صلاح الحضري /تونس
علّمتني الحياة ألاّ أستسلم بسهولة لشرور من يوجّهون إلى صدري خناجرهم المسمومة. كم مرّة حاربت خصومًا أشدّاء عزموا على إبادتي وخرجت في نهاية المطاف منتصرًا بفضل فطنتي وفراستي التي نهلتها من تجارب غيري. وعلّمتني الحياة كذلك ألاّ أسكت عن حقّي مهما طال صراعي ضدّ من أرادوا افتكاكه عنوة. كلّ محاولات التحيّل على ممتلكاتي باءت بالفشل إلاّ واحدة فقط والتي نجح منفّذها في سرقة رصيدي البنكي بمساعدة محترفين في مثل تلك العمليّات. ما ضاع حقّ وراءه طالب وآخر المعلومات التي بُلّغت بها قبل أن أصاب بتلك الصّدمة العنيفة تفيد حسب محاميّ بأنّ البوليس الدوليّ حريص على متابعة القضيّة باهتمام شديد. أتمنّى أن تكون المدّة التي قضيّتها حبيس جدران إحدى المصحّات كافية لأسمع أخبارا مفرحة بعدها.
ما عاد الربيع ربيعًا كما عهدناه في السّابق. يبدو أنّه عقد اتفاقًا مع الفصل الذي يسبقه ليتمّ التمديد في فترة البرودة التي يحتاجها هذا الكون البديع. ممّا شجّع الناس على الالتحاق ببيوتهم في وقت مبكر. أين سأقضي ليلتي وبداخلي خوف من أن يتعرّفوا إلى مكاني ويصيبني الإحباط ؟ قد يكون اللّجوء إلى مكتبي هو أنسب مكان للاختفاء فيه. محاولة لن تكلّفني أتعابا كثيرة. مازلت أتمتّع بطاقة رهيبة مكّنتني من السّير تحت سيول الأمطار دون إحساس بالإرهاق. وصلت مكتبي. دخلته بمساعدة عوني الحراسة المكلّفين بحمايته بعدما وصلتني تهديدات في السّابق بحرقه. اتّصلت بمحاميّ مجاهدًا امتصاص الغضب الذي شرع في احتلال مساحة داخل قلبي. أخبرته بضرورة مقابلته في الحال فوعد بالمجيء. ما إن دخل عليّ مبلّل الشعر حتّى عجّل بالقول مندهشًا :
-لم أصدق أذني وأنت تتّصل بي منذ حين. لقد شاع خبر موتك بسرعة البرق عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المحطّات الإذاعية الخاصة. ماذا يحدث تحديدا؟ من له مصلحة في نشر هذا الخبر الكاذب ؟
صمتّ قليلاً قبل أن أجيبه :
-أطراف عديدون شرعوا في الاحتفال بموتي وعلى رأسهم أفراد عائلتي الموقّرة. الحكاية لا تلخّص في أسطر ولا تختزل في فقرات. اصغ إليّ وقم بتنفيذ ما سأطلبه منك. لقد ضاقت صدور جميع أفراد عائلتي ذرعًا وهم ينتظرون بفارغ الصبر لحظات توديعي لهذه الدنيا. وكان لابدّ وأن ألتمس لهم الأعذار وأجازيهم بأكثر ممّا يستحقّون. ما أطلبه منك أوّلا هو مساعدتي على تسجيل “ريبورتاج فيديو” أتوجّه فيه بكلمة شكر واعتراف بالجميل لما قدموه لي من خدمات ومن تضحيات حتّى تجاوزت محنتي وعدت ثانية إلى الحياة. متى يتسنّى لك ذلك؟ أرغب بأن يكون العمل بتقنيات عالية وبحرفيّة وجودة كبيرتين.
أطرق رأسه يبحث عن جواب ثمّ قال :
ــ أعرف تقنيّا ماهرا يشهد بكفاءته في إنجاز مثل هذه الأنشطة. متى ترغب في القيام بذلك؟ لاتقل هذه الليلة. أدرك تماما بأنّك دائمًا على عجل.
ــ سوف أدفع له أضعاف أجرته. الأمر على غاية كبيرة من العجلة. أحطه علمًا بأن المدة الزمنيّة التي سيستغرقها تسجيل الكلمة لن تتجاوز ستّ دقائق على أقصى تقدير. وقلْ له كذلك بأنّ المبلغ الذي سيحصل عليه سيكون خياليًّا.
بانت الدّهشة جليّة على محيّاه وأخرج هاتفه الجوّال وانشغل بمحاورة صديقه. لابدّ وأن تكون صدمة عائلتي رهيبة ومفزعة. لم يتأخر ردّ التقنيّ إذ سرعان ما أومأ المحامي برأسه لأفهم من وراء ذلك بأنّ صديقه في طريقه إلينا. هل أحتاج إلى كتابة ما سأقوله؟ لايتطلب الأمر ذلك. سوف أرتجل وسينبع الكلام من أعماق نفس بلغ أنينها أقصاه.
أشرق وجهي بابتسامة عريضة وقلت مضيفًا :
ــ أرغب في نقل الكلمة على الهواء مُباشرة لتتمّ مشاهدتها والاستماع إليها أثناء مراسم العزاء الكاذبة التي تقام في منزلي. بمعنى آخر أريد أن يتمّ الرّبط بين الصُورة التي ستشاهد على الملإ عبر الشاشات التلفزية العملاقة التي أمتلكها وبين الكلمة المباشرة التي سـألقيها من هذا المكان. سوف أساعدك على الفهم كي تدرك بأنّي نجوت من محاولة قتل بطلها صهري “بلحسن” وبمؤازرة زوجتي الغالية.
إعلان موتي مبيّت له ولولا أني تمكّنت من الفرار لنُفّذ المخطّط وصدّق الناس ما ورد في صفحات التواصل الاجتماعي. هلاّ استوعبت فضاعة المؤامرة وجسامة الجريمة التي كنت مستهدفا بها ؟ ما أرغب في تحقيقه يتمثّل في كشف خيوط لعبة قذرة ما كنت أتخيّل قطّ أن تصدر عن شريكة عمري.