الكاتب: محمد ابن المهدي / المغرب
… إزدرد أنفاسه بصعوبة شاقة، بدت نوبات الوجل تزداد آنًا وتخف آنا آخر. سابق الحياة ليبتعد أكثر وأكثر. لا يدري أين ترمى أقدمه السريعة، مرة ترتطم بالأحجار وتارة تدعس على الأشواك وكرة تمرغ في الأتراب. وضع صنداله في يديه وأخذ يهرول بأقصى ما له وما أوتي من صلابة وقوة. إستجابت له قدميه الحافيتن العاريتين. ترك نفسه وذاته وأحلامه للقدر يعبث بها كيف شاء وكيفما أراد. وأُتلفَت عليه السبل إتلافا، لا يدري مصيره من هذا اللهف والجري وراء المجهول. وأنشأ يتسلق جبال بعيدة شاهقة وعرة. تتجول فيها الموت بحرية وسلطة، وإنقضاضها عليه رهين بحظه القائم على مزاجها من عدمه. وفي ملبسه قطرات حمراء مثناترة كأنه تناول لتوه قطعتين أو ثلاث من البطيخ الأحمر. وأسقطت قدمه الصغيرة على جمهرة من الشوك تأذى من فعلها، وإذا هو يستعمل قسوته البدوية لينظف قدمه من تلك الأشواك المتسابقة لتتشبت بقدمه كأنها سئمت الأرض من قلة المطر. وقلبه يقطر آلما وحزنا ووجعا نزل عليه كالصاعقة لا يدري له مصدرا ولا ردا. وأخذ يبحث في مخيلته الوقاذة عن حل ينتشله من هذه الورطة التي ليس بعدها ورطة ولا عهد له بمثلها أبدا. لكنه لم يظفر من ذلك بشيء. تمكن بعد جهد مضن من خلع الشوك من بطن قدمه اليسرى، صاحبته صيحة متأوهة كلما قطف شوكة من تلك المخشية في قدمه. لكن ليست كتلك الصيحة المؤلمةالتي مزقها اليأس في مقام الضمير. ألا كم يفضل الأولى على الثانية! عقد يديه على ركبتيه وغض رأسه بينها مهموما منبوذا غير مرغوب فيه، وشعر بأن الحياة ترفضه وتبصق به بعيدا عن كنفها كأنه الريق الذي يلقى بحقارة من شدة نثناته. والعرق يتصبب منه صبا، وسَعِدت به رقعة الأرض التي إبترك فيها لتلقيها شيئا من عرقه حسبته غيثا سقط من السماء. صوّب نظراته اليائسة القريبة إلى الحزن والذبول منها إلى شيء آخر، صوْب ذلك البناء الخرب القائم منه على بعد أمتار معدودة. وبات كذلك دون أن يتحول عنه كأنه ينتظر من البناء نطقا أو خيط آمل يذود عنه البؤس. إستحى من البناء وغض رأسه مرة أخرى !!إمتزجت بأجزاء نفسه إنفعالات. وعاود النظر مجددا. سقطت نظرته المترددة على مقاطع شعرية متقطعة غير مكتملة مرسومة بإتقان على ناصية البناء، كأنها محيت من طول الهجر والوداع.
“…. أن يكون رسولا”
“العلم…………….عار”
إستسلم بسرعة لنوبة من البكاء، ألا ما أرهف إحساسه وما ألين قلبه!! وليس بصراخ طفل ذهبت عنه حاجته، إنما الأمر أعمق من ذلك، بكاء صامت ملئه النضج والحيرة والنعي…وليس يعلم مبعث هذه العبرات والإستسلام السريع للبكاء؟ أمن إعتراف صادق صاح به ضميره جراء ما إقترفه من بشاعة الذنب، أم من هجران المدرسة له، وتفريطها فيه. إختلطت عليه الأحاسيس والمشاعر وإستجن عنه كنه بعضها، وتراءى له البعض الآخر. وإحتار حيرة لا قرار لها. أ يحمد الله أن أعتق رقبته من ويل العجوز؟! أم يزداد إستياء وحنقا لنجاته من جانب وتمرغه أكثر في جانب آخر؟ وأضحت النجاة لها ثمن لا يمكن أن يمر مرور الكرام دون أن يدفعه. وكثيرا ما فكر بالنجاة من دفع الثمن بالهروب إلى المدينة ويسكن إلى ركن هناك بعيدا عن فضيحة معلنة أو عقوبة تجره إلى الحرمان من الحرية. لكنه مشفق من أن يترك والدته الفقيرة الضعيفة تناضل البؤس وتكافح الأيام بمفردها. وفي بعض الأحيان تأخذه الأثرة ليعتنق رأيا آخر يرى أنه عين الصواب. ومن حقه كدأب الناس جميعا أن يعيش الحياة الكريمة المخلوقة على قدم العدل هناك في المدن. يتلهف كثيرا إلى تحقيق هذا التّمدن وبدأ يتخيل ذلك اليوم الذي يحمل فيه متاعه، إن كان له متاع. ويتوجه صوب الجنة وينعم هناك بحياة رغيدة طالما ترءات له في أحلامه وطالما قصّها على حشراته وطالما همس بها في أذن حماره.
رفع رأسه الصغير إلى السماء والعبرات تنهل من خديه ببطئ وأناة،كأنما يطلب الرحمة والشفقة من السماء، ومال بوجهه نحو مدرسته التي كان يوما أحد رودها… مهترئةومهجورة، وإرتأى أن يدنو منها… وعلق أصابعه الصغيرة على عمود النافدة ملقيا نظراته بحنق في قلب الفصل الذي إحتواه يوما،وجعل مطرح جلوسه أرقى شيء يستحق التأمل، تبسم بسمة بريئة علقته على بصيص يسير جدا من الأمل، حيث لا آمل يدرك. وأحسن الظن بعدها بالحياة.وإستجاب قلبه لهذا الظن الجديد، لاح من عينيه بريق ساطع.وتألق وجهه بنور مشوش. أيقن أنه ذو نباهة وفطنة، تشفع له في مناوأة بلوى الأيام. إستغرق في اللوح الأسود الذي ما يزال محتفظا بكلمات مكتوبة عليه، حاول أردم ان يقرأ ما كتب عليه… “التعلم حق…..” إسْتلم عقله مهمة إتمام العبارة الناقصة وتلفظ بها في داخله بقوة وإيمان كبير.
تاريخ الواداع لا يزال واضحا مكتوب بصورة متقنة وظاهرة بصفاء ووضوح. يوم الخميس المشؤوم حيث تعطل كل شيء، توقفت الحياة ووقف الأطفال وقفة واحدة حاملين شعار الموت، يتذكره أردم كثيرا كأنه العذاب ولا سبيل إلى نسيان قضيتهم…وكثيرا ما تُلّح نَبْوة الفارق في وجدانه بين من تيسرت لهم سبل المعرفة والعلم وبين قسوة الأمر في وجه البرءاة التي تسكن أكنان الجبال. الأول يفتقر إلى حماسة التبجيل والتقديس للعلم بحيث يتخدها كمسألة روتينية وتكملة بديهية لمتطلبات اليوم. ولا يخفى على أردم أن الملكة هذه، تجد الحياة والنمو ومقومات النماء في عنفوان الجبال ومطارح الشظف والحاجة إن قدِّر لها.
حاول أردم أن يغادر المكان، لكن أنامله ظلت متشبتة أكثر وأكثر بعمود النافذة حتى كاد أن ينصهر الحديد في كفه الصغيرة.قاوم شعور الحنين. تحدى شعور الآسى في باطنه. وجعل يتراجع خطوات يسيرة إلى الوراء ومازلت مقلتيه التي يكسوها البهاء تحوم هناك. تدور وتدور حول البناء الذي لم يبقى منه إلا إسمه الخالد السرمدي… وأبرقت السماء وأرعدت وتلبّدت منبّهة أن الغيوم ثقلت بفعل الماء، ولا بد أن تصرفه وتلقى العبء عليها، ولا تجد إلا الأرض مطرحا تصرف فيه همها وأثقالها. بدأ المطر يتساقط في شيء من الهوادة والروية… ثم تتابعت القطرات في إنتظام وبطء… وبعد لحظات أخذ ينهمل بقوة… وأحس أردم بالنصر آتٍ من السماء، رفع رأسه مواجها المطر بصفحة وجهه فارغا فاه ليتذوق هدية السماء… ما أجمل المطر!! إن ضرب الأرض إهتزت وربت، وأطلقت نسائم لا يدرك عظيم أثرها في النفوس إلا من أختلط بالأرض والجبال…ما لبث أن
لاحت في ذاكرته المصيبة التي بدا أنها ثقلت على ضميره أشد الثقل وأطلق عنانه على إيقاع صراخ الأطفال حديثي الولادة وأضحى بكّاءً شكّاءً رجعت به الأحداث إلى وزنه الطبيعي من مرحلة الطفولة فلا هو يسبقها بملكة الرشد المبكر ولا يتأخر عنها بضعف النمو. وتذكر أن له أم وله بيت ينتظره. أما الحشرات فحتما سيقطع بها الصلة ويهجرها. حيث يُخيل إليه أنها السبب وراء إلمامه بالمصيبة أوالمصيبة هي التي ألمت به. وستلح عليه والدته هذه السامة مرة أخرى لتعرف مكان ضياعه الوقت، والبيت لا يخلو من فرص العمل، فكل ركن يحتاج إلى تنظيف وكل مرتع لا يخلو من قلة الترتيب. وأكثر ما يفزعه أن تشم منه رائحة الكارثة التي أطبقت عليه قبل قليل.
وهم أردم بإسراع الخطوات إلى البيت، خشية ان تقطعه الأودية عن إمكانية الوصول إلى بيته بفعل المطر…ثم توقف بغتة !! وإلتفت بحركة بطيئة في مشهد درامي مؤثر نحو مدرسته… تبللت أركانه وتدلى على جبهته شعر أسود ناصع مبلل، أربى عليه ملاحةً رونقاً… ووكّل إلى أصابعه الصغيرة مهمة ترتيبه ورده إلى موضعه لتصفو الرؤية، أضحت ملابسه ثقيلة بثقل الماء المحمّل عليها ، وصنداله المتقطع صار مُوغِلا في الأتربة والأوحال وأصبح هو الأخر ثقيلا يعيق الخطوات…لم تشبع نظراته التي مازجها اليأس والعشق من إستقراء قلعة المجد والحياة. وإنتهى من شن رمقاته وعاد يشق طريق العودة إلى المنزل… وفجأة!! هرول في مشيته وأفرط في الأمر. خانته قدميه. عُرقل و سقط سقطة في قلب الوحل، إتسخ كله من أمر السقطة، لكنه لم يصب بأذى، وقام من فوره يزيل عنه ما علِّق به. وأخد يدنو ببطئ رفيع ناضج من البناء وعانق ركنه بشدة وكثير من الحب، وأدرف عليه القبلات كأنه أمه.
لا حياة بدون علم… قد إستوعبها أردم كثيرا حتى نخاعه وتفقّه عمقها وتبين الحرمان منها… ألم ترى أن جميع الناس هنا، لا يحسنون الكتابة والقراءة؟! ما السبب إذن؟ وما الفرق الآن بيني وبين تلك الحشرة التي إحتجزتها ! ألا أتشابه كثيرا مع صديقي الحمار؟! نعم… تشابه يكاد يكون في كل شيء، كل منا يجري وراء مادة الإستبقاء فقط، يا أسياد العالم ! يا بشر ! لماذا ؟لماذا؟
وبعد أن تلا هذه الكلمات المؤثرة جال الدمع منه مجددا… وأخد يتراجع رويدا رويدا إلى الخلف وظلت كفه تؤذي حركة الوداع مع ثباتها فوق موضع القلب وسارت قشعريرة في جسده من شدة خشوعه، ومسح عبراته المختلطة بالمطر كأن السماء هي الأخرى ثأترت بدمعة هذا الصبي وبكت من فرط ثأثُّرها به.
تذكر أردم أن له طريقا شاقة وعليه أن يستعجل قبل أن تأخد المياه موقعها من الوديان والجداول.
وإحتقب الكثير من الأكاذيب والكلمات الملفوقة ليواجه بها والدته في مخيلته. وأنشأ وهو في طريقه إلى البيت يتدرب على ضبط النفس ومكافحة الإنفعال. وإستغرب من أمره كثيرا. إلى ساعته تلك
عاجز عن التصديق، كيف إستطاع أن يهوى بيده على بلطة بخفة على غفلة من شيخه؟! أين رمى بعقله ووعييه حين أراد بها على رأس العجوز وقسمه إلى نصفين غير متكافين؟! أمر فظيع حقا! لم يكلف نفسه عناء دفنه وألقى بسلاح الجريمة هناك، وهم بالفرار وهو هائم على وجهه.وكلما تمثل له المشهد تأخذه نوبة من التّشنج والإرتجاف.
ليس بينه وبين والدته إلا مسافة يسيرة ليصطدم بعتابها. ونشأ يتيامن ويتياسر ويعدو مرة ويخف مرة أخرى في عدوه، ولا يدرى شأنه من الطريق أهو مقبل أم مدبر. وأمسى أسيرا لمقاريض الهموم . لم يسبق له أن صنع مثل ما صنعه. ومن هذا الذي صنع صنعته في قريته منذ أن دبّت فيها الحياة؟
ومر على جماعة من العجائز من أهل القرية مستوون على عتبة مسقّفة بباب أحدهم، يستمتعون بالمطر المهيب، ويبسطون الألسن في أعراض الناس. تبسم لهم أردم في تكلف وألقى عليهم تحية الإسلام في عجلة من أمره، كأنه يخشى المواجهة. وتيقن بعدها أردم أن ما تبقى من حياته سيكون كابوسا ووبالا عليه، بحيث لن يحسن التركيز على شيء، إنه ميت لا مراء في ذلك البتة.
أرعده دوي إنتهى إليه من أحد العجائز. هذا الحاج إبراهيم. إلتفت أردم ببطئ وتثاقل يشفق على نفسه من أن تُشّم فيه رائحة الموت.
_أردم ! تعال خد هذه الرطب من يدي.
وقال أردم في سره: هذا وقت الرطب!! وإضطر أردم ليأخد تلك الثمرات ليصرف نفسه عن أعين الشبهة.وشَكر له أردم صنعته. ولما أدبر عنهم قال الحاج إبراهيم لجلسائه :ما أجدر هذا الصبي أن يصيب شأنا كبيرا بعدُ؟ وأجابته الجماعة في أصوات متداخلة ومبعثرة: فتى ذكي! صبي ناضج…لا شك في ذلك.
وإستمر الصبي في طريقه وهو عازم على ألا يتناول الرطب.حتما يحتقبها ليصدقها في يوم من أيام الجمعة هناك عند المقبرة !
تحثّه آمنة على ألا يتناول كل ما يلقى في متناوله في مأكل ومتاع. فهناك من يضمر السوء والخديعة. رغم أنه لا يؤمن بهذه الأفكار إلا أنه يَستحسن حدس والدته فيعمد إلى طاعة أوامرها.
ولا أحد في القرية ينجلي عنه كرم الحاج إبراهيم، يميل كثيرا إلى فعل الخير لا سيما مع الأطفال. أحيانا يتلطف إليهم بحبات من الثمر. وقد يكون في بعض الأحيان هذه الحلويات اللينة الجديدة على أطفال القرية التي يبتلعونها في تنافس وينشدون فيها اللذة. غالبا ما يأتي الحاج إبراهيم بهذه الأشياء كلما سافر الى خارج الوطن. الذي لا يعرف أهل القرية عن هذا المكان إلا إسمه، وما يلبثون يتفاخرون به ويتلذذون في نطق حروفها… فرنسا… فرنسا !! بمجرد أن تتبلّغ إلى أسماعهم يصورنها في مخيالتهم البريئة أبعد تصوير. وغدت فرنسا بعد هؤلاء فرنساءات متعددة ومتنوعة. وفرنسا هذه يمقتها أردم أبلغ المقت. ولا يحب حتى أن تُستأذن أحرفها على أذنه. لأنها فرّطت في جده من جهة والدته وقتلته تقتيلا. وعلى بعد مسافة قليلة من العجائز إنتشرت جماعة من الكلاب مستغرقة في الراحة والإستجمام. تمنى أردم لو يستطيع أن يستأتر لنفسه عن مكان أحد من هؤلاء لفرط ما نزل به.وهذه أقصى متمنيات اليائس والمركوب، رغم حقارتها ودونيتها إلا أنها في الآن ذاته أرقى وأجلّ لإستحالة بلوغها.
توقف أردم عند الباب قليلا ليأخد نفسه على جيزتها. فأصلح عليه ثوبه. لكي لا يلفِت الشكوك حوله. وتأكد من نظافة ثوبه من شذرات الدماء التي علقت به. ونشأ يشهق ويزفر ثم أتى بحركة دفَع بها الباب الخشبي الكبير. وألفى والدته آمنة فرغت من تجهيز وجبة من الوجبات. لا هي بالغداء ولا بالعشاء، وإنما هي شِبه وجبة تتوسط هاتين الوجبتين. هي عادة بعد صلاة العصر بساعة أو بعض ساعة يكتفي فيها الناس بالشاي ومعها صحف من العسل والزبدة وشيء من الخبز وبعض الأحيان قليل من حلويات مصنوعة في البيت. حدجته والدته بنظرة حادة وسبقته قولا وهي في غاية الفوران والحَرَد:
_أضحى الحمار أحسن منك يا حمار! لماذا تركت الحمار في نصف الطريق؟ أقنعني ولا تفتري، إن عجزت، لا تتفوه بشيء!
_أنت تعلمين جيدا أين كنت!
_وما شأني بذلك! ما يهمني أن تكون مسؤلا وتتحمل التبعة الملقاة على عاتقك.
إزدهاه الصمت، لم يحر جوبا. يشفق من أن تنزلق منه كلمة تودي به. قد يضطر أمه إلى إرتكاب جريمة على حسابه. آمنة تقتله ولا تسلمه للعدالة. وأقحمت صفية نفسها كعادتها في الحوار فمن عادتها التعليق على كل شيء ولو كان لا شيء وقالت :
_أشم رائحة غريبة هنا!
هنالك تحرك أردم في شيء من الوقار وعينه على والدته وأخته فوق الأريكة ليبتعد قليلا وأدرك أنه المقصود.
وأضافت:
_أعتقد أن هذا الصغير هو صاحب الرائحة؟
وإكتفى هو بغض بصره كأنه لم يسمع شيئا.و شبح الريبة من كل قول يقال، وكل حركة تُأتى يطارده دون رحمة. وما يلبث تأخذه رعدة دون شعور. وأجابت آمنة :
_أنظري إلى حاله! ألا ترين قطرات الماء تتساقط منه كأنه السحاب. والبلاط مليئ بالأتربة والأوحال. وأضافت أمه في سخرية :
_لا تنسى أن تسقي معك أوراق النعناع التي نال منها الظمأ. طبعا إن إنتهيت من سقي الأريكة!!
فهم أردم قصدها، ونهض من موضعه. وأخد كرسيا خشبيا على قيد ذراع منه وجلس عليه.
ردت صفية متضرعة:
_كل ذلك ثقل جائر يلقى على ظهر صفية المسكينة!
إستسلم أردم لسيال البلوى المثقلة عليه. وإستنجد باطنه وبدأ يتأكل من داخله بحثا عن مخرج لجريمته. ولا تتجاوز الحلول المطروحة عتبة المدينة وأحيانا أخرى أفكار مجهولة ما تعودها عقله من قبيل أن يؤْثر نفسه على الجميع. بمعنى أن يكون أنانيا. أي أنّ كل من تجلت له حقيقة أمره يقتله كما فعل بالشيخ مادمت أبواب سفك الدماء مفتحة. فلا جناح عليها إذن! لكن يجب أن يكون أكثر حكمة وإبدعا،بأن يبتكر وسائل جديدة مستترة لتنفيد الجرائم. شعر بشيء من الطمأنينة والسكينة تجتاحه وبدأ يسترجع روحه المفقودة. لكنه على الأغلب هذا إقتراح إحتياطي لا غير. المهم أن يعد له ما له وما عليه. وسرعان ما شعر بشيء من البغض و النفور إزاء نفسه التي بدأ الخبث يسري في نياطها.
_إنهض يا وغد! وغير ملابسك وإغتسل. وإقصد مباشرة السطح ولا تلتفت لا يمنة ولا يسرة وإصرف الماء عنه.وإن تعرضَت لك ثغرة أو تعرضْت لها فلا تتردد في سدّها.
كان هذا آخر أمر يتلقاه أردم من آمنة ذلك اليوم.
ساد صمت خفيف بين صفية وآمنة. وبعدها قالت صفية في شيء من الحماس :
_أتعلمين! قررنا أنا وعوانس القرية أن نقصد ضريح مولاي ابراهيم لنتشفع عنده لعلنا نتوج بشيء هذه السنة.
وبحركة سريعة آلية رفعت آمنة أكفها إلى السماء وتمتمت في خشوع. ولثمت بعدها أكفها لتعلن عن نهاية الدعاء ثم قالت مجارية حماسة إبنتها :
_نرجوا أن يحفنا ببركته !
وقالت صفية في ثقة :
_لا شك أن دوري قد حان.
وتساءلت آمنة عن سر هذه الثقة المجهولة. وتشفق على إبنتها من أن يغمز لها شخص بهذه الوعود التي تتلكأ ساعة الوفاء. لا سيما وأن فتور إبنتها وتأخر حظها يضعها موقع الضعف أمام هذه العهود :
_أود كثيرا أن أعرف سر هذا الإعتقاد القاطع؟
_قلبي يخبرني بذلك!
_أرى أنك تكثرين من مشاهدة الأوهام؟
_في الحقيقة تراءى لي في ما يرى النائم أني أصبحت زوجة!!
_هكذا إذن ! أكيد أنها من رؤى الشيطان!
وأضافت:
_إن كان الأمر كذلك. أخبرنا عن الأجواء هناك؟
إستجابت صفية سريعا، لما تثيرها هذه المواضيع في نفوسهن من فتنة :
_أما عن جماله فلم أتبينه… ولم تكن بي قوة لأتفحصه من فرط الخجل. ثم تبسمت في سداجة وتوترت حسبت نفسها كذلك… أما عن وضعه فافقر خلق الله…أما إن كنت أعرفه أم لا. فلا جرم في أني لا أعرفه. إنما هو شخص جامد ساكن لين إبترك بجانبي بوقار!
_هذا شيطان يا إبنتي! التوبة يا صفية!
_المهم عندي يا أمي الزواج. ولو كان الزوج قردا لا يزعجني الأمر البتة! ولست كاللواتي يرسمن الأزواج ويأملن أن تتأكد فيه شروط مدققة ليكون صالحا لائقا. فهن أبدا عانسات منبوذات إن ذهبن هذا المذهب.
_لا أشك في صواب وجهة نظرك يا ابنتي. لكن أن تعهدي بأشباه القرود، فأنا لست متفقة أبدا!
قطع عليهن الصبي الحديث. كأن شيء لم يكن. مثل هذه الأحاديث لا تُروى أمام الأطفال.ولا شك انه سمع ما جاء في الحديث. لكنه لا يكترث كثيرا لهذه الأمور.
قامت صفية فور دخوله حجرة الأكل تاركة الحديث إلى إشعار آخر. ضاربة الموعد مع البقرات. اه…جئت! ما هذه السرعة ؟ أنجزت ما أنيط إليك؟
وقال أردم في تحدّ :
_ألا يجوز للمرء ان يلقي في جوفه لقيمات قبل ذلك؟ أراك تكثرين الثرثرة!
إكتفت آمنة بالسكوت. وأحس الصبي بعدها بالإنتصار. تأكد من أنه السلطان هنا وكلمته هي السارية. وبعد صمت مصطنع. ألقت آمنة في أسماعه خبرا سارا نوعا ما بقولها:
_أما علمت أن المعلم قد حل بالقرية قبل ساعات!
_مصدر الخبر ؟
_عجائز الخبر!