الكاتب :محمد ابن المهدي / المغرب
سبق الحمار الطفل أردم بخطوات قليلة، كأنه مجذوب بدافع الإشتياق والطوق إلى إستئناف العمل ومعانقة الركود. فالعادة والعمل الرتيب يرسم بكل تأكيد خريطة الطريق ويخطّها في ذهن الحمار، الأمر الذي يعصمه من وقعة الخطأ في إختيار سبيل الصواب. وتكرار العملية مرة بعد أخرى هي التي تطبع إهتداء الحمار للطريق دونما مرشد. ولا أخال أن يسقط عنه ما ألصق به من الغباء والسهو بدعوى الإهتداء وشق الطريق من غير قيادة ؛ لأن العملية المكررة هي التي تشعل لهب الإنتباه وتوقيد الذكراة في طبيعة الحمار، وليس ذهنه على إستعداد ليجاري هذه العملية وأن تأخد موقعها بطابع التعقل والتفكير؛ إلا بعقوبة العمل ومشقة التكليف.
فهو يقف حيث يقتضى الوقوف، ويستمر المسير حيث تنبغي المواصلة من غير موجه، وأضحى هو القائد الفعلي لكل عملية تقام بمعيته، كأنه يراعي الشرود والغفلة المرسومة على أردم، محاولا في الآن ذاته كسب الرضى ومزيدا من التقدير والإشادة لدى صاحبه، ويجهد نفسه في الإتيان بالجديد وقتل نمطية الإدعان للأمر.
وتبعا لإستقلاليته(الحمار) في القيادة والعمل فهو بذلك يضمر إحتراما عميقا وجليلا لإنصراف اردم عنه بالتفكير والوجد، ويترك له فسحة من الإنغلاق وإمعان النظر في ما قد يتصل به من التغيرات مستقبلا وتحديد موقعه من العالم التي أخد في الإنسلاخ من هويته وعاداته.
وقد يتبين من ذلك محاولته تأكيد نقيض الفكرة أو العرف القائل بأن الحمار غافل وسادج بخلق تصرفات توشي بخلاق ما قيل عنه؛ وبأنه يدري تماما ما يحاك ضده من قبيح الكلام واستهزاء القول.
وهذا مما لا شك فيه يثير في وجدانه القلق والتعاسة، و يحرك مشاعره تجاه اليأس والإنقطاع. وأكثر ما يترك تنغيص الإحساس والإستخفاف بالمشاعر في طويته ؛ أن ضُرب به المثل في كل إنسان غبي وسادج بضرورة اكتسائه صفته وطبعه.
ولا يستبعد أن تكون حيلة تبنّها هذا الحمار الفطن، وعينه في أطماع التبن ومخلفات الأخباز ومتخليات الألبان.
هم أردم بالمضي على إِثْر حماره بعد أن حمّله ما حمّله من بضاعة….ويدخل بذلك تحت جنح الغفلة والمشاعر الغامضة والأفكار المجهولة لمقته لهذا العمل، فهو لا يتلذذ به ولا يهضمه. سنتين فقط كفيلة بخلق عدواة حميمية مع اللبن.
سحنته المنكسرة والمنكمشة ونظراته الحادة القلقة؛ تطلعنا على طفل آخر غير ما عهدناه منه من الذكاء والفطنة، فيه جانب مظلم خبيث مطمور في سليقته الأولى، حبة إنبجست من وجدانه وضميره بدأت تأخذ حيزا فاضحا في شخصيته، تخرجه عن طوره وتغادر به عن قالبه الشائع بين الناس.
شرد به شظف العيش وإسترسل في أفكاره المتدفقة كما ينفلت البركان من سلطان الأرض، لم يلقي البال لحماره، فهما صديقين منذ سنتين، يتنفسون نفس الحياة ويجتمعون على الهم عينه. أفرط في سبر أغوار التفكير والأحداث، مر زمن غير قليل في قطعه الصلة مع المدرسة، زُلزل كيانه أناذاك، وطرأت عليه خطوب كثيرة؛ لمّا أجبره الظرف على مغادرة قلعة الأمجاد والأحلام.
وقد يكون ذوي الأطفال أسقطوا الجور والظلم على فورة وليونة العقول الصغيرة في إستقبال حظهم من العلم بالمساهمة المنهزمة في التخلى عن حقهم الفعلي، وفي الوقت نفسه ألقو بهتانا وافتراء على الظروف؛ التي يتخدها الناس موضع المتهم الأول والأخير. و لا تنطلي على أردم هذه التكهنات والفرضيات وحتى الحقائق المنجلية تحت لواء الستر والخفاء. فهو يدركا إدركا لا يدركه، مطمور بداخله ومخزّن في ذاكرته البعيدة، منقطع السبيل الى الثورة والعصيان؛ بأنها لعبة محاكة ومدبرة تستهدف طفولته وتريد به المسافة المسافة مع كل حرف ينقله من الظلمات الى النور.
وما أرى إلا إِنْ أظهر عن الحقد والأحاسيس الجنونية التي لا فرق بين ألوانها وأشكالها مسخرة بالدهاء والحيلة، سيكنّى بتتويجين مختلفين، فيه شيء من الأمل أو تُخلق له صفوة المتاعب.
اتصلت خطواته البطيئة المترددة بالتي عند الحمار… وبدت ملامح منزل كبير قصير خال من الشرفات بباب خشبي كبير عملاق قديم العهد، توقف الحمار عنده بثقة واطمئنان.
هنا بيت القاسم… شيخ كبير غني فاسد مغرور قليل الإبتسام، منكمش ومنزوٍ، اجتمع في قلبه عشقين متناحرين، كثرة الصلاة والعبادة… والخوض في أعراض الناس،حيث يكاد يراءى في جل مجالس المساء المنعقدة في سبيل دحر الروتين والعادة، والتي يصفها أردم بمجالس السوء.
ولا تقل عنه زوجته رقية إضطربا وتنوعا؛ لا تسقر ولا ثتبث على شخصية واحدة، ولا تبخل الأيام عليهم برقية جديدة بأفكار جديدة، تختلط فيها سمات الجنون ورهفة المشاعر وشيء من الحقد، تتقيها نساء القرية ويصفنها بالمجرمة؛ تعليقا على حادثة إلقاء طفلها الرضيع في غياهيب الجب لنزوة جنونية وكآبة غامضة أصبتها. يشفق أردم من تحديقها المستغرق الطويل القاسي المستطرد الذي يوشك ان يكون الموت ،في شيء من الغفلة والشجاعة والخوف؛ كأن صدمة قوية ألمت بها، جعلت أحاسيسها لا تستقر في مكانها وكل إحساس يأخد موضع أخيه.
ولا تخفى على أردم طيبتها الدفينة في العمق والتي لا سبيل إلى كسر جدار صمتها إلا بزوال أثر الصدمة.
هذا التضارب والتشتت والإضطراب في نفوس الناس هو حصة من حصص الشؤم التي تثير نفور أردم وإشفاقه من عمله؛ يمقت أشد الكره هؤلاء البشر المستوحشين، ولا خاطر له على مواجهتهم والتجاذب معهم.
أخد الطفل أردم الوعاء الخاص بالقاسم من موضع السرج اليمين للحمار، وهو سرج فريد ومريح، ومركب بدفتين واسعتين مع قدرة استعاب ما يُحمّل على الحمار من متاع وبضاعة، ولا يخلو من موضع الجلوس والإستواء.
مصنوع جميعه من الجلد مع اسفنجة محاكة موضع الجلوس، رُتّبت الأوعية بالترتيب والدقة تبعا لخط المسير وموقع المنازل. طرق الباب…!! فتح الباب…!! تحصّل أردم لقاء اللبن على شيء من الخضروات، القليل من الجزر… حبات من طماطم إجتاحها النضج… وبصلتان طُوّقتا بالعفن والهلاك… فعملية البيع والشراء لا تقوم عندهم على عملة ولا نقد؛ وإنما مبادلة الشّيء بالشيء تبعا لقوانين الميزان والقيمة، متّفِقة عليها الجماعة.
ومن حظ أهل القرية أنهم جنود التنوع والتفرد، كل بيت وشأنه من شؤون الأشياء المعينة على الحياة والعيش؛ فهذا متفرد بتربية النحل وذاك محتك بالزرع والحصاد وأخرون خلطوا الغرس والزرع وكل صالح من نبات الأرض. وقوم ينفقون أطراف النهار بنسج الملبس وكل ما هو مرتبط بالنسيج؛ والجميع يتبادلون ما لديهم لقاء حاجته، ولا يخلو ذلك من التفاوض والتجادب حتى ينعموا بالرضى وبذلك تقضى حاجتهم.
وهكذا واصل اردم وحماره الرحلة بسرعة مفتعلة ومقصودة، فكثيرا ما يرفع اردم وثيرة التوزيع لينال حظه من الوقت. دقائق وساعات قليلة تمنح أردم الإحساس بالحياة والنشوة، ويتعرض بالزهو والسعادة، لقطة من حياته اليومية تعوضه عن قسوة التكليف وتقمحه في جو النسيان والمتعة. ولا يفتأ يغوص في ساعاته تلك، حتى تأخده نوبة التوجس والخيفة من قرب موعد الإنتهاء والخلاص، وأمسى بين الحين والآخر أسيراً لشعور مزودج لا يكاد ينتهى الأول حتى يُستأنف الثاني.
والمشاهد في لقطات يومه أن لحظة المتعةوالحضوة تسابق الزمن وتعانق الرحيل، وساعة الشقاء تسقط نواميس الزمن وتجمد الحركة ويختل التوازن.
حتى استوفى أردم ما له وما عليه؛ إستأنف رحلة العودة الى البيت ممتطيا الحمار، ولا يدل ركوبه انتهاءً دون الإبتداء على شيء؛ سوى النصب والتعب، ويبدأ لسانه بالثرثرة تعويضا للإمساكه عنها بداية الأمر، محاورا صديقه الحمار في جملة من الأسئلة والمعاني بخصوص الوجود والمفارقات الشاسعة بين بني الإنسان، وقد يكون هذا الحوار عقيما، لشلل أصاب طرفا دون الآخر، ومع ذلك يفضل اردم كثرة الأخد والرد في الحديث مع كل منزوع الناصية، ويمقت اشد المقت من يملكونها دون حاجة إليها، او بالأحرى لا يحسنون تصريفها الى سواء الأمور.
ويأتي الحديث على لون مزعج من السؤال، يصبه اردم في أذن الحمار صبا ولا يأتي منه بشيء، ومن غير البعيد ان يتمكن الحمار من صياغة السؤال وسبر غائلته على نحو يشفق من إبداء الرأي ووجهات النظر والحلول.
لم يبقى الكثير من الوقت للوصول ، ولا أرى إلا أن الحمار بدأ يأخد أنفاسه بعسر، وأضحت حركته بطيئة وشبه مشلولة، والعبرات تنهل منه، كأنه يطوق الى الحرية ومغادرة البؤس والكبد، لكنه لا يستطيع… وفاقد الإرداة… عاطفته تمتص الشقاءوالنكد….يحب أردم كثيرا.
إستجاب له أردم برقة، يحس بضعفه وهزيمته، وما وجد أردم طريقة للتخفيف عن وجعه وحرمانه وضنكه إلا في قص أخبار السلف وقصصهم وبطولتهم، وهم اردم بالقول :
“يا سيدي الحمار!! أحب إحياء بصمات القدم والعهود الماضية، أقصها عليك كما أسردها على حشراتي سواء بسواء، ذلك أن خبر تلك السنوات المؤلمة هي أول حظك منها. أحوال النية والعزم والتقوى، أي نعم… كان البشر حينها
نقي الطوية!! حسَن الخلق !! حيّ الضمير !! يتساعد ويتعاون !! لا يسقط أحد، ولا يركع أحد، ولا يجثم أحد…!! الناس جميعا تسمو بهم طبائعهم الخلقية إلى الإتصال والدوبان في الذات الإلهية، وعلى اساسها تتفاعل حركة الناس وتتسق وتجتمع على كلمة الحق”.
… ضرب اردم كفا بكف في غضب وكفر، وبدأ يرفع صوته بحنق ووجع الضمير والعقل، وزاد على الأمر بالقول:
لابد مما ليس منه بد… من الضرورة فعل شيء… طبيعي ان نحاول ذلك… هذا كله هراء وزندقة… الوضع يقتفي طريق السوء والهلاك… ما الحل إذن؟
وعلى مقربة من الوصول إستغنى عن حماره وتركه يشق بقية الطريق منفردا إلى البيت.
استقبلت الأم الحمار عند مدخل الحضيرة معصوم القيادة، كأنه هو البائع الفعلي والقائم على أمور العيش والحياة، وترى الحمار بأذنيه الطويلتين في غاية البهجةوالسعادة ، إكتسحه الإستعلاء والترفع، وزاده الأمر ثقة ورفعة، وضمن موقعه وحافظ على سؤدده.
أدركت الأم بعدها ان طفلها ملتحق بركب أقرانه وأصحابه، لينزوي باللعب والمتعة الصبيانية خوفا من عمل زائد قد تضطره الأم إليه. وحقيقة الأمر أن خبر آمنة عن ابنها منجلٍ عنها وعن جميع سكان القرية، وان كانت صفية تقتفي آثره حينا بعد آخر؛ إلا أن لعنة السينما الغربية تشل تركيزها وتفقدها السطوة على العقل والتفكير.
صندوق أسود صغير آثار الفتنة في صبايا البادية، أُجبرن بلعنة العاطفة والميول الغريزي إلى الإستمتاع بليونة الثقافة المنبعثة من تلكم الصندوق، ويجهدن النفس أشد الإجهاد ليُصِبن شيئا منها، في لبسها… مأكلها… عقيدتها…تفكيرها…
ألا ما أروع حظ ذلك الصندوق وما أبهى عطيته وما أرفع سلطانه، ان استطاع جمع تلكم الصبايا للخنوع والإدعان لأمره، يستمعن لحجته، يتبجحن فيما ورّده إليهن في كل مجلس ولقاء، ألا ما أقدره ان كانت له السلطة المطلقة على تعبئة النواقص في العقول الجوفاء بما يرضي الإنتماء والعقيدة، وما أعجب تلك الأذهان المستجيبة بسرعة ولهفة.
صفية واحدة من الصبايا التي أُصبن بالعدوى، حديثهن لا يخلو من ترديد تلك اللقطات وصياغتها وفق الأهواء والميول في سداجة عميقة مضحكة، وحاجتهن إلى العزاء والشفقة أمر لا سبيل إليه أمام فورة الشعور والتعلق والإدمان.
شق أردم الطريق نحو الخلاء حاملا معه سطلا وكتابين في يديه الصغيرتين، فهو ليس بمنقطع ولا متول عن تنقيبه المستمر والدائب عن الحشرات.
هناك بالخلاء بيت قديم يوشك أن يقع، يقصده أردم كل يوم تقريبا ليأخد شيئا من العلم والمعرفة…يأوي شيخا كبيرا فقيها، آثر العزلة والإنطواء، عن حياة اللجاجة والضجيج، ينفرد بكتبه الزمن كل الزمن… أشار القدر على أردم ليحمل شعلة العلم من بعده…