صلاح الحضري/ تونس
ويتلعثم “أيوب” وهو يتمتم:
ـــ ليس الأمر سهلاً كما يمكن تخيّله، أتظنني أقدر على إماتة الرجل الذي وهبني الحياة؟ لن أفعلها حتّى وإن طلب منّي ذلك بنفسه. لو حانت ساعة رحيله فلن يغيّر ذلك شيئا من واقع الأمر. انسَ ما يدور في خلدك ولا تسيء إلى شرف رجل يشهد العديد بنبل أخلاقه واستقامة سلوكه. ما نعرفه جيّدا أنّ خصومه هم من وحي خيالك وليس لهم أيّ وجود بالمرّة. تخلّص من تلك الأوهام قبل أن تحرقك.
ويصمت “بلحسن” قليلا قبل أن يقول مغتاظا:
ـــ عمومًا لست مؤهلاً لأخذ مثل هذه القرارات. سوف أناقش الأمر مع بقيّة أفراد العائلة. ما يحزّ في قلبي أن لا تقدموا له جميلا يحتاجه أو ربّما يكون في أمسّ الحاجة إليه. لو كنت صاحب القرار لعجّلت بإراحته. أنا على يقين من أن لباقي أفراد العائلة رأيا مخالفًا لما أظهرته من تعنّت وغباء.
وتنضم إليهما زوجتي ويبدو أن “أيوبًا” اختفى بعد سماع صوت خطوات تغادر المكان. إثر ذلك تتوجّه زوجتي إلى صهري “بلحسن” بالسؤال:
ـــ هل رفض القيام بما اقترحته عليه؟
ويجيب “بلحسن” على الفور:
ـــ كان متردّدا ويبدو أنه مقتنع بصواب الفكرة. لابدّ وأن نلتمس له عذرا. لقد تأخر موته أكثر من اللّزوم. أراك متردّدة كذلك. مازلت أنتظر منك تنفيذ ما اتّفقنا عليه. ليس لدينا اختيار، لم تعد حياته تنفع بأيّ شيء وهو على تلك الحالة.
ولا يتأخّر تعليق زوجتي على ما قاله “بلحسن”:
ـــ لقد نفد صبري ولم أعد قادرة على تحمّل هذا الوضع، نفّذ ما اتفقنا عليه. سوف لن تحتاج إلى خدمة أي أحد. قُمْ بحقنه هذه الليلة وأنه هذا العذاب. لا تخبر أحدا وأخصّ بالذّكر زوجتك. حذار أن ترتكب أيّة هفوة قد تفضح تورّطنا وتزيد الأمور تعقيدا.
وتنضم إليهما “هاجر” سائلة:
ـــ كيف حاله الآن؟ من كان يتوقّع أن يحدث له ما أصابه؟ حين أستحضر صورًا من الماضي فإنّي لا أذكر غير مواقفه الصّلبة الشّديد وهو يدافع عن شرعيّة وعفّة أنشطته التجاريّة. أشفق عليه كثيرا وأتمنّى أن تختم أنفاسه قريبًا حتّى يزول همّنا جميعًا. كان الله في عونك يا أختاه.
تصمت زوجتي ويجيب صهري فيقول:
ـــ كاد يموت منذ لحظات. يبدو أنّ عسر تنفّسه سيحسم أمر وفاته في ظرف سويعات. لندع الله بأن يتقبّله برحمته ولنستعدّ لهذا الحدث الجليل استعدادا يليق بمكانته بين أهله وأصدقائه. لقد صدق الأطبّاء حين أكّدوا موته في السّاعات القليلة المقبلة.
وتكمل زوجتي فتقول بنبرة حادّة :
ــ سوف يتوافد علينا العشرات إن لم أقل المئات من الأقارب والخلاّن. لا أودّ بأن تكون مراسم دفنه تقليدية وبائسة. أريدها في أبهى مظاهر الجودة والهيبة والوقار. هكذا كان يتمنّى العزيز على قلبي. سامحه الله وغفر له.
خرج جميعهم ولم أعد أسمع غير صوت أنفاسي المتواترة. اتّضح كلّ شيء وأغلق باب التأويلات. زوجتي تشترك مع “بلحسن” في ارتكاب جريمة قتلي. صدمة غير متوقّعة تفضح سلوكا لم أنتظر بُدُوره من شريكة عمري. لا يجب أن أحزن أو أن أتحسّر فتلك مواقف لا تنسب إلا لأتعس خلق الله. قد ألتمس لها عذر طول الانتظار وألم العذاب لكن لن أغفر لها مجرّد التمني بأن أموت. لابدّ وأن تدفع ثمن ما خططت له رفقة صهرها غاليا. سيكون ذلك يسيرا عليّ لو كتب لي عمر جديد.
ظللت أعدّ السّاعات والدقائق حتّى يحقن الظلام الكون بسواده لأتمكن من الهروب لا خوفا من مواجهة تداعيات الأمور وإنما ترفّعا وتفاخرا بعدم مجادلة حمقى. سؤال ألقيته وسرعان ما عثرت على جواب عاجل له. أين اختفى جميعهم كلّ هذه الساعات؟ إن أقرب جواب لواقع الأمر لا يفسّره غير اعتباري ميّتا من جملة الأموات. ومن المؤكّد أنهم يتقبّلون عزائي. لن يكون ذلك عسيرا على امرأة خطّطت لقتلي وسوف تنفذ ما عزمت عليه هذه الليلة. تحسّست نصفي الأيسر وحمدت الله أنني تعافيت من الشّلل الذي أصابه. جاهدت نفسي على الانتصاب واقفا. كنت أثقل من سيدة انتفخت بطنها بتوأم من الحجم الكبير. مازلت أحتفظ بأوراق ماليّة داخل معطفي الذي لم يكن يفارقني إلاّ خلال بضعة أيام من فصل الصّيف الحارقة. تضاعفت دقّات قلبي وتصبّب جسدي عرقًا باردًا ودعوت الله في سرّي بأن يؤمّن هروبي. ارتديت المعطف وتسلّلت إلى الحديقة كقط يستعدّ لمداهمة أحد الفئران. كان الجوّ باردا وعشرات السيارات رابضة قريبًا من المنزل. كلّ عناصر هذا المشهد تؤيّد صحّة ما تصوّرته. من المؤكّد أن خبر موتي شاع بين الجميع.
ابتعدت مسافة لا بأس بها عن منزلي فداخلني شعور بالإنعتاق من قيود كانت تضيق على أنفاسي، من كان يتخيّل أنه بإمكاني العودة إلى الحياة بمثل هذا العنفوان الذي يتدفّق مع كل قطرة من قطرات دمائي. ما اكرمك يا الله وما أوسع رحمتك. هبّت نسمات باردة تقشعّر منها الأبدان وماهي إلاّ بضع دقائق حتّى انشقّت السماء عن سيف من نار يكاد يخطف الأبصار وفجأة تهطل أمطار كالحبال لتوقظ بداخلي إحساسًا بمزيد التعلّق بنبع الحياة وبالإصرار على العيش رغم أنف كل الذين ينتظرون نهايتي على أحرّ من الجمر.