الكاتب: محمد ابن المهدي / المغرب
إستيقظ أردم من نوم سحيق وقت السحر. ندت منه حركة تلقائية سريعة. فوثب من مضجعه ليتأكد ما إذا كانت السماء على عهدها بالأرض بما ثبته من الماء. إطلالته الممتدة خارج النافذة وتحرّيه الأجواء ينمّ عن الحالة الطبيعية الهادئة. أجج المناخ المعتدل من شكوكه مما جعله ينبري لرّائحة النابعة من الأرض التي يخلفها إحتكاك المطر بالأرض. وأضحت النتيجة خلاف ما تعرض له قبل قليل من مشاهد غير مألوفة. وعاد إلى سريره وظل متربعا عليه، مشتغلا بتحفيز ذاكرته التي سعت إليها الفوضى، منتظرا منها العناية الفائقة لرقة الخيط الفاصل بين الحلم والواقع، فلا يترك المجال لعالم يجسر على الآخر. فتحول إلى أسير لمقاريض الشك والريبة. إدراكه المتأثر بطوفان من الأحداث المتراكمة التي يستوي فيها الماضي والحاضر، والتي من كثرة تداخلها وتشعّب مواقع إنبعاثها خلفت تماسا بين عالمين منفصلين ومتعانقين. الأمر الذي جعل الصبي حائرا في مسألة العالم الأخلق بالإجتباء ،أو بالأحرى العالم الذي يمثل الواقع. وبدأ يشك في ذلك الإستيقاظ الملطخ بالضياع، ومن غير المستبعد أن يكون جزءًا من أحداث لا تستثير ذاكرته لتحدّد موقعها من العالمين. قد تكون أحداثا نُسجت في يوم لا يتذكره، ومن الجائز كذلك أن لا تغادر حدود الإحتلام، ويحدث أن يستيقظ أردم في سابق عهده بأحلام مزعجة، فيكتشف أن الإستيقاظ الذي خاله نهاية لكابوس أو نهاية لحلم جميل ما هو إلا بداية جديدة يخوضها في أحضان الحلم نفسه. ويزداد حيرة إذا تم له الإستيقاظ الواقعي، ويصاحبه صداع يلغي كل عملية تروم الحقيقة المحسة. ويقترن الصداع بإحساس وكأن جمجمته خالية من الدماغ الذي يناط به عادة ما هو عصي من أمور الإدراك. وتقوى حيرته وتزداد بأسا إذا حال القماش _الذي تغطي به الشبابيك لتمنع نور الشمس الساطع من الإنسياب_بينه وبين معرفة الزمن الذي تكشف عنه حال السماء. منذ إستيقاظه لبرهة خلت تكونت لديه القناعة التي لا يخالجها الشك في أن الذي حرشه للتضحية بالنوم المريح، حلم مزعج. وأن مكمن الحيرة فيه، إمتداده وإنسلاخه عن إطاره المصون بسياج من النوم الهنيئ. فوضوح الحلم وصفاؤه يجعل اللبس سيد المقام. والذي لم يعزب عن ثانية خلال ما تعرض له في يومه بتفصيله ودقائقه من بدايته إلى نهايته دون خرق خارجي لنسق الأحداث المنتظم. كان حدثا غريبا زعز كيانه الرقيق، لا يفصله بالواقع إلا جدار رقيق في صورة نوم عميق. ومن الممكن كذلك ألا يفصله عن الحلم إلا جدار رقيق في صورة نوم عميق. وما أضفى علي الأمر الإهتمام الذي أُجبر من أجله أردم على الميول في المغالاة فيما تلوّح به القضية من أوجه الإلغاز، سكناته وحركاته ونظراته التي إندمجت في الدور إندماجا فيه من وضوح الأحداث وصدق الشعور ما يفوت الواقع المرئي المعاش. وزاد طمعه للنّهل من هذه الحقيقة المتداخلة، ما إستمر الصراع بين العالمين أيهما ينعكس على الآخر. فكثيرا ما يلتقط جزئيات صغيرة من الحديث الذي يُهدَر في سبيل رسم معالم القدرة والتأثير لعالم الأحلام على الواقع، فمن عجائبه إعطاء صورة طبق الأصل عنه واقعا ملموسا عبر رموز معلومة متبعة في دحض كل عملية لبس تحول دون الإستيعاب العاجل لما يتركه هذا المنام من بصمة آمل متأملة، أو من بصمة شر يراد بها دفع صاحبها لسد كل السبل التي من شأنها أن تورد له الشر بناء على ما إنجلى له من الرمز، ويراعى في ذلك موقع الشخص من آهات الحياة ومسرتها، ويؤخد بمقياس الأخلاق كمقوم تبنى عليه الصورة المنتظرة. والإصطدام في هذه الشأن بالنسبة لأردم ، تأثير كلا العالمين في الأخر بشكل أو بآخر. فالواقع ينفث تحركاته الحية على صورة توشك أن تبلغ حيثياته الدقيقة في ميدان الأحلام، لا مراء في هذه بالنسبة لأردم. فاللعب المتواصل الذي يلم به نهارا يصطحبه ليلا فيما يرى النائم، لكن بصورة متقطعة ومتداخلة لا يتبين رأسها من ذيلها. فما شهده أردم في منامه من قتل وإعتداء وخوف كلها أحاديث تتناولها النوادي النسائية على مسمع من الأطفال، يلتقطونها بوعي أو دون وعي وتتحول بعدها إلى لون من الأحداث المنامية لا تُسجَّل عليها الهوة الفاضحة بينها وبين الواقع. ويبقى تناسق الحدث وتتابعه في سيرورة زمنية منطقية، وطوفان المشاعر الرقيقة التي لا يزال وقعها على أردم كبيرا، يلغي أن يكون الأمر مجرد لقطة واقعية تحولت بعد غلق الجفون إلى أحلام. والإشكال هنا منحصر في أي العالمين يؤثر على الأخر، ويبسط له الأرضية لتدب فيه الأحداث كإنعكاس لعالم على الأخر، لابد من مرجع يحال إليه ما يبث من ضروب الأحداث في كلا العالمين. وإستنتج أردم من هذا أن عالم الحلم، عالم منعقد في مبدئه الأول على عالم الواقع، بدونه لا سبيل إلى نفاد المعينات التي تفتح المجال للحلم ليباشر عمله. لكن ما أثار حفيظة الصغير وجعل خلاياه الدماغية في شغل يفكرون، هو أن يصدر من عالم الأحلام حدث خارج عن بوتقة ما كان منعقد عليه أول الأمر، وكما هو معلوم هي أحداث تدرك بالحواس المختلفة، ولا سبيل بالتأكيد لرؤية أشياء لا يسعها نطاق الحواس المعلومة. وطال الأمد بأردم محاولا التمكن من مصدر هذه الأحداث التي لا تطالها قدرة الحاسة العاجزة. ولا يزال يقلب أوجه الرأي في الأمر، باحثا عن مطرحه الذي يوشك أن يتيه به بين عالم الأحلام وعالم الواقع، حتى بلغ منه الأمر أن تحدى الأوهام بطلق العنان لذاته بجعلها موضع إصطدام بجدار كان على بعد أمتار منه.
فدب فيه شعور بالألم. تنبض به جنباته الواهنة. إنكشف ثغره عن إبتسامة نابعة من كيانه الطفولي البريء. وتيقن أن طيف الحلم المزعج هو من أقحمه في عتمة الأوهام. خيم عليه الليل كله. أعقب هذا الإنجلاء بركان من أحاسيس السعادة والإنشراح التي أوشكت على أن تسبب له معجزة الطيران. بدأت نواجده الصغيرة تظهر من فرط ما داق من حلاوة النصر على المنام الخطير، وتعالت ضحكاته من شدة الدهشة ومن العبث المقرون بالحياة، الذي ما يفتأ يداعب الناس ثم يرمي بهم في مزبلة الهلاك. وبعد هذا الإستيقاظ المبكر ، وهذا الحبور الذي سيق إليه مبكرا دون حول منه، تناول جوربه، وإنتعل نعاله على نية تجديد أواصر اللقاء بينه وبين حشراته، ولم تكن رقة قلبه العطوف لتسدل ستار الهجر عن تماسك وشيجة المودة والإخلاص بين قلبين إمتزجت أروقة المحبة بينهما. فهو بطبعه المتلهف إلى تزكية ما فقده من الإطمئنان في قلبه هو ما رمى به في براثن الليل البهيم لجلب فتات السكينة من قلب البيت المهجور. ما ثوت حشراته على مزاج من الحياة التي تزدني بالراحة والأمان فذلك هو يوم العيد الكبير على قلبه.