـولُ: إن للمجتمع عَينا تظلّ يقظانـة سَهرانـة
حَريصة حتى على فـُتَاتها. ومتى ضُبط فردٌ مَّا متلبسا في هذا الوضع قادَه ذلك حتما إلى السِّجن مَا لم يقده إلى الإعْدام. وعندما يحاكم المجتمع المضاجِع أو يعدمه، فإن كلَّ شيء يتم وكأنَّ هذا المجتمع نفسه يبث رسالة مُزدوجة: يخاطب الظنين فيقول له: «لا تحسبنني أبخس قيمة أي شيْء مما أملكه حتى ولوْ طاله البلى والتلاشي وأشرف على النسيَان؛ ففتات مائدتي نفسه تظل له قيمة كبرى عندي»، ثم يخاطب حشدَ الأحياء، باعتبارهم أظناء محتملين، قائِلا: «اعتبروا بهذا. من تسوِّل له نفسه إتيان ما أتاه [هذا] فليعلمنَّ أن المصيرَ نفسه ينتظرُه».
قلتُ: معناه أن المجتمع ملاَّكٌ بخيلٌ، بل إنه لا يفطن إلى بخله، فيتجاوز هَذا النسيان إلى تنصيب نفسه عَدلا أو حكما، بيد أن عدلَه يتبدى أعْرج.
قـالَت: كيفَ؟
قلـتُ: إنه يُنَصِّبُ نفسه حَكَما بين طرفين، يجعل من الإثنين – الحي المضاجِع والميت المضاجَع – ظالما ومظلوما، غَابنا ومغبونا، ثم يعاقبُ أحدهما. وبمعاقبة هَذا يخاطبُ ذاك قائلا له: «قد انتقمتُ لكَ منه»، ساعيا إلى بثّ إحسَاس مُزدوجٍ: الشعور بالارتياح لاستعادة حق مَسلوب، هُو حق التصرف بالجسَد، حقّ المرء في أن يمنحهه لمن شاء ويمنعه عمن شاء، وهو ما سَلبه المضاجِعُ الحيّ من المضاجع الميت عندَما واقعَه دون استشارة ولا استئذان. ثم الإحسَاس بالرضى لوجُود أبٍ حامٍ، هو المجتمع بترسانة ضوابطه وقوانينه، يشمَل أبناءه بالرعاية، ويصدّ عنهم كلَّ ظلم، وذلك سعيا إلى توليد مزيدٍ من الرغبة في مواصلة الحياة ضمن المجتمع، ضمن الثقافة و، في الآن عينه، توليد مَزيدٍ من الرَّغبة عن الحياة ضمن الغاب، ضمن الطبيعة، ضمن الغريزة. لكن أمَا علم أن المظلومَ المزعوم، وهو الميت، مُذْ غادَرَ هذه الحياة ما عادَ يربطه بالعدْلِ، والحَكَم والظلم والارتياح والرَّغبة إلا السَّديم؟! فعندما يموت المرء، يكفّ عن أن يكونَ ملكا لنفسه، يتشيأ، يصيرُ كالأحجار المودَعة في الطرُقات، كالأشياء الجامِدة التي نؤثث بها منازلنا. الأحياء هم أيضا لا يملكونَ أنفسهم، هم أيضا أشياء، ودائع في هَذا الكون، إلا أنهم – بخلاف الموتى – يملكون أنفسهم مَاداموا يتحركون في المكان، ويملكون بعضا من سلطات القرار والإرادة. وعَليه، لا يليق بنا – نحن مَعشر الأحياء – أن نتساءل: كيف سنكونُ بعدَ الموت؟ بماذا سنحسّ؟ هل سنتذكر الحياة أم لا؟ أو نقول: «يجب علي أن أفعل كذا الآن لكي أكون كذا بعدَ الموت»، لأنَّ مثل هذه الأسئلة والأفكار لا تطرَحُ إلا من مَوقع انسدَل بينه وبين الموت حجابٌ أبدي، بل إن التفكيرَ والكلامَ والنظر والشمَّ واللمسَ والسمعَ…، كلّ ذلك حُجُبٌ بيننا وبين الموت. وعليه، فمَا يليقُ بنا قوله كلمَا حضرتْ فكرَة الموت في أذهَاننا، أي كلما تذكرنا أننا إلى الموْت آيلين، مَا يليق بكل واحدٍ منَّا قوله هو: «أنا هنا وكفى».
في الصَّبَاح الباكر استيقظتُ على صوتها، كانت تئنّ تحت جروحها، فرحتُ، نظرتُ إليها، هالني منظرها، انقض علي خوفٌ رهيبٌ، أخذت فرائصِي ترتعِش، قلتُ في نفسي: «محظوظٌ جدا لأنك لم تقتلها»، لكن حظي سرعان ما تبدَّى أعرج، ارتدَّ إليَّ السّؤال: «ماذا لو انقلبتْ عليكَ؟»… قبل أن ينضج أي جَوَاب في ذهني، اتجهتُ إلى المطبخ. هناكَ، هَالنِي حشدُ ما رأيتُ من العلب والقنينات المصفوفة في الرفوف. دَنَوْتُ منها فإذا كلها مُستحْضَرَاتٌ طبيعية من الأعشاب، كتِبَ على كلّ منها اسم الدواء، ولأي داء يصلح، وكيفية استعماله… غرقتُ حَسرة على ما عاناه بشرٌ أمثالنا – سَابقون لنا – كان السَّعي لوضع حدّ لآلامهم هُو الأصلُ في وُجود كلّ الوصفات التي دَخلت هذه القارورات. كأن الإنسان مختبرٌ للأمراض. بمقدَار ما يوجد هنا، وفي النوزوغرافيات الطبية، من أوصَاف ووصفات كان هناكَ من أمراض. إن إلقاء نظرة واحدة عَلى أي كتاب من كتب الطبِّ، ولو كان مجرَّد مصنَّفٍ للتداوي بالأعشَاب والنباتات الطبية، لتكفي للتمزق حسرة على ما عاناه بشرٌ أمثالنا. وإذا كان العلاجُ ومحاولته لا يأتيانِ إلا بعدَ حلول المرض، فلنا أن نتصوَّرَ كم أمراض عانى منها الإنسان. بتعبير آخر، إن وراءَ تقدّم معرفة الطب والبيولوجيا بجسَدِ الإنسانِ، وراءَ تقدّم طرق تشخيص المرَض، وراءَ تعدّد الأدوية يقبعُ كونٌ من معاناة المرضى الذينَ لولاهم لما كان ذلك كله.