الكاتب :محمد ابن المهدي / المغرب
انتهى الى سمعه خشخشات وتحركات مألوفة، أمعن فيها السمع وارتوى من وراءها بنور الطبيعة ،طبيعة جافة وفقيرة، لكنها ملهمة ، لم يعر كثير اهتمام، بل أكمل المسير المعتاد بين الصخور تحت رحمة اشعة الشمس المشتعلة والملتهبة والقاتلة أحيانا.
حرارة الصيف المفرطة الشاملة، المثيرة لنزوات الحشرات التي تستحكم لها العداء.
ها هو يتوقف قليلا ليناول شيئا من الطعام… ويقتل الظمأ بكثير من الماء، وبعد ان نال حاجته من الطاقة واستعاد بريقه ووهجه، واصل رحلة التنقيب رافعا هذه الصخرة وواضعا تلك، لعله يبحث عن شيء قريب الى قلبه، مستبد بعقله وحياته.
أ ترى، فقد شيئا ثمينا بين هذه الصخور الخشنة الملساء الملتهبة؟
أم هناك ما يثير شغفه يختبئ تحت هذه الصخور؟ او لعله مجنون؟
لم يصادف شيئا من المحاولات الأرابع الأولى مما كان منتظرا.
وإزداد توترا بفشله في مستهل الرحلة، وأكثر من الخطوات ثم اسرع فيها وانفعل طبعه وتشتت أفكاره… يرفع الصخرة تلو الأخرى في عنف واندفاع وجرأة زائدة… وهم بالبكاء ثم أمسك عنه وأطلق صرخة مديدة تصك الآذان!!
فزعت لها الشجيرات، وهاجرت من ازيزها الطيور، وتراقصت على طول نفسها الفئران والعقارب… أتراه أطلقها من فضاحة الصدمة والهلع!!
أم من فرحة الظفر والفوز؟
امتنع عن الصرخة أخيرا.
أظنه وجد شيئا ثمينا غاليا على نفسه، مستثيرا لأحاسيسه وهواجسه، محتملا به بشاعة القيظ، وموقيظا به غرائز الوحوش.
أعتقد أنه يداعب حشرة !!
الظاهر انه يحضن بين يديه معدنا نفيسا !!
لكن ما بال المعادين النفيسة والصخور، موضعها شائع ومعلوم… وعساه الأمر كذلك ، فلا أظن استحكام طفل في عقده الأول على شيء ثمين كهذا دون ان يُسبق إليه.
ولا أرى مسوغا لتهاتف أردم على اقتفاء أثر الحشرات، من وراء الصخور، وبين رفوف الأطلال، وفي قلب جدوع الأشجار؛ إلا ولع الطفل وتعلقه المفرط بالطبيعة.
رق قلبه للحشرات كأرقى ما يستسيغه ويلهمه في كثير الأحايين. وينشأ يتعزى بمدعبتها، وإمعان النظر في حركتها وقسوتها، على شظف العمل الرتيب.
يجمع أردام فنون الحشرات والوانا من العقارب، ويجتبى كثيرا وقت الظهيرة ليحقق شغفه وأحلامه كظرف ممتاز لمرعاة جودة عمله، كونه الزمن الذي تنفعل فيه الحشرات، ولا يهدا لها بال، و لا تكاد تجد مستقرا لها في أحضان الصخور.
يُكن اردم لفصل الصيف حبا كبيرا ومبالغا يكاد يلامس مرتبة العشق قياسا بالفصول الأخرى، ففها تزداد حصته من الغنائم، وتكثر المسرات، ويقل فيه عمل البيت الذي يصرفه عن مهنته.
واكتست طفولته قسوة غير يسيرة، صنعت منه طفلا ليس كبقية الأطفال، يتأبى عنهم بذكائه، وفطنته التي لا تصارعها فطنة، ورؤية ثاقبة سديدة.
فيه من الشجاعة ما يجعله ينفرد وحيدا بالبراري الخاوية المستوحشة، والخوض في قطع الليل المظلم.
وأقل ما يوصف به انه رجل راشد _ان لم يخترق عادة الرشد_ وهيئة طفل.
طريقة إلقاء الحديث تنم أحيانا عن فيلسوف مجنون يقتفي أثر الوجود، وكثير السؤال، لا تكاد تمر واقعة إلا بالغ فيها سؤلا، وألح في كشف جريرتها، محب للحشرات حتى العبادة، يشبهها بالإنسان في كثير الأوقات، وهذه المزيا توجته وزادته بسطة في النضج والرفعة والإبداع.
فَقِصر قامته، وملاحة وجهه، وتناسق مكوناته، ودقة حركته، وسرعة استعابه، وشدة انتباهه، أضفيا عليه قوة وبأسا وسلطة.
يسر به اهل القرية ويمجدونه تمجيدا يوشك ان يكون تقديسا!!
تشفق آمنة عليه من حقد وحسد الشياطين، وتلح عليه ان يتلوا ما تيسر من آيات القرءان قبل خلوده للراحة، وتضع قليلا من الملح في قلب وسادته خِفيةً، لترد عنه شر العين والحسد.
وكان لا يغادر البراري إلا على مقربة من الغروب بلحظات، حتى يطمئن الى انه جمع رطلين مليئين فنونا من الحشرات، العقارب أكثرهم عددا وأشدهم بأسا.
ويهم بالعودة والليل يوشك ان يبلُع النهار، وجعل ان يلتوي السبيل إلتواء، لا يأخده من استقامته وانما يولول فيه إتقاء لفضول أهل الريف الذين يحبون ويعشقون حشر الأنوف في ما لا يعنيهم، وتتضاعف بذلك مشقة الطريق التي ينفق فيها ساعتين بدل ساعة واحدة.
وبعد وصوله يزور الكوخ أولا، القابع شرق البيت ولا يبعد مسافة كثيرة عنه، والذي يعد الموطن الآمن والمطمئن، من ان يقتحمه أحد من أهل القبيلة لشيوع عرف الفزع والهلع والإنصراف عن الأطلال كونها لها سكان يملئون خلوتها.
واستغل اردام هذه الهفوة من الناس واتخد من الكوخ مختبرا يربي فيه أطفاله ويشملهم بالعناية، ويطمئن عليهم حينا بعد آخر، ولا تلقى الحشرات تقصير منه ناحية الغداء والمأكل، فهو أكثر من سخي في هذه الناحية، ويرتبهم حسب صنوفهم ولا يترك لهم المجال ليتعاركو ويتأكلوا ويركع القوي منهم للضعيف.
ويغلق بعدها باب الكوخ من وراءه، بعد ان رتب ما رتبه، واراح ضميره الصغير من ان تسري به غفلة او تقصيرا تجاههم.
وبدأ سباقه مع الزمن ليلتحق بالبيت في سرعة وعدوا، اتقاء لشر وتوبيخ والدته آمنه من جهة، ومن جهة أخرى ضمان حماية لأطفاله من الهلاك والضياع، ويجهد السبل لتفادي وقوع تلك المصيبة، فكثيرا ما تحاول امه استقاء خبره ومعرفة سارق وقته، لكن لا تلقى سوى اكذوبة تلوى الأخرى.
أما أخته صفية التي تكبره سنوات تردد تقريبا على مسامعه نفس الأسطوانة في قولها في حدة وخشوع وبرودة أعصاب:
” بأن وراء هذا الخلد شيء ستفوه رائحته يوما من الأيام؟”
وكان أكثر ما يثير الفزع في خلده، أخته العرافة النافذة ، دائما ما يتقي نظرتها التي تنطوي فيها الكثير من معاني الإتهام، وقلما يسقط اتهامها عبثا ،ان لم يصب ؛فغالبا يوشك الإصابة.
وأحيانا تقيد امه حركته واندفاعه بفرض عقوبات منزلية كثيفة في صورة عمل شاق، بأن تسرق جل وقته في اللعب مع الأطفال كما يدعي لها، فتثقل كاهله بخدمة المواشي عبر تطعميها بطعومها… وإزالة مخلفاتها… وتوزيعها على مختلف الضيعات لتنتفع بها الأرض لتعطي جيد الثمرة.
و يتفانى بالكثير من الجهد والطاقة، وتبلغ منه النية والعزم مبلغهما تجاه البقر لما لها من قدسية الإنتفاع، ولما يخرج من بطونها من أصناف الحلوب، ثلاث بقرات متنوعات الشكول واللون، متوسطات القد والقامة، بقرتان تُحلبان والثالثة لم يكتب لها، هذه البقرات هن المعادلة التي يبنى عليه جميع القوت، فإن حدث انقطع يوما _لا قدر الله_سيدفع ذلك آمنة الى امتهان التسول او تسلق جدران بيوت الأغنياء. ودئما ما تكثر آمنة الدعاء لزوجها( عمر) بالرحمة َونيل الجنة، ان استبقى لها هذه البقرات تدر من لبنها ما يعينها على المعيشة دافعة به الذل والردوخ.
ففي الصباح الباكر تحلب الأم الأولى وتدفع اللبن المستخلص منها للبيع، وتقع مهمة توزيع اللبن على أرادم الذي يكره أشد الكره عمل توزيع اللبن ، لكن ارضاء لأمه وحرصا على سرية حشراته القاتلة ، يدعن للأمر في خشوع وامتعاض ، وفي المساء تُلقى مهمة حلب الثانية على كاهل صفية. وبمجرد ان تملأ الصحفة تلوى الأخرى، توزعه بعدها في أوعية بلاستيكية وأخرى مشكلة من الخزف وكل من هذه مطبوع باسم صاحبه. فأهل الريف يعشقون اللبن درجة الموت، بحيث لا تطيب لهم الحياة ولا فنون الطعام في غير حضور اللبن ،فاللبن عندهم يوشك ان يبلغ مرتبة الماء في قيمته المصيرية، فكل منهم يأخد موقعه من المائدة كأنهما عدوان مصطدمان في قلب الحلبة.
ADVERTISEMENT