الكاتب :محمد ابن المهدي / المغرب
عواء الكلاب وافتعالهم أصوات الذئاب، إشارة تؤسس عليها آمنة زمن افتراق المضجع، فهي آمارة الفجر وموعد الصلاة.
اذ أن صوت نداء المسجد للصلاة لا ينتهي الى اسماع آمنة، لفقر المسجد لجهاز شيوع الصوت وانتشاره في أرجاء القرية باكملها.
توفرها على جهاز واحد يقطع صلة النداء مع كثير من القلوب الحية، وما وجد الناس شيء يوقيظهم غير تلك الأصوات الغريبة المتنافسة والمتفاعلة مع نداء الآذان، لها نغمة خبيثة تعافاها النفوس، وعلى اثرها فتحت آمنة جفونها لإستقبال قدر جديد وحظ جديد.
وبعد ذلك رفعت رأسها في ثثاقل مريع…ثم جالسة جامدة كأن على رأسها الطير…كأنها تشفق من مغادرة مضجها، أو هي كذلك. ثم أمعنت التفكير فيما اذا كانت تستطيع ان تستزيد من الراحة ولو دقائق يسيرة… لكنها رفضت الفكرة كلها، وهمت بالوقوف وقفة كاملة وهي تتمتم في بهدوء.. بسم الله… بسم الله… وبعدها تناولت حدائها الجلدي، وألقت على رأسها لحافا ابيض مزخرف… كأنها تستتر من غريب… ووثبت ثم زادت سرعة وحركة لتقاوم العجز والخور. وضعت صحفة مقعرة من النحاس مليئة بالماء فوق النيران،جامعة بذلك الوضوء، واستعمالات المطبخ….
يا مسلمين… يامسلمين…
الصلاة..الصلاة…
اطردوا عنكم الكسل… أدرفوا اللعنات على الشياطين!!
عبارات ترددها آمنة كل يوم تقريبا، فهمتهم كبيرة، تشمل الصغير و الكبير، هي شيء من العادة المثواثرة، يرفضون الكسل والإفراط في الراحة، والأمر ليس مقتصرا على بيت واحد؛ بل يكاد يشمل جميع سكان الريف.
أردم أول من لب النداء، لم تظهر عليه آمارات النوم، كعادته، سبق الجميع… لكن ظل في فراشه ولم يغادره، فكثيرا ما يفعل، مؤثرا هواء السحر الصافي في السطح عوضا عن ملازمة الأغطية وثقلها.
قلة نومه والأرق المصاحب له، وعمق التفكير أسباب تمنعه من التمتع بالنوم الى موعد انقضائه، أحيانا يلزم فراشه ويسبر اغوار التفكير والتخطيط لليوم الجديد…وفي بعض الأحايين يغادره الى السطح ليأخد الهواء الطيب النقي الطاهر، ويخاطب السماء… ويتمتع بالهدوء الطافح على الأجواء، إلا من قليل النغمات… نغمات الطبيعة. يحادث نفسه، وهو ساخط أحيانا وراض في كثير الأوقات. ويطمئن بقلبه على أطفاله، ويصاحب ذلك كله كثرة التصميم ودقته. ينظر الى اليوم بساعته وبدقائقه وانفاسه كشيئ يشبه الفرصة، ولا سبيل في الخطأ والتلكؤ فيه، فيجب ان تؤخد الفرصة كما ينبغي لها ان تؤخد من جميع الزويا والوجهات.
فهو في عمق وجدانه ولبه العميق الذي لا يدرك ولا يفقه ميزان عمله وتوجهاته ، يُعد الأرضية الخصبة لتغيير قدر ما، ربما قدره هو على سبيل التقريب والتقدير.
ويعلم جيدا على غير إظهاره أو المبهاة به ، أواتخاده مطية للرفعة والغرور السادج ؛ انه مختلف ويخلو من النمطية التي تطبع جل أطفال سنه.
تمر عليه ساعات الليل ثقلية، يواسي نفسه الطواقة الى لعب دوره المعتاد في حلبة الحياة بشيء من الصبر والثبات، الى ان تشرق الأرض بنور ربها.
واستجاب لنداء والدته بحركات خالية من التثاقل والعجز.
ترمقه والدته بنظرات الإعجاب والإنبهار من شدة استجابته السريعة، ومن عدائه للمضاجع وعشقه الواضح للحركة وجدية العمل.
تزعجها “صفية” بثقل الإستجابة، وتهالكها على الخمول وإثارها الراحة والسكون…
يا صفية !! … صفية… أما آنت لك التوبة من الكفر… والعصيان… أ هكذا تستقبلين حظك غدا؟
وترد عليها صفية بصوت متقطع… يغلب عليه التأوه والأنين، وهي تتقلب في فراشها:
_ارجوك يا أمي… لا تحاولي في هذا الموضوع.
_هيا انهضي وكفى… ولا تملي علي ما انا فاعلة، هيا… الفطور ينتظرك.
_انا ساعية وراءك… سالحقك في الحال!!
لن تنبس والدتها بكلمة، غادرت دون زيادة وكفت عن المحاولة، وتركت العتاب الى ساعة الحساب، ساعة يعرف فيه فساد العمل من إتقانه.
أعدت وجبة الفطور ووضعت الصحف والأطباق.
ويلاحظ اول الأمر شمل الفطور على سمات التواضع والفقر… لقلة الطبق الموضوع على المائدة… وقدم الأواني لكثرة استعمالها دون تغييرها بجديد.
ولهم يكثرثون للأمر. فلا هم منزعجون
من الإبرق المهترئ الذي نال منه الدهر واصطبغ بألوان الطيبات المتناوبة عليه…ولا يشعرون بالضعة والنقص من الصحف الكافرة بالنعمة، التي احتكت بها زمنا غير قليل…ولا كؤسا مصنوعة من الطين تثير نفورهم… ولا حتى يلفتون اهتماما للخردة التي يوضع عليها كل ذلك.
ولا يقيسون غنى الوجبة بعدتها ولا بنوعية آوانها، وإنما بما تثيره من منفعة طاقية صحية، فموائدهم لا تخلوا من صحفة العسل الخالص من شوائب النقص والغش، وطبق من زبادي البقر
الطبيعي الذي لا تقتحمه مواد الكيماوي، وبيض طاهر تلتقطه الأيدي من مخرجه قبل ان يلامس مرتع الارض، خال من المؤثرات الضوئية واساليب الفساد. وكؤوس حليب طازج، موضوعة على أطراف المائدة ممزوجة بروائح القطران الفائحة من كؤوس الخزف.
ويتوج ذلك كله بالحيوية والسرور والبهجة التي لا تجد الأمراض والهموم إليها سبيلا، في جو صباحي هادئ فاتر نقي صادق في انسه وحبه، مستجيبا للنويا الصادقة لمن يلفهم بنسائمه المشرقة.
كل شيء متناسق في سلسلة من النواميس والقوانين التي لا تعرف سوى الليونة والتوازن، فلا ذاك يختلط بهذا، ولا هذا يقحم نفسه على ذاك. وتغدوا الطبيعة بما فيها، في غاية التلاحم والترابط جوا وأرضا وإنسا وجنا وجمادا ونباتا وحيوانا.
تلحق بهم صفية أخيرا…. السلام عليكم!!
ردت الأم واردم في توافق :
_وعليكم السلام…
ترمق صفية امها التي لم تنبس بكلمة على غير عادتها بنظرات الإستجداء ، وتقيس ملامحها بدقة وحيرة، لتستدل به على طلابتها اليومية التي تُستقبل بالرفض في غالب الأحيان.
أطلقت الأم اول ابتسامة مشرقة في يومها الجديد، وهي تعبر عن رضاها وصفاء ذهنها بنظرات الفتنة والإعجاب الملقاة على ولدها أردم، والقت عليه سؤلا بنبرة هادئة :
_بما خرج الجمع الأمس في نقاشاتهم المرطونية؟
انتظر اردم إلى ان أبلع قطعة الخبز المختلطة بأنفاسة ليرد بجدية مفرطة كأنه ولي النعمة :
_حقيقة… لا أدرى ما هـَمّ أولئك… قوم سادجون وغافلون…
واستطرد قائلا :
_لم يخرج اللقاء بنتيجة واضحة… كعادتهم ، يؤجلون حتى ينفلت منا قطار الحظ.
استغلت صفية هذه الإفتتاح من أمها لتكشف عن طلبها الذي ازعجها الليل كله، أمعنت التفكير فيه كثيرا الى ان سيطر على عقلها ووجدنها، وتشفق من رفض امها لطلبها، واقتحمت الحوار الدائر وقالت بتردد وكبرياء:
_لي طلب عندك يا أمي… وأخاف ان ترفضي مجددا.
وهي متوسلة :
_ارجوك لا ترفضي لي هذا الطلب… اسالك اللطف… ارحمنا من الشقاء وبؤس العمل.
وردت أمها بقوة وهي تلمس بسبابتها في انضباط مكرر طرف المائدة كأنها تقدم نصيحة ما :
_اما تدركين يا شقية… لولا العمل والهمة والشقاء، لأمسيت موضع إشفاق ونفاق من هؤلاء الوحوش….الحاقدين، عليك ان تحمد الله كثيرا على طيب الرزق، ولا تكثري اللغو والكلام الفارغ.
_ادرك جيدا ما تقولينه!!
ولكن ما جدوى الحياة دون فسحة من المتعة وأخد النفس، و لو ساعات قليلة.
_ليس هناك ما يمنعك من ذلك. تتمتعين وانت راعية!! اين الشقاء من الامر؟ هو أجدى وانفع.
_لكن الأمر كله يشعرني بالملل!!
_إذن أخبيرنا عن الأمر الذي لا يشعرك بالملل والشقاء يا سيدتي؟
قاطع اردم الحديث، مستفسرا من امه قضية الماء، علي خلفية ان القرية ستحضى بنصيبها من مشروع الماء. قائلا غير مكثرث بالحديث الفارغ القائم بين امه وصفية :
_ماذا سيكون موقفنا من مشروع الماء؟
ردت صفية بحنق، كانها غير راضية عن الإستهانة بطلبها :
_سؤال سادج. موقفنا من موقف الناس.
واكتفى اردم بنظرة باردة إليها منتظرا الجواب من أمه. عاقبت آمنة على جواب ابنتها قائلة:
_أعتقد اول الأمر اننا ينبغي ان نتظر ما ستسفر عنه الإجتماعات المنعقدة بين رجال القرية، قبل ان نرى ما اذا كنا سنحضى بالماء.
واردفت على قولها :
_من جهتي لا أرى أمر الماء مهما، فالأبار تكفينا.
ضحك اردم من قول امه، ثم رد عليها في قوله:
_أما تشفقين على الحمار يا أمي، وعلى ابنك. إني لا أكاد انتهي من رفع الماء من البئر حتى اشعر بعظامي منفلتة، خلا الإنتظار من ان تستقيم الأجواء ويخلو المكان.
_أعتقد يا بني ان الحمار ينتظرك… لكن لا لجلب الماء وانما لتوزيع اللبن ،هلم انهض لكي لا تتأخر عن الوحوش…
بات واضحا على صفية انه تريد ان تقول شيئا، قبل انفضاض الجمع، وتمتمت…كلام غير واضح…
وأمها لم تُحجب عنها يوما خلجات الكلام من ابنتها السامة الطويلة النحيفة، وردت امها على تمتمتها: لا اعلم ما تقصدين بكلامك هذا الغير المفهوم، ان كانت لك حاجة فاقبلي بالقول والوضوح.
لكن صفية اعقبت على كلام أمها بأنها كانت تخاطب نفسها، وبدا على آمنة انها تود ان ترد عليها بأنها مجنونة على الحال هذه، لكنها امسكت عن ذلك، اتقاء لسوء العاقبة.
أردم لا تخفى عليه أسرار أخته، وما هي مولعة به من متاع الحياة، طلبها الذي تلح به قبل قليل على والدته، يدرك كثيرا كنه هذه النوعية من الطلبات النسائية، خاصة في الريف، التي تنعدم فيه مقومات المتعة والنشاط.
ونهض اردم وقد نال حظه من الطاقة والرشاقة ما يعينه على رحلة اللبن.
قبل قصده الحضيرة ،قصد اولا المطبخ ليغسل يديه، وطلب من صفية ان تدرف الماء علي يديه بواسطة الكوب،وبعد ان نظف يداه بصق في الإناء الحامل للدرن وبقايا الفضلات، وضربته صفية بحركة لا إرادية فوق كتفة… لا تبصق أمامي يا هذا… فضحك أردم… استشاطت صفية غضبا من برودة هذا الطفل…. وهم بالقول في سحنة شيطانية واثقة حاشرا شفتيه في اذنها :
_لا تقلقي يا صفية… ستشاهدين حلقة اليوم !!
وبدأ يضحك بصخب وشعور بالفوز… استنكرت صفية قوله، وليس براضية باطالعه النافد عن طويتها.
وقالت في سريرة نفسها :”لا يهم، المهم سأجد طريقة للخروج من البيت ومشاهدة حلقة اليوم من المسلسل”
انطلق بعدها اردم ليعد العدة ليباشر مغامرة توزيع اللبن…